غير مصنف

توحيد الله تعالى في الذات والصفات والأفعال

 

توحيد الله تعالى في الذات والصفات والأفعال
الحمد للهِ رَبِّ العالَمين.. له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن.. والصلاةُ والسلام على سيِّدنا محمَّد.. أمَّا بعد، فإنَّ الله تعالى يقوُل في سورة محمَّد (فاعلم أنَّه لا إله إلّا اللهُ واستغفِر لذنبك وللمؤمنينَ والمؤمنات).. وثبَت عند البخاريِّ أنَّ رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، سئِل [أيُّ العمل أفضل؟]، فقال [إيمانٌ بالله ورسوله] وفي روايةٍ عند النَّسَائِيِّ [إيمانٌ لا شَكَّ فيه]. فالعِلْمُ باللهِ تعالى وصفاتهِ أجلُّ العلومِ وأعلاها وأوجبُها وأَوْلاها لأنَّ شَرَفَ العِلْمِ بشرفِ المعلوم.. فلمَّا كان علمُ التوحيد يفيد معرفةَ الله على ما يَليقُ به ومعرفةَ رسولهِ على ما يَليقُ به وتنزيهَ اللهِ عمّا لا يجوزُ عليه وتبرئةَ الأنبياءِ عمَّا لا يَليقُ بهم كان أفضلَ من علمِ الأحكام.. ولذلك قال سيِّدنا الإمامُ الشافعيُّ [أحكمنا ذاك قبل هذا].. معناه أتقنَّا علمَ التوحيد قبل أن نُتْقِنَ فروعَ الفِقْهِ.. وقال أبو حنيفة [إعلم أنَّ الفِقْهَ في الدين أفضلُ من الفِقْهِ في الأحكام.. وأصلُ التوحيدِ وما يَصِحُّ الاعتقادُ عليه وما يَتَعَلَّقُ بالاعتقاديّات هو الفِقْهُ الأكبر].. أخرجه البيهقيُّ في كتابه [(مناقبُ الشافعيِّ)/ج1/ص457]، والحافظُ أبو القاسمِ بنُ عساكر في كتابه[(تبيينُ كَذِبِ المفتري)/ص342]..قاله في كتابه (الفِقْهُ الأبسط)..
وإنَّما سُمِّيَ هذا العِلْمُ بعِلْمِ التوحيدِ لأشهر مباحثهِ وهو توحيدُه تعالى في الذاتِ والصفاتِ والأفعالِ وعدمُ مشابهتهِ لشيءٍ من المخلوقات.. ويسمَّى بعلمِ الأصول أيضًا لأنَّه أصلُ كلِّ علمٍ ومنشأُ كلِّ سعادة.. وقد خَصَّ النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، نفسَه بالترقِّي في هذا العِلْمِ فقال [أنا أعلمُكم بالله] رواه البخاريُّ في (صحيحه).. فكان هذا العِلْمُ من أهمِّ العلومِ تحصيلًا وأحقِّها تبجيلًا وتعظيمًا.. وأمَّا قولُه تعالى (فاعلم أنَّه لا إله إلّا اللهُ واستغفِر لذنبك وللمؤمنينَ والمؤمنات) فإنَّ فيه تقديمَ الأمر بمعرفةِ التوحيد على الأمر بالاستغفار.. والسببُ فيه أنَّ معرفةَ التوحيدِ إشارةٌ إلى علمِ الأصولِ أي الاعتقادِ والاشتغالَ بالاستغفار إشارةٌ إلى علمِ الفروع أي الأحكام.. فهذه الآيةُ تَضَمَّنَتِ الحَثَّ على هذين العِلْمَيْنِ، والأصلُ يجب تقديمُه على الفَرْعِ لأنَّه ما لم يُعْلَمْ وجودُ الخالقِ فلا فائدةَ للعبد من الاشتغال بطاعته.. ولذلك قال الإمامُ أبو الحسن الأشعريُّ [أوَّلُ ما يجب على العبد العِلْمُ باللهِ ورسولهِ ودينه]، وقال أبو حامدٍ الغزاليُّ [لا تَصِحُّ العبادةُ إلّا بعد معرفةِ المعبود] روى هذَين الأثرَين أبو منصورٍ عبدُ القاهر البَغْدادِيُّ في كتابه (تفسيرُ الأسماءِ والصفات)… ومِمَّا يدلُّ على وجوبِ الإيمان بالله ورسولهِ قولُه تعالى في سورة الفتح (ومن لم يؤمن بالله ورسولهِ فإنَّا أعتدنا للكافرين سعيرًا).. ومِمَّا يدلُّ على أهَمِّيَّةِ الإيمانِ وأنَّه شرطٌ لقَبولِ الأعمالِ الصالحةِ قولُه تعالى في سورة النساء (ومن يعملْ من الصالحاتِ من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخُلون الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نقيرًا).. وأمَّا قولُه تعالى في سورة الحُجُراتِ (إنَّما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسولهِ ثمَّ لم يرتابوا) فهذه الآيةُ تفسير لكلمة [مؤمن].. وقولُه تعالى (لم يرتابوا) معناه لم يشُكُّوا..
 
والإيمانُ لا يَصِحُّ مع الشَّكِّ في الله ورسوله.. وموضوع هذا العِلْمِ النظرُ أي الاستدلالُ بخَلْقِ الله تعالى لإثباتِ وجودِه وصفاتهِ الكماليَّة.. وأمَّا تعريفُه فإنَّه عِلْمٌ يُتَكَلَّمُ فيه عن أسماءِ الله تعالى وصفاتهِ وأفعالهِ على قانون الإسلامِ لا على أصولِ الفلاسفة، فإنَّهم تكلَّموا في حقِّ الله وفي حقِّ الملائكةِ وأنبياءِ الله اعتمادًا على مجرَّد النظر والعقلِ فجعلوا العقلَ أصلًا للدين فلا يتقيَّدون بالتوفيق بين النظر العقليِّ وبين ما جاء عن الأنبياء.. فإن قيل [لم يُنْقَلْ أنَّه، صلَّى الله عليه وسلَّم، علَّم أحدًا من أصحابهِ هذا العِلْمَ ولا عن أحدٍ من أصحابهِ أنَّه تعلَّم أو علَّم غيرَه وإنَّما حدث هذا العِلْمُ بعد انقراضِهم بزمانٍ فلو كان هذا العلمُ مهمًّا في الدين لكان الأَوْلَى به الصحابةُ والتابعون]، قلنا [من قال هذه المقالةَ وهو يعني أنَّ الصحابةَ لم يشتغلوا بمعرفةِ الله على ما يَليقُ به من فَهْمِ صفاتهِ تفصيلًا وتوحيدِه وتنزيههِ عن صفاتِ الْمُحْدَثاتِ والإقرارِ بصِحَّةِ رسالةِ مُحَمَّدٍ ومعجزاتهِ بدِلالَةِ العقلِ بل أقرُّوا بذلك تقليدًا فهو جاهل بالواقع، وقد رَدَّ الله في كتابه الكريم على من قلَّد أباه في عبادة الأصنام بقولهِ في سورة الزُّخرف (إنَّا وجدنا ءاباءَنا على أمَّةٍ وإنَّا على ءاثارهم مقتدون).. والمراد بالأمَّة هنا الدِّين.. ذَمَّ الله تعالى المشركين على قولهم [إنَّا وجدنا ءاباءَنا على دِين وإنَّا على ءاثارهم مقتدون]، معناه إنَّ أولئك اقتدَوا بآبائهم في إشراكهم بغير دليل يقومُ على صِحَّةِ ذلك الدِّين.. وهذا يُفْهَمُ منه أنَّ الاستدلالَ مطلوب.. وقد حاجَّ النبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، كثيرًا المشركين واليهودَ والنصارى وذلك مِمَّا لا يَخْفَى.. من قال هذه المقالةَ وهو يعني أنَّ الصحابةَ لم يتلفَّظوا بهذه العبارات التي اصطلح عليها أهلُ هذه الصناعة نحوَ الجوهر والعَرَضِ والجائزِ والْمُحَالِ والحَدَثِ والقِدَمِ والأزليّة وغيرِها من العباراتِ التي اصطلحوا على استعمالِها مِمَّا لم تكن معروفةً في عصر الصحابةِ فهذا مسلَّم به ولكنَّنا نعارض بمثله في سائر العلومِ فإنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ ولا عن أصحابهِ التلفُّظ بالناسخِ والمنسوخِ والْمُجْمَلِ والمتشابِه وغيرِ ذلك مِمَّا هو مستعمَل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسانِ والمعارَضةِ والمناقَضةِ والركنِ والشرطِ والسببِ والعِلَّةِ والْمُسَبَّبِ وغيرِها مِمَّا هو مستعمَل عند الفقهاء، ولا بالجَرْحِ والتعديلِ والآحادِ والمشهورِ والمتواتِر والصحيحِ والغريبِ وغيرِ ذلك مِمَّا هو مستعمَل عند أهلِ الحديث، فهل لقائلٍ أن يقولَ يجب نَبْذُ هذه العلومِ لهذه العِلَّةِ؟!!.. لا يَصِحُّ أن يقال إنَّ هذه العلومَ تُرْفَضُ ولا يُشْتَغَلُ بها لأنَّ الصحابةَ ما كانوا يتكلَّمون بهذه العبارات، على أنَّ عصرَ النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، لم تظهر فيه الأهواءُ والبدعُ فلم تَدْعُ الحاجةُ إلى هذه الصنعة].
 
والرَّدُّ على أهل البدَع بدأ قبل انقراضِ عصر الصحابة.. فقد رَدَّ عبدُ الله بنُ العَبَّاسِ وابنُ عُمَرَ على المعتزلة.. ومن التابعين من رَدَّ عليهم كعُمَرَ بنِ عبدِ العزيز والحسنِ بنِ مُحَمَّدِ ابنِ الحنفيَّة.. وقد نشأت بعدَهم إلى عصرنا فِرَقٌ ضالَّة كثيرةٌ فاحتيج إلى هذه الاصطلاحاتِ ردًّا عليهم ودفعًا لشُبَهِهِم.. ومن هنا نفهم رَدَّ الإمامِ أبي حنيفةَ رضي الله عنه [إنَّما مَثَلُهُمْ كأناسٍ ليس بحضرتِهم من يقاتلُهم فما احتاجوا إلى إبرازِ السلاح، وإنَّما مَثَلُنَا كأناسٍ بحضرتِهم مَنْ يستبيحُ دماءَهم فاحتجنا إلى إبرازِ السلاح]. ومِمَّا ورد في بيانِ فضل العقيدة أنَّ النبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، قال [لا يدخلُ الجَنَّةَ إلّا نفسٌ مسلمة)] وهو حديث مُتَّفَقٌ عليه.. وفي رواية عند التِّرْمِذِيِّ [لا يدخلُ الجَنَّةَ إلّا نفسٌ مؤمنة] وقال أيضًا [والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لا يسمعُ بي أحَدٌ من هذه الأمَّةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثمَّ يموتُ ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ به إلّا كان من أصحاب النار] رواه مسلم في[(صحيحه)/كتاب الإيمان]..
 
ويسمَّى علمُ العقيدة بعلم الكلام لكَثرة المخالفين فيه من المنتسبينَ إلى الإسلام وطولِ الكلام مع كلِّ طائفةٍ ليرتدعوا عن اعتقاداتهم الفاسدة.. وقال بعضُ علماءِ أهل السُّنَّةِ [سمِّي بعلم الكلام لأنَّ أكثرَ ما تكلَّم المتكلِّمون فيه كلامُ الله، تبارك وتعالى، على غير صوابٍ منهم وعلى صوابٍ مِنَّا]. وفي (التبصِرة البغداديَّة) أنَّ أوَّلَ متكلِّمي أهلِ السُّنَّةِ من الفقهاءِ أبو حنيفة.. وقد ألَّف في هذا العِلم (الفِقْهَ الأكبر) و (الرسالةَ في نصرة أهل السُّنَّةِ).. وقد ناظر أبو حنيفةَ الخوارجَ والروافضَ والقَدَرِيَّة والدهريَّة، وكانت دعاتُهم بالبصرة، فسافر إليها نَيِّفًا وعشرينَ مَرَّةً وفضَّهم بالأدلّةِ الباهرة.. وبلغ في علم الكلام أي علمِ التوحيد إلى أن صار المشارَ إليه بين الأنام واقتفى به تلامذتُه الأعلام.. وعن الإمامِ أبي عبدِ الله الصَّيْرَمِيِّ أنَّ الإمامَ أبا حنيفةَ كان مُتَكَلِّمَ هذه الأمَّةِ في زمانه وفقيهَهم في الحلال والحرام.. واعلم بأنَّ ما ورد من ذَمِّ علمِ الكلام عن الأئمَّةِ كالشافعيِّ وغيرِه فالمراد بذلك الكلامُ المذمومُ وليس المرادُ الكلامَ الممدوح.. الشافعيُّ ذمَّ الكلامَ الذي لأهلِ البدعةِ كالمعتزلة والقَدَرِيَّةِ وأشباهِهم لأنَّهم تكلَّموا في ذاتِ الله وفي صفاتهِ وكلامهِ بالباطل.. فالشافعيُّ وغيرُه من الأئمَّةِ الذين ورد عنهم ذمُّ الكلام مرادُهم ما كان من كلام أهلِ البدَع المنحرفين وليس مرادُهم كلامَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الذي قرَّروه في معرفةِ الله تعالى ومعرفةِ صفاتهِ فإنَّ هذا حَقٌّ لأنّ السلفَ الصالحَ كانوا عليه.. فالإمامُ الغزاليُّ أورد في كتابهِ (إحياءُ علوم الدين) بابًا خاصًّا في صفاتِ الله تعالى حتَّى إنَّه قال فيه [وهذا مِمَّا يجب تعليمُه للصغار].. وكذلك سائرُ ما يتعلَّق من أحكام العقيدة الأساسيَّة.. وقد مَرَّ أنَّه قال [لا تَصِحُّ العبادةُ إلّا بعد معرفةِ المعبود]. وقد سمَّى الإمامُ أبو حنيفةَ العلمَ المتعلِّق باللهِ ورسولهِ [الفِقْهَ الأكبر] والعلمَ المتعلِّق بالأحكام [الفِقْهَ الأصغر].. وقال الإمام ابنُ عساكر [والكلام المذموم كلامُ أصحاب الأهواء، فأمَّا الكلامُ الموافقُ للكتابِ والسُّنَّةِ الموضِّح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود] وقد كان الشافعيُّ يحسِنه ويتقِنه، وقد تكلَّم مع غير واحدٍ ممَّن ابتدع فأقام الحُجَّةَ عليه حتَّى انقطع..ا يقول الله تعالى في سورة النحل (وجادِلهم بالتي هي أحسن).. فالجدالُ مطلوبٌ إذا كان في محلِّه ولا بُدَّ من معرفته لأهلِ الحَقِّ لإفحامِ المخالفين.. وأمَّا الجدالُ في الباطل فهو مذموم..
 
ففي الكلام المحمود الذي هو كلام أهلِ السُّنَّةِ قال بعضهم
عاب الكلامَ أناسٌ لا خَلاقَ لهم ـــ وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضَرَّ شمسَ الضحى في الأفْق ساطعةً ـــ أنْ لا يرى ضوءَها من ليس ذا بصر.
 
وقد قرَّر العلماءُ أنَّ أوَّلَ ما يجب على الإنسان تعلُّمُه توحيدُ الله لأنَّه أفضلُ الأعمال على الإطلاق ومِنْ دونهِ لا يقبلُ الله من عبدٍ طاعة.. لا يقبلُ الله من الكافر أيَّةَ حسنةٍ يعملها.. مهما عمِل الكافرُ من حسناتٍ فإنَّ اللهَ لا يقبلُها منه.. يقول الله تعالى في سورة الفُرقان (وقدِمنا إلى ما عمِلوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا.. أصحابُ الجَنَّةِ يومئذٍ خيرٌ مستقَرًّا وأحسنُ مَقيلا).. وفي سورة إبراهيم (مَثَلُ الذين كفروا بربِّهم أعمالُهم كرمادٍ اشتدَّت به الريحُ في يوم عاصِف، لا يقدِرون مما كسَبوا على شيء، ذلك هو الضلالُ البعيد).. وفي سورة النور (والذين كفروا أعمالُهم كسرابٍ بقِيعَةٍ يحسَبُه الظمآنُ ماءً حتَّى إذا جاءه لم يجدْه شيئًا ووجد اللهَ عنده فوفّاه حسابَه، والله سريعُ الحساب)..
 
لقد تقرَّر بنتيجةِ هذا البحثِ الموجَز أنَّ علمَ التوحيدِ الذي به يُعْرَفُ اللهُ تعالى على ما يَليقُ به هو العِلْمُ المقدَّم على سائر العلوم لتعلُّقه بأشرفِ المعلومات، وهو الله تعالى، وأنَّ علمَ الكلامِ هو علمُ تقريرِ الأدلّةِ العقليّةِ والنقليّةِ التي بها تُرَدُّ شُبَهُ المضلِّلين والمشكِّكين.. فهو علمُ نصرةِ علمِ العقيدة.. فمن وَفَّقَهُ الله لتعلُّمه بنيّةٍ خالصةٍ فقد أنعم الله عليه بنعمةٍ عظيمة.. وفَّقَنا الله لِمَا يحبُّه ويرضاه.. والحمد للهِ رَبِّ العالَمين..

بيان أهمية علم التوحيد وأنه أفضل العلوم

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الواحد الأحد، المنزه عن الجسم والحد، والزمان والمكان سبحانه لا يُمسُّ ولا يحس ولا يُجسُّ، ‏ولا يقاس صفات ذاته بالناس، ولا شريك له في الملك ولا نظير، ولا مشير له في الحكم ولا وزير، مهما ‏تصورت ببالك فالله لا يشبه ذلك. ونشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المرتضى بعثه الله بالنور الساطع ‏والضياء اللامع فبلَّغ عن الله عز وجل الرسالة، وأوضح فيما دعا إليه الدلالة فكان في اتّباع سنته لزوم ‏الهدى، وفى قبول ما أتى به وجود السنا فصلى الله عليه وعلى ءاله وصحبه النجباء.‏
 
أما بعد، فإن الله اختار محمداً من عباده فبعثه إلى خلقه بالحق بشيراً ومن النار لمن زاغ عن ‏سبيله نذيراً، ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته، قال الله تعالى في كتابه المبين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا ‏لِيَعْبُدُونِ{56}) سورة الذاريات، أي خلقهم ليأمرهم بعبادته، وكان أول مـا دعاهم إليه رسول الله هو عبادة الله تعالى وتوحيده وأن لا يشرك به شىء، فلذلك كان علم التوحيد أجلّ العلوم ‏وأولاها تحصيلاً، وكان اهتمام علماء السلف والخلف -أي الذين جاؤوا بعد السلف- بهذا العلم كبيراً.، وكلا ‏الفريقين من السلف والخلف كانت بحوزتهم الأدلة العقلية للرد عنى المبتدعة المخالفين لأهل الحق، واشتهر عن ‏الخلف إبراز الدلائل النيرة والحجج الباهرة لإثبات وجوده تعالى وحدوث كل ما سواه والذب عن السنة ‏بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها، وسبب ذلك انتشار المبتدعة ‏المنتسبين إلى الإسلام والفلاسفة والملاحدة من غير المسلمين، فنشر هؤلاء المخالفون ءاراءهم‎ ‎الفاسدة التي لم ‏تكن موجودة في عهد الصحابة ومن جاء بعدهم بزمان وألقوها على مسامع المسلمين، فقام أهل الحق الذين ‏عُرفوا باسم علماء الكلام في رد تلك الشبه باستحداث اصطلاحات وطرق جديدة لمقارعة المخالفين إما لكون ‏المخالفين لا يأخذون بالقرءان كالفلاسفة والملاحدة، وإما لكونهم من أهل الأهواء الذين اعتنقوا البدعة ‏وصاروا ينافحون عنها بما زعموه أدلة عقلية.
 
واستمر أهل الحق في نصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن ‏تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة حتى ظهر في النصف الثاني من القرن السابع الهجري ‏رجل زعم أنه على مذهب الإمام أحمد مع مخالفته له في الأصول والفروع، وقد تمكن هذا الرجل ‏وهو ابن تيمية من اجتلاب ثقة بعض شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه، وكان طلق اللسان، فإذا هو يجري ‏على خطة مدبرة في إحلال المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف محل مذهب أهل السنة، ولم يعلم أن ‏مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية بلغ من التمحيص العلمي على تعاقب القرون بأيدي نوابغ أهل ‏النظر والفقه في الدين ممن لا يعد هذا الحشوي -أي ابن تيميه- من صغار تلامذتهم إلى مستوى من قوة الحجج ‏بحيث إذا حاول مثله أن يصطدم بها لا يقع إلا على أم رأسه، وكان له أتباع ينعقون ولا يعون، وخلفهم أتباع ‏وهكذا إلى أن وصل النعيق إلى رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب النجدي إمام الوهابية. الذي كان ابتداء ظهور ‏أمره في الشرق سنة 1143هـ، واشتهر أمره بعد 1170 هـ بنجد وقراها، وقد ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار ‏منه زعم أنها من الكتاب والسنة ، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها وابتدع من عند نفسه بدعا أخرى، ‏وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما شاهدوا أفعاله وسمعوا من أقواله التي ‏خالف في الشرع، حتى قال فيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار ما نصّه (1)مطلب في أتباع ابن عبد ‏الوهاب الخوارج في زماننا: قوله: “ويكفرون أصحاب نبينا (صلّى الله عليه وسلّم)” علمت أن هذا غير شرط ‏في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، والا فيكفي فيهم اعتقادهم ‏كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع محمد بن عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على ‏الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم ‏مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنّة قتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم ‏عساكرالمسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف“. ا.هـ.
 
وقال الشيخ أحمد الصاوي المالكي ما نصه (2)‏‏”وقيل هذه الآية- يعني قوله تعالى ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{6} ) سورة فاطر- نزلت ‏في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد الآن ‏في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية يحسبون أنهم على شئ ألا- إنهم هم الكاذبون استحوذ ‏عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، نسأل الله ‏الكريم أن يقطع دابرهم” انتهى كلام الصاوي.‏
 
ومن شؤم الطائفة الوهابية أنها تذم علم الكلام الممدوح وأهله، وما ذاك إلا لأن الحجج العقلية ‏والبراهين القطعية تهدم على الوهابية عقيدتهم التي هي عقيدة التشبيه والتجسيم كقولهم في حق الله- بالجهة ‏والجلوس والحركة والكيفية وغير ذلك من انحرافهم، وتمسكوا بشبه لا تنهض دليلاً لما ذهبوا إليه كقولهم إن الصحابة لم يشتغلوا به وإن بعض العلماء ذم المشتغلين بهذا العلم وما ‏إلى ذلك من الشبه التي سيُجاب عنها في هذا الكتاب إن شاء الله.‏ ‏ ولما كثر الخوض في هذا الموضوع والتبس الأمر على بعض الناس، ولما كان الكلام منه ممدوح ومنه ‏مذموم أردنا تبيان الحق وجلاء الأمر ليكون المؤمن على بينه من أمره.‏ ‏
 
بيان أهمية علم التوحيد وأنه أفضل العلوم
 
علم التوحيد هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا ‏‏يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما ‏يليق ‏به وما لا يجوز عليه وما يجب له من أن ُيعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال الإمام الجنيد ‏البغدادي سيد ‏الطائفة الصوفية “التوحيد إفراد القديم من المُحدث(3).‏ وقال الشيخ أبو علي الرُّوذباري (4) تلميذ الجنيد “التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل ‏‏وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله ‏‏تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11} سورة الشورى“اهـ.‏
 
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري (5)أهل السنة فسروا التوحيد ‏بنفي ‏التشبيهوالتعطيل“ـ واعلم أن شرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقا بأشرف المعلومات التي هي أصول ‏الدين ‏أي معرفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والعلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها ‏وأوجبها ‏وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، وقد خصّ النبي نفسه ‏بالترقي في هذا العلم فقال “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له(6) فكان هذا العلم ‏‏ أهمّ العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيماً قال تعالى “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ” ‏‏‏سورة محمد/19، قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم ‏الأصول، ‏وتعلق الاستغفار لعلم الفروع.‏ وروى البخاري في صحيحه (7)عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ‏‏سُئِلَ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله“.‏ وصح عن جُندُب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي ونحن فتيان حَزاوِرَة ‏‏(8)، ‏فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانا، رواه ابن ماجه (9).‏
 
فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، ‏‏قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأبسط (10)الفقه في الدين أفضل من الفقه في ‏‏الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها” اهـ.‏ وقال أيضاً (11)أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه ‏الأكبر” ‏اهـ.‏ وفي فتاوى قاضيخان (12) على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ما يدلى على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعليمه للناس، فقد ورد فيه ما نصه ‏”تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم ‏الأمور، ‏وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك، قال الله تعالى (‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ ‏الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55}) سورة الذاريات، وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن ‏يعلّوا جماعتهم ‏شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق، وإذا علموا في جماعتهم ‏مبتدعاً أرشدوه وإن كان ‏داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن ‏البلدة إن لم يمتنع، وعلى العالم ‏إذا علم من قاض أو من ءاخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ‏ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز ‏اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوامّ ‏حقّاً ويعسر إزالته!” اهـ.‏
 
قال الحافظ ابن عساكر (13)أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن ‏‏إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ ‏‏فقال: إن فرقت بين مصل ومصل وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات وذاك يصلي وقلبه ‏‏حاضر ففرق بين عالم وعالم، هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها وهذا يقاوم كل عدو ‏‏للإسلام ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام ‏‏معينين وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين وهو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في ‏البلد ‏قانون معروف إذا أشكل خراج بقعة رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب ‏العارفين به، ‏فرواة الأخبار خزان الشرع والقراء من الخواص والفقهاء حفظة الشرع وعلماء الأصول ‏هم الذين يعرفون ‏ما يجب ويستحيل و يجوز في حق الصانع وهم الأقلون اليوم.‏ رمى الدهر بالفتيان حتى كأنهم ‏ بأكناف أطراف السماء نجوم‏ وقد كنا نعدهم قليلا ‏ ‏ فقد صاروا أقل من القليل‏ ‏ قلت: عناية الناس بعلم الأصول إذ ليس فيه وقف ورفق يأكلونه فميلهم إلى ما يقربهم من الدنيا ‏ويوليهم الأوقاف ‏والقضاء والطريق أيضاً مشكل فهو علم عزيز والطريق إلى الأعزة عزيز وقد يرى ‏بعض الجواهر أثبت له درة من ‏العز فلا توجد إلا عند الخواص فهو وإن كان حجراً غير مبتذل فما ‏الظن بجوهر المعرفة.‏ أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي وأبو الحسن علي ابن أحمد الغساني قالا: ثنا أبو ‏بكر أحمد ‏بن علي بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه الزهري قال: ثنا ‏الحسن بن الحسين ‏الشافعي الهمذاني قال: أنشدني أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم لبعضهم:‏ أيها المقتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ثم اغفلت منزل ‏الأحكام” ‏اهـ ‏
 
فظهر من ذلك أن صرف الهمّة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن ‏العبادة لا تصح ‏إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي رحمه الله تعالى، وذلك لأنه من يشبّه الله تعالى ‏بشئ ما لم تصح عبادته لأنه ‏يعبد شيئاً تخيّله وتوهمه في مخيلته وأوهامه، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ‏آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ‏النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا ‏أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6}) (سورة ‏التحريم) قال سيدنا علي رضي الله عنه في تفسير هذه ‏الآية “علّموا أنفسكم وأهليكم الخير” رواه الحاكم في ‏‏”المستدرك (14)، يعني أن حفظ النفس ‏والأهل من النار التي عظَّم الله أمرها يكون بتعلم الأمور الدينية أي معرفة ما فرض الله فعله أو اجتنابه أي الواجبات والمحرمات وذلك كي لا يقع في عبادة ‏فاسدةٍ، ‏وبتعلم ما يجوز اعتقاده وما لا يجوز وذلك كي لا يقع في التشبيه والتمثيل والكفر والضلال.‏ فلأهمية هذا الأمر العظيم كان لنا الاعتناء الشديد بهذا العلم، وقد ‏لاقينا من ‏جرَّاء ذلك معارضة من الذين لا ينزلون الأمور بمراتبها لا سيما من مشبهة هذا العصر وهم ‏الوهابية الذين ‏ينشرون عقيدة المجسمة التي أخذوها من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ويحاربون ‏عقيدة أهل السنة ‏متسترين بستار السلفية والسلف براء منهم، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن ينصرون ‏عقيدة أهل الحق ‏المؤيَّدة بالكتاب والسنة والأدلة العقلية، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.‏
__________________________
(1) (أنظر كتابه رد المحتار على الدر المختار (4/262) كتاب البغاة )‏
(2) (كتاب “حاشية العلامة الصاوي على تفسير الجلالين المجلد الخامس ص 78 )
(3) الرسالة القشيرية (ص/ 3).‏
(4) المصدر السابق (ص/ 5).‏
(5) فتح الباري (13/ 344).‏
(6) بوّب البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. ” أنا أعلمكم ‏بالله “‏ ‏
(7) صحيح البخاري:كتاب الإيمان:باب من قال إن الإيمان هو العمل.‏
(8) حزاورة: جمع حَزَوَّر وهو الغلام إذا اشتد وقوي.‏
(9) سنن ابن ماجه: المقدمة.‏
(10) إشارات المرام (ص/ 28- 29).‏
(11) المصدر السابق.‏ ‏
(12) فتاوى قاضيخان (مطبوعة بهامش الفتاوى الهندية): الباب الثاني فيما يكون كفراً من المسلم ‏‏وما لا يكون (2/ 320).‏ ‏
(13) تبيين كذب المفتري (ص/ 356- 357).‏
(14) المستدرك (2/ 494).‏‏
أهمية الدليل العقلي وبيان أن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول
اعلم أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما جاء به الشرع ولا يتناقض معه، والعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع، إذ أن الشرع لا يأتي إلا بمجوَّزات العقل كما قال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي (الفقيه والمتفقه/ص94) الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا اهـ. فسنبين في هذا الباب أن الله منزه عن الجهة والمكان بالأدلة العقلية والبراهين القطعية لدحض مزاعم الوهابية وغيرهم من الفرق المنحرفة عن أهل السنة والجماعة، وإليك بيان ذلك من أقوال العلماء:

 

 
قال الشيخ أبو سعيد المتولي الشافعي الأشعري (478هـ) في كتابه “الغُنية في أصول الدين” (ص73-74-75) ما نصه والغرض من هذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافًا للكرّامية والحشوية والمشبهة الذين قالوا إن لله جهة فوق. وأطلق بعضهم القول بأنه جالس على العرش مستقر عليه، تعالى الله عن قولهم. والدليل على أنه مستغن عن المحل أنه لو افتقر إلى المحل لزم أن يكون المحل قديمًا لأنه قديم، أو يكون حادثًا كما أن المحل حادث، وكلاهما كفر. والدليل عليه أنه لو كان على العرش على ما زعموا، لكان لا يخلو إما أن يكون مِثْل العرش أو أصغر منه أو أكبر، وفي جميع ذلك إثبات التقدير والحد والنهاية وهو كفر. والدليل عليه أنه لو كان في جهة وقدرنا شخصًا أعطاه الله تعالى قوة عظيمة واشتغل بقطع المسافة والصعود إلى فوق لا يخلو إما أن يصل إليه وقتًا ما أو لا يصل إليه. فإن قالوا لا يصل إليه فهو قول بنفي الصانع لأن كل موجودين بينهما مسافة معلومة، وأحدهما لا يزال يقطع تلك المسافة ولا يصل إليه يدل على أنه ليس بموجود. فإن قالوا يجوز أن يصل إليه ويحاذيه فيجوز أن يماسه أيضًا، ويلزم من ذلك كفران: أحدهما: قدم العالم، لأنا نستدل على حدوث العالم بالافتراق والاجتماع. والثاني: اثبات الولد والزوجة” اهـ.
وقال الشيخ أبو حامد الغزالي الشافعي الأشعري (505هـ) في كتابه “إحياء علوم الدين” (ج1/ص127) ما نصه الأصل الرابع: العلم بأنه تعالى ليس بجوهر يتحيَّز، بل يتعالى ويتقدّس عن مناسبة الحيّز، وبُرهانُه أن كل جوهر متحيز فهو مختص بحيِّزه، ولا يخلو من أن يكون ساكنًا فيه أو متحركًا عنه، فلا يخلو عن الحركة أو السكون وهما حادثان، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث اهـ.
وذكر الشيخ أبو المعين النسفي الحنفي (508هـ) في كتابه “تبصرة الأدلة في أصول الدين” (ج1/ص174ـ183) براهين قاطعة وحججًا ساطعة في رد شبه المجسمة السابقين والوهابية المعاصرين الذين يزعمون أنَّ الله اتخذ العرش مستقرًّا ومسكنًا له وكرسيًا يجلس عليه والعياذ بالله من الكفر والخذلان، فقال ما نصه “وللمجسمة شبه ثلاثة:

 

 
* الأولى قولهم إن الموجودَيْن القائِميْن بالذات لا يخلُوان من أن يكون كل واحد منهما بِجهةٍ من صاحبه.
فنقول وبالله التوفيق: الموجودان القائمان بالذات كل واحد منهما في الشاهد يجوز أن يكون فوق صاحبه والآخر تحته، أتجوّزون هذا في الحق تعالى؟ فإن قالوا: نعم تركوا مذهبهم، فإنهم لا يجوزون أن يكون البارىء جل وعلا تحت العالم، وإن قالوا: لا، أبطلوا دليلهم، فإن قالوا: إنما لم نجوز هذا في الحق تعالى لأن جهة تحت جهة ذم ونقيصة، والبارىء جل وعلا منزه عن النقائص وأوصاف الذم. قيل لهم: فإذًا أثبتم التفرقة بين الشاهد والحق عند وجود دليل التفرقة حيث لم تجوزوا أن يكون الحق تعالى بجهة تحت وإن كان ذلك في الشاهد جائزًا لثبوت دليل التفرقة وهو استحالة النقيصة ووصف الذم على الحق وجواز ذلك على الشاهد، فلم قلتم إن دليل التفرقة فيما نحن فيه لم يوجد؟ بل وجد لِمَا مرّ أنه يوجب الحدوث وهو ممتنع على الحق، جائز بل واجب على الشاهد.
ثم نقول لهم: كون جهة تحت جهة ذم ونقيصة غير مسلَّم، إذ لا نقيصة في ذلك ولا رفعة في علو المكان، إذ كم من حارس فوق السطح وأمير في البيت، وطليعة على ما ارتفع من الأماكن وسلطان في ما انهبط من الأمكنة. ثم نقول لهم: كل قائم بالذات في الشاهد جوهر وكل جوهر قائم بالذات، أفتستدلون بذلك على أن الحق تعالى جوهر؟!، فإن قالوا: نعم فقد تركوا مذهبهم ووافقوا النصارى؛ وإن قالوا: لا، نقضوا دليلهم. ثم نقول لهم: إنما يجب التعدية من الشاهد إلى الحق إذا تعلق أحد الأمرين بالآخر تعلق العلة بالمعلول كما في العلم والعالِم والحركة والمتحرك، وذلك مما لا يقتصر على مجرد الوجود بل يشترط فيه زيادة شرط وهو أن يستحيل إضافته إلى غيره، ألا يرى أن العالِم كما لا ينفك عن العلم والعلم عن العالِم يستحيل إضافة كونه عالِمًا إلى شىء وراء العلم، فعلم أنه كان عالمًا لأن له علمًا، فوجبت التعدية إلى الحق والجوهرية مع القيام بالذات وإن كانا لا ينفكان في الشاهد، ولكن لما لم يكن جوهرًا لقيامه بالذات بل لكونه أصلاً يتركب منه الجسم، لم يجب تعدية كونه جوهرًا بتعدي كونه قائمًا بالذات، وإذا كان الأمر كذلك فلم قلتم إنهما كانا في الشاهد موجودين قائمين بالذات لأن كل واحد منهما بجهة من صاحبه، أو كان كل واحد منهما بجهة صاحبه لأنهما موجودان قائمان بالذات؟ ثم نقول لهم: لو كانا موجودين قائمين بالذات لأن كل واحد منهما بجهة من صاحبه، لكان الموجود القائم بالذات بالجهة وإن لم يكن معه غيره، ولكان البارىء جلَّ وعلا في الأزل بجهة لأنه كان موجودًا قائمًا بالذات، وهذا محال، إذ الجهة لا تثبت إلا باعتبار غير، ألا يرى أن الجهات كلها محصورة على الست وهي: فوق وتحت وخلف وقدام وعن يمين وعن يسار، وكل جهة منها لن يتصور ثبوتها إلا بمقابلة غيرها، والكل يتركب من الفرد، فإذا كان كل فرد من الجهات لن يتصور إلا بين اثنين، فكان حكم كلية الجهات كذلك لما مَرَّ من حصول المعرفة بالكليات بواسطة الجزئيات، وإذا كان الأمر كذلك كان تعليق الجهة بالوجود والقيام بالذات مع أن كل واحد منهما يثبت باعتبار النفس دون الغير والجهة لا تثبت إلا باعتبار الغير، جهلاً بالحقائق. ثم يقال لهم: أتزعمون أن القائمين بالذات يكون كل واحد منهما بجهة من صاحبه على الإِطلاق، أم بشريطة كون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا؟ فإن قالوا: نعم على الإِطلاق، فلا نسلم، وما استدلوا به من الشاهد فهما محدودان متناهيان. وإن قالوا: نقول ذلك بشريطة كون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا، فمسلَّم، ولكن لم قلتم إن البارىء محدود متناه! ثم إنا قد أقمنا الدلالة على استحالة كونه محدودًا متناهيًا، والله الموفِق.

 

 
* وأما الشبهة الثانية التي تعلقوا بها أنه تعالى كان ولا عَالَم ثم خلقه، أخلقه في ذاته أم خارج ذاته؟ وكيفما كان فقد تحققت الجهة. فنقول وبالله التوفيق: إن هذا شَىءٌ بنيتم على ما تضمرون من عقيدتكم الفاسدة أنه تعالى متبعض متجزىء، وإن كنتم تتبرّءُون منه عند قيام الدلالة على بطلان تلك المقالة وتزعمون أنا نعني بالجسم القائم بالذات، وهذه المسألة بنفس المقالة. وما تتمسكون به من الدلالة يهتك عليكم ما أَسْبَلتم من أستاركم ويبدي عن مكنون أسراركم، أما بنفس المقالة فلأن شغل جميع العرش مع عظمته لن يكون إلا بمتبعض متجزىء على ما قررنا، وأما بالدلالة فلأن الداخل والخارج لن يكون إلا ما هو متبعض متجزىء، وقيام الدلالة وانضمام ظاهر إجماعكم على بطلان ذلك يغنينا عن الإِطالة في إفساد هذه الشبهة والله الموفِق. وربما يقلبون هذا الكلام ويقولون بأنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم، وليس بداخل العالَم فكان خارجًا منه، وهذا يوجب كونه بجهة منه. والجواب عن هذا الكلام على نحو ما أجبنا عن الشبهة المتقدمة أن الموصوف بالدخول والخروج هو الجسم المتبعض المتجزىء، فأما ما لا تبعض له ولا تجزؤ فلا يوصف بكونه داخلاً ولا خارجًا، ألا ترى أن العرض القائم بجوهر لا يوصف بكونه داخلاً فيه ولا خارجًا منه؟ فكذا القديم لَمّا لم يكن جسمًا لا يوصف بذلك، فكان هذا الكلام أيضًا مبنيًا على ما يضمرون من عقيدتهم الفاسدة. وكذا الجواب عما يتعلق به بعضهم أنه تعالى لما كان موجودًا إما أن يكون مماسًّا للعالم أو مباينًا عنه، وأيهما كان ففيه إثبات الجهة، أنَّ ما ذكره من وصف الجسم، وقد قامت الدلالة على بطلان كونه جسمًا، ألا ترى أن العَرَض لا يوصف بكونه مماسًّا للجوهر ولا مباينًا له؟ وهذا كله لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحق الوجود، بل هو من لواحق التبعض والتجزؤ والتناهي، وهي كلها محال على القديم تعالى، والله الموفِق.

 

 
* وأما حل الشبهة الثالثة وهي أن الموجودَين لا يعقلان موجودَين إلا وأن يكون أحدهما بجهة صاحبه أو بحيث هو. قلنا: هذا منكم تقسيم للموجودَين، وليس من ضرورة الوجود أحدُ الأمرين، لأنهما إن كانا موجودين لأن أحدهما بجهة صاحبه ينبغي ألا يكون الجوهر وما قام به من العرض موجودَين لأن أحدهما ليس بجهة صاحبه، وإن كانا موجودَين لأن أحدهما بحيث صاحبه، ينبغي ألا يكون الجوهران موجودَين لأن أحدهما ليس بحيث صاحبه، وقد مَرّ ما يوجب بطلان هذا في إبطال قول النصارى: إن الموجود إما أن يكون جوهرًا وإما أن يكون جسمًا وإما أن يكون عرَضًا، والبارىء جل وعلا ليس بجسم ولا عَرَض، فدل أنه جوهر، فإن بطل ذاك بطل هذا، وإن صح هذا صح ذاك، بل كِلا الأمرين باطل لما مَرَّ. والله الموفِّق. وما يزعمون أنه لا عَدَمَ أشد تحققًا من نفي المذكور من الجهات الست وما لا جهة له لا يتصور وجوده. فنقول: ذكر أبو إسحق الإِسفرايني أن السلطان ـ يعني به السلطان محمود بن سُبُكتِكين ـ قَبلَ هذا السؤال من القوم من الكرَّامية وألقاه على ابن فورَك، قال وكتب به ابن فورك إليّ ولم يكتب بماذا أجاب، ثم اشتغل أبو إسحق بالجواب، ولم يأت بما هو انفصال عن هذا السؤال بل أتى بما هو ابتداء دليل في المسئلة من أنه لو كان بجهة لكان محدودًا، وما جاز عليه التحديد جاز عليه الانقسام والتجزؤ، ولأن ما جاز عليه الجهة جاز عليه الوصل والتركيب وهو أن تتصل به الأجسام، وذا باطل بالإِجماع، ولأنه لو جازت عليه الجهة لجازت إحاطة الأجسام به على نحو ما قررنا، وهذا كله ابتداء الدليل وليس بدفع للسؤال. وللكرّامي أن يقول: لو كان ما ذكرتَ من الأدلة يوجب بطلان القول بالجهة لما في إثباتها من إثبات أمارات الحدث، فما ذكرت من الدليل يوجب القول بالجهة لما في الامتناع عن القول به إثبات عدمه، فكما لا يجوز إثبات حدوث ما ثبت قدمه بالدليل لا يجوز نفي ما ثبت وجوده بالدليل. وحلُّ هذا الإِشكال أن يقال: إن النفي عن الجهات كلها يوجب عدم ما هو بجهة من النافي أم عدم ما ليس بجهة منه؟ فإن قال: عدم ما هو بجهة منه، قلنا: نعم، ولكن لم قلتم إن البارىء جل وعلا بجهة من النافي؟ فإن قال: لأنه لو لم يكن بجهة منه لكان معدومًا، فقد عاد إلى ما تقدم من الشبهة، وقد فرغنا بحمد الله عن حلها. وإن قال: النفي عن الجهات يوجب عدم ما ليس بجهة منه، فقد أحال، لأن ذلك لا يوجب عدم النافي وما قام به من الأعراض لما لم يكن بجهة من نفسه، فكذا لا يوجب عدمَ البارىء جل وعلا لأنه ليس بجهة من النافي. فإن قالوا: إذا لم يكن بجهة منه ولا قائمًا به يكون معدومًا، فقد عادوا إلى الشبهة الثالثة، وقد فرغنا من حلها بتوفيق الله تعالى.

 

 
والأصل في هذا كله أن ثبوت الصانع جل وعلا وقِدمه عُلِمَ بما لا مدفَعَ له من الدلائل ولا مجال للريب فيه، فقلنا بثبوته وقدمه وعرفنا استحالة ثبوت أمارات الحدث في القديم فنفينا ذلك عنه لما في إثباتها من إثبات حدوث القديم أو بطلان دلائل الحدث، وذلك باطل كله على ما قررنا، وفي إثبات المكان والجهة إثبات دلالة الحدث على ما مَرَّ. وليس من ضرورة الوجود إثبات الجهة، لأن نفسي وما قام بها من الأعراض ليست مني بجهة، وهي موجودة، وما كان مني بجهة ليس بقائم بي وهو موجود، وكذا ليس من ضرورة الوجود أن يكون فوقي لوجود ما ليس فوقي، ولا أن يكون تحتي لوجود ما ليس تحتي، وكذا قدامي وخلفي وعن يميني وعن يساري، وإذا ثبت هذا في كل جهة على التعيين ثبت في الجهات كلها، إذ هي متركبة من الأفراد. فإذًا ليس من ضرورة الموجود أن يكون مني بجهة لوجود ما ليس مني بجهة، ولا أن يكون قائمًا بي لوجود ما ليس بقائم بي. وظهر أن قيام الشىء بي وكونه بجهة مني ليسا من لواحق الوجود وضروراته على ما قررنا هذا الكلام في نفي كونه تعالى عرضًا أو جوهرًا أو جسمًا، وخروج الموجود عن هذه المعاني كلها معقول لِمَا بيّنا من الدلائل أن ليس من ضرورة الوجود ثبوت معنى من هذه المعاني كلها لمَا مَرَّ من ثبوت موجود ليس فيه كل معنى من هذه المعاني على التعيين، غير أنه ليس بموهوم لِمَا لم يُحس موجود تعرّى عن هذه المعاني كلها، إذ ما يُشاهد في المحسوسات كلها محدثة وارتفاع دلالة الحدث عن المحدَث محال، وفي الحق تعالى الأمر بخلافه. وليس من ضرورة الارتفاع عن الوهم العدمُ لما ثبت من الدلائل العقلية على الحدوث، وظهور التفرقة بين المعقول والموهوم على ما تقدم ذكره على وجه لا يبقى للمنصف فيه ريبة. ثم إن الله تعالى أثبت في نفس كل عاقل معاني خارجة عن الوهم لخروجها عن درك الحواس، ويعلم وجودها على وجه لم يكن للشك فيه مدخل لثبوت ءاثارها، كالعقل والروح والبصر والسمع والشم والذوق، فإن ثبوت هذه المعاني متحقق والأوهام عن الإِحاطة بمائيتها قاصرة لخروجها عن الحواس المؤدية المدركة صور محسوساتها إلى الفكرة، ليصير ذلك حجة على كل من أنكر الصانع مع ظهور الآيات الدالة عليه لخروجه عن التصور في الوهم، ويعلم أن لا مدخل للوهم في معرفة ثبوت الأشياء الغائبة عن الحواس، ومن أراد الوصول إلى ذلك بالوهم ونفي ما لم يتصور فيه مع ظهور ءايات ثبوته فقد عطل الدليل القائم لانعدام ما ليس يصلح دليلاً، فيصير كمن أنكر وجود البياض في جسم مع معاينته ذلك لعدم استدراك ذلك بالسمع، وجهالةُ مَن هذا فعلُه لا يخفى عن الناس، فكذا هذا.

 

 
ثم لا فرق بين من أنكر الشىء لخروجه عن الوهم وبين من جعل خروج الشىء عن الوهم دليلاً للعدم، لما فيهما جميعًا [ممن] قصر ثبوت الشىء ووجوده على الوهم، وخروج الموجود عن جميع أمارات الحدث غير موهوم لما لم نعاين موجودًا ليس بمحدث، وإثبات أمارات الحدث في القديم محال، ونفيها عن القديم إخراجُه عن الوهم، وبخروجه عن الوهم يلتحق بالعدم فإذًا لا وجود للقديم، فصارت المجسمة والقائلون بالجهة والجاعلون ما لا يجوز عليه الجهة في حيز العدم قائلين بعدم القديم، فضاهوا الدهرية في نفي الصانع الذي ليس فيه شىء من أمارات الحدث، وساعدوهم بإثبات قِدَمِ من هو متمكن في المكان أو متحيز إلى جهة في إثبات قِدم من تحققت أمارات حدوثه، وبإثبات القِدَم للعالَم نفي الصانع. فإذًا عند الوقوف على هذه الحقائق علم أنهم هم النافون للصانع في الحقيقة دون من أثبته ونفى عنه الجهة والتمكن اللذين هما من أمارات الحدث. والله الموفِّق. وهذا هو الجواب عن قولهم: إن الناس مجبولون على العلم بأنه تعالى في جهة العلو، حتى إنهم لو تُركوا وما هم عليه جُبلوا لاعتقدوا أن صانعهم في جهة العلو. فإنا نقول لهم: إن عنيتم بهذا من لم يرض عقله بالتدبر والتفكر ولم يتمهر في معرفة الحقائق بإدمان النظر والتأمل، فمسلّم أنه بهواه يعتقد أن صانعه بجهة منه، لِمَا أنه لا يعرف أن التحيز بجهةٍ من أمارات الحدث وهي منفية عن القديم، ولما يرى أن ما ليس بقائم به يكون منه بجهة، ثم يرى صفاء الأجرام العلوية وشرف الأجسام النيرة في الحس فظن جهلاً منه أنه تعالى لا بد من كونه بتلك الجهة منه لخروج ما ليس بقائم به ولا بجهة منه عن الوهم، وفضيلة تلك الجهة على سائر الجهات عنده. وإن عنيتم به الحذّاق من العلماء العارفين بالفَرق بين الجائز والممتنع والممكن والمحال فغير مسلّم، إذ هؤلاء يبنون الأمر على الدليل دون الوهم، وقد قام الدليل عندهم على استحالة كونه تعالى في جهة. والله الموفِّق.

 

 
وتعلقهم بالإِجماع برفع الأيدي إلى السماء عند المناجاة والدعاء باطلٌ، لما ليس في ذلك دليل كونه تعالى في تلك الجهة، هذا كما أنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة بعد نزول قوله تعالى:{قد أفلح المؤمنون*الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون/1.2] بعدما كانوا يصلون شاخصة أبصارهم نحو السماء، وليس هو في الأرض، وكذا حالة السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض، وليس هو تعالى تحت الأرض، فكذا هذا. وكذا المتحري يصلي إلى المشرق واليمن والشام، وليس هو تعالى في هذه الجهات. ثم هو يعبد كما في هذه المواضع ويُحتمل أنه تعالى أمر بالتوجه إلى هذه المواضع المختلفة عند اختلاف الأحوال ليندفع وهْم تحيزه في جهة ويصير ذلك دليلاً لمن عرفه أنه ليس بجهة منا. وقيل إن العرش جُعل قِبلة للقلوب عند الدعاء كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حالة الصلاة. واستعمال لفظة الإِنزال والتنزيل منصرف إلى الآتي بالقرءان، فأما القرءان فلا يوصف بالانتقال من مكان إلى مكان، والآتي به وهو جبريل عليه السلام كان ينزل من جهة العلو لما أن مقامه كان بتلك الجهة. والله الموفِّق.

 

 
فأما تعلقهم بتلك الآيات فنقول في ذلك: إنّا ثبَّتنا بالآية المحكمة التي لا تحتمل التأويل، وبالدلائل العقلية التي لا احتمال فيها أن تمكنه في مكان مخصوص أو الأمكنة كلها محال، فلا يجوز إبطال هذه الدلائل بما تلوا من الآيات المحتملة ضروبًا من التأويلات بل يجب حملها على ما يوافق الدلائل المحكمة دفعًا للتناقض عن دلائل الحكيم الخبير جلت أسماؤه، يحقق هذا أن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما تحتمله من التأويل يوجب تناقضًا فاحشًا في كتاب الله تعالى، وبنفيه استدل الله تعالى على أن القرءان من عنده بقوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [سورة النساء/82]، وبيانه أنه تعالى قال في ءاية:{الرحمن على العرش استوى} [سورة طه/5]، وقال في ءاية أخرى:{ءأمنتم من في السمآء} [سورة الملك/19]، وقال في ءاية أخرى:{ما يكون من نجوى ثالثة إلا هو رابعهم} [سورة المجادلة/7]، وقال في ءاية أخرى:{إن ربّك لبالمرصاد} [سورة الفجر/14]، وقال في ءاية أخرى:{ألا إنه بكل شىء محيط} [سورة فصلت/54]، ثم لا وجه إلى القول بأنه على العرش وأنه في السماء وأنه بالمشرق وعند المتناجين وبالمغرب والروم والزنج والهند والعراق، بل في كل بلدة وقرية في حالة واحدة عند المتناجين في هذه الأمكنة في ساعة ولا في ساعات بالتحول والتنقل لاستحالة الحركة عليه، وأنه بالمرصاد وأنه محيط بكل شىء من جوانبه الأربع فيصير كالحقّة لكل شىء، لما في كون شىء واحد في الأمكنة الكثيرة من الامتناع. وليس من يُجري بعض هذه الآيات على الظاهر ويصرف ما وراء ذلك إلى ما عنده من التأويل بأولى من صاحبه الذي يرى في تعيين المكان خلاف رأيه. فإذًا ظهرت صحة ما ادعيناه من تعذر حمل الآيات على الظاهر، ووجوب الصرف إلى ما يصح من التأويلات“. انتهى كلام النسفي.
وقال الشيخ أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم المعروف بابن القشيري (514هـ) عند بيان جواز تأويل الاستواء بالقهر ما نصه (إتحاف السادة المتقين للزبيدي ج2/108-109) “ولو أشْعر ما قلنا توهم غلبته لأشْعر قوله:{وهو القاهر فوق عباده} [سورة الأنعام/61] بذلك أيضًا حتى يقال كان مقهورًا قبلَ خلقِ العباد، هيهاتَ، إذ لم يكن للعباد وجودٌ قبلَ خلقِه إيّاهم، بل لو كان الأمر على ما توهمَه الجهلةُ مِنْ أنه استواءٌ بالذاتِ لأشعر ذلك بالتغيُّر واعوجاج سابقٍ على وقتِ الاستواء، فإن البارىء تعالى كان موجودًا قبلَ العرش. ومَنْ أنصفَ عَلِمَ أنّ قولَ مَن يقول: العرشُ بالربِّ استوى أمثلُ مِن قول مَن يقول: الربُّ بالعرشِ استوى، فالربُّ إذًا موصوفٌ بالعُلُو وفوقية الرتبةِ والعظمةِ منزهٌ عن الكون في المكان وعن المحاذاة” اهـ. ثم قال: “وقد نَبَغَت نابغةٌ من الرَّعاعِ لولا استنزالُهم للعوامِ بما يقربُ مِن أفهامهم ويُتصوّرُ في أوهامِهم لأَجْلَلْتُ هذا المكتوب عن تلطيخه بذكرهم. يقولون: نحن نأخذُ بالظاهر ونجري الآياتِ الموهمةَ تشبيهًا والأخبارَ المقتضية حدًّا وعُضوًا على الظاهر ولا يجوز أن نطرقَ التأويلَ إلى شىء مِن ذلك، ويتمسكون بقول الله تعالى: {وما يعلم تأويلَه إلا الله} [سورة ءال عمران/7]. وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضَرُّ على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعَبَدةِ الأوثانِ، لأن ضلالاتِ الكفارِ ظاهرةٌ يَتَجَنَّبُها المسلمون، وهؤلاء أَتَوا الدينَ والعوامَّ مِن طريقٍ يَغْتَرُّ به المُسْتَضعفُون، فأَوْحَوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأَحَلُّوا في قلوبهم وصفَ المعبودِ سبحانَه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاءِ والاستواء بالذات والترددِ في الجهات، فمن أَصْغى إلى ظاهرهم يبادرُ بوهمِه إلى تخيّلِ المحسوسات فاعتقدَ الفضائحَ فسالَ به السيلُ وهو لا يَدْري” اهـ.

 

 
وقد نص الإمام المحدث الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي (597هـ) على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى، وردّ في كتابه “الباز الأشهب” على ابن الزاغوني المجسم الذي قال: “فلما قال ـ تعالى ـ {ثمّ استوى} [سورة الأعراف/54] علمنا اختصاصه بتلك الجهة”، وقال ابن الزاغوني أيضا والعياذ بالله :”ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها” قال ابن الجوزي ما نصه :“قلتُ: هذا رجلٌ لا يدري ما يقول، لأنه إذا قَدّر غايةً وفصلاً بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقر بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز، ثم يثبت له مكانًا يتحيز فيه.

 

 
قلت: ـ أي ابن الجوزي ـ وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه، فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يُقابَل ويحاذَى، ومن ضرورة المحاذِي أن يكون أكبر من المحاذَى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكلّ ما يحاذِي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسةَ والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى قدّرنا مستغنيًا عن المحل ومحتاجًا إلى الحيز، ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالاً، فإن التجاور والتباينَ من لوازم التّحيز في المتحيّزات.

 

 
وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيّزهِ أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاورَ أو باين فقد تناهى ذاتًا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصِّصًا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخلٍ في العالم وليس بخارجٍ منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختصُّ بالأجرام.

 

 
وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا: ذاته المقدس لا يَقبل أن يُخلَق فيه شىء ولا أن يحل فيه شىء، وقد حملهم الحِسُّ على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إنما ذكَر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضًا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويَعِزُّ علينا كيف يُنْسَبُ هذا القائل إلى مذهبنا. واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر/10] وبقوله:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام/18] وجعلوا ذلك فوقية حسيّة ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال تعالى:{فوق عباده} قال تعالى :{وهو معكم}، فمن حملها على العلم حمل خصمُه الاستواء على القهر، وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأهُ والأشْبَه أنه مماس للعرش والكرسي موضِعُ قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى.

 

 
وقال المفسّر فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه “فلو كان علوّ الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلوّ لله تعالى صفة ذاتية، ولكان حصول هذا العلوّ لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى، فيكون علو الله ناقصًا وعلوّ غيره كاملا وذلك محال” اهـ.

 

 
وقال أيضًا عند تفسير ءاية :{الرحمنُ على العرشِ استوى} [سورة طه/5] ما نصه :“المسألة الثانية: المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه:

 

 
أحدها: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان، ولما خلق الخلق لم يحتجْ إلى مكان بل كان غنيًّا عنه، فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعُمَ زاعم أنه لم يزل مع الله عرش. وثانيها: أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش، فيكون في نفسه مؤلَّفًا مركَّبًا، وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلِّف والمركِّب، وذلك محال. وثالثها: أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكنًا من الانتقال والحركة أو لا يُمْكِنُه ذلك، فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون مُحْدَثًا لا محالة، وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزَّمِن بل أسوأ حالاً منه، فإن الزَّمِنَ إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم. ورابعها: هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان، فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصِّصه بذلك المكان فيكون محتاجًا وهو على الله محال اهـ.

 

 
وقال سيف الدين الآمدي (631هـ) في كتابه “غاية المرام” ما نصه: “فإن قيل ما نشاهده منَ الموجودات ليس إلا أجسامًا وأعراضًا، وإثبات قسم ثالث مما لا نعقِله، وإذا كانت الموجودات منحصرة فيما ذكرناه فلا جائز أن يكون البارىء عرضًا لأن العرض مفتقِر إلى الجسم والبارىء لا يفتقِر إلى شىء، وإلا كان المفتقرُ إليه أشرفَ منه وهو محال، وإذا بطل أن يكون عرضًا بقي أن يكون جسمًا.

 

 
قلنا: منشأ الخبط ههنا إنما هو من الوهم لإعطاء الحق حكم الشاهد والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس، وهو كاذب غير صادق، فإن الوهم قد يرتمي إلى أنه لا جسم إلا في مكان بناء على الشاهد، وإن شهد العقل بأن العالم لا في مكان لكَون البرهان قد دلَّ على نهايته، بل وقد يشتد وهم بعض الناس بحيث يقضي به على العقل، وذلك كمن ينفِر عن المبيت في بيت فيه ميت لتوهمه أنه يتحرك أو يقوم، وإن كان عقله يقضي بانتفاء ذلك، فإذًا اللبيب من ترك الوهم جانبًا ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبًا. وإذا عرف أن مستند ذلك ليس إلا مجرد الوهم، فطريق كشف الخيال إنما هو بالنظر في البرهان فإنا قد بيَّنا أنه لا بد من موجودٍ هو مُبدىء الكائنات، وبيَّنا أنه لا جائز أن يكون له مثل من الموجودات شاهدًا ولا غائبًا، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبين أن ما يقضي به الوهم لا حاصل له. ثم لو لزم أن يكون جسمًا كما في الشاهد للزم أن يكون حادثًا كما في الشاهد وهو ممتنع لما سبق، وليس هو عرضًا وإلا لافتقر إلى مقوم يقومه لوجوده، إذ العرض لا معنى له إلا ما وجوده في موضوع، وذلك أيضًا محال اهـ.

 

 
وقال أيضًا مبيِّنًا أن الله يستحيل عليه التحيّز في جهة من الجهات ما نصه: “لو كان في جهة لم يخل إما أن يكون في كل جهة أو في جهة واحدة، فإن كان في كل جهة فلا جهة لنا إلا والرب فيها، وهو محال، وإن كان في جهة مخصوصة، فإما أن يستحقها لذاته أو لمخصص، لا جائز أن يستحقها لذاته، إذ نسبة سائر الجهات إليه على وتيرة واحدة، فإذًا لا بد من مُخصصٍ، وإذ ذاك فالمحال لازم من وجهين:

 

 
الأول: أن المخصص إما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا لزم منه اجتماع قديمين وهو محال، وإن كان حادثًا استدعى في نفسه مخصصًا ءاخر، وذلك يفضي إلى التسلسل وهو ممتنع. الوجه الثاني: هو أن الاختصاص بالجهة صفة للرب تعالى قائمة بذاته، أي على قول معتقد الجهة في الله، ولو افتقرت إلى مخصص لكانت في نفسها ممكنة، لأن كل ما افتقر في وجوده إلى غيره فهو باعتبار ذاته ممكن، وذلك يوجب كون البارىء ممكنًا بالنسبة إلى بعض جهاته، والواجب بذاته يجب أن يكون واجبًا من جميع جهاته اهـ.

 

 
وقال السبكي الشافعي :“صانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيزًا ولو كان متحيزًا لكان مفتقِرًا إلى حيّزه ومكانه فلا يكون واجب الوجود وثبت أنه واجب الوجود وهذا خُلْفٌ، وأيضًا فلو كان في جهة فإما في كل الجهات وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصِّص المنافي للوجوب” اهـ أي الاحتياج إلى المخصِّص ينافي كونه واجب الوجود، فثبت استحالة الجهة والمكان على الله تعالى.

 

 
وقال العلامة البياضي الحنفي (1098هـ) في كتابه “إشارات المرام” ممزوجًا بالشرح ما نصه :“الخامس: ما أشار إليه ـ أبو حنيفة ـ (وقال في “الفقه الأبسط”: كان الله تعالى ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أين) أي مكان (ولا خلق ولا شىء و{هو خالق كل شىء} [سورة الأنعام/102]) مُوجِد له بعد العدم فلا يكون شىء من المكان والجهة قديمًا وفيه إشارات:

 

 
الأولى: الاستدلال بأنه تعالى لو كان في مكان وجهة لزم قدمهما، وأن يكون تعالى جسمًا، لأن المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم، والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسماني، وكل ذلك مستحيل كما مر بيانه، وإليه أشار بقوله: “كان ولم يكن أين ولا خلق ولا شىء وهو خالق كل شىء”. وبطل ما ظنه ابن تيمية منهم من قدم العرش كما في شرح العضدية. الثانية: الجواب بأن لا يكون البارىء تعالى داخل العالم لامتناع أن يكون الخالق داخلاً في الأشياء المخلوقة، ولا خارجًا عنه بأن يكون في جهة منه لوجوده تعالى قبل خلق المخلوقات وتحقق الأمكنة والجهات، وإليه أشار بقوله:{هو خالق كل شىء} [سورة الأنعام/102] وهو خروج عن الموهوم دون المعقول اهـ.

 

 
وقال الفقيه المتكلم المؤرخ الفخر ابن المعلم القرشي الدمشقي (725هـ) ما نصه: “قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري القرطبي: والذي يقتضي بطلان الجهة والمكان مع ما قررناه من كلام شيخنا وغيره من العلماء وجهان:

 

 
أحدهما: أن الجهة لو قدّرت لكان فيها نفيُ الكمال، وخالق الخلق مستغنٍ بكمال ذاته عمّا لا يكون به كاملاً. والثاني: أن الجهة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة أدّى إلى مُحالين، أحدهما أن يكون مع البارىء في الأزل غيرُه، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكانًا للثاني بأولى من الآخر، فافتقر إلى مخصِّصٍ يُنقَلُ الكلام إليه، وما يُفْضي إلى المحال محال اهـ.

 

 
وقال الحافظ المحدّث اللغوي الفقيه السيد محمد مرتضى الزَّبيدي الحنفي (1205هـ) عند شرح كلام الغزالي: “الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكِّن جسمًا مماسًا للعرش: إما مثله أو أكبر منه أو أصغر، وذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال” ما نصه: “وتحقيقه أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانًا لم يخل من أن يكون مثل المكان أو أكبر منه أو أصغر منه، فإن كان مثل المكان فهو إذًا متشكل بأشكال المكان حتى إذا كان المكان مربعًا كان هو مربعًا أو كان مثلَّثا كان هو مثلَّثا وذلك محال، وإن كان أكبر من المكان فبعضه على المكان، ويُشْعِرُ ذلك بأنه متجزىء وله كلٌّ ينطوي على بعض، وكان بحيث ينتسب إليه المكان بأنه ربعه أو خمسه، وإن كان أصغر من ذلك المكان بقدر لم يتميز عن ذلك المكان إلا بتحديد وتتطرق إليه المساحة والتقدير، وكل ما يؤدي إلى جواز التقدير على البارىء تعالى فتجوّزه في حقه كفر من معتقِدِه، وكل من جاز عليه الكون بذاته على محل لم يتميز عن ذلك المحل إلا بكون، وقبيح وصف البارىء بالكون، ومتى جاز عليه موازاة مكان أو مماسته جاز عليه مباينته، ومن جاز عليه المباينة والمماسة لم يكن إلا حادثًا، وهل علمنا حدوث العالم إلا بجواز المماسة والمباينة على أجزائه. وقصارى الجهلة قولهم: كيف يتصوّر موجود لا في محل؟ وهذه الكلمة تصدر عن بدع وغوائل لا يَعْرِفُ غورَها وقعرها إلا كلُّ غوّاص على بحار الحقائق، وهيهات طلب الكيفية حيث يستحيل محال. والذي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أن يُقال لهم: قبلَ أن يَخْلُقَ العالم أو المكانَ هل كان موجودًا أم لا؟ فمِن ضرورة العقلِ أن يقول: بلى، فيلزمه لو صحَّ قولُه: لا يُعلمُ موجود إلا في مكان أَحَدُ أمرين: إما أن يقول: المكان والعرش والعالم قديم، وإما أن يقول: الربُّ تعالى محدَثٌ، وهذا مآلُ الجهلة والحشويةِ، ليس القديمُ بالمحدَثِ، والمُحدَثُ بالقديم. ونعوذ بالله من الحَيْرة في الدين” اهـ.

 

 
وقال ما نصه: “فإن قيل: نفيه عن الجهات الست إخبار عن عدمه إذ لا عدَم أشد تحقيقًا من نفي المذكور عن الجهات الست. قلتُ: النفي عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارًا عن عدم ما لو كان لكان في جهة من النافي لا نفي ما يستحيل أن يكون في جهة منه، ألا ترى أن من نفى نفسه عن الجهات الست لا يكون ذلك إخبارًا عن عدمه لأن نفسه ليست بجهة منه. وأما قول المعتزلة: القائمان بالذات يكون [كل] واحد منهما بجهة صاحبه لا محالة، فالجواب عنه: هذا على الإطلاق أم بشريطة أن يكون كل واحد منهما محدودًا متناهيًا؟ الأوّل ممنوع، والثاني مُسَلَّم، ولكن البارىء تعالى يستحيل أن يكون محدودًا متناهيًا.

 

 
(تنبيه) هذا المعتقد لا يخالف فيه بالتحقيق سُني لا محدِّث ولا فقيه ولا غيره ولا يجىء قط في الشرع على لسان نبي التصريح بلفظ الجهة، فالجهة بحسب التفسير المتقدم منفية معنًى ولفظًا وكيف لا والحق يقول:{ليس كمثله شىء} (سورة الشورى/11) ولو كان في جهة بذلك الاعتبار لكان له أمثال فضلاً عن مثل واحد اهـ.

 

 
ومما قاله الشيخ العلامة المحدث عبد الله الهرري في إثبات تنزيه الله عن المكان ما نصه: “والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قدمُ الحيز، أو لا، فيكون محلاًّ للحوادث، وكلا ذلك مستحيل؛ وأيضًا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيًا، أو يزيد عليه فيكون متجزئًا. وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سفل ولا غيرهما، لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء. ثم إن بعض المجسمة إذا أُثبت لهم برهان وجوب تنزهه تعالى عن المكان يقول: “جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها، وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله.”

 

 
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض، ويحصل ذلك للسلاطين، فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفل منهم، فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن. ثم الأنبياء مستقرهم في الدنيا: الأرض، وفي الآخرة: الجنة، وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة، وكون مستقر أولئك حملة العرش فوق مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلاً على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم” اهـ.

 

 
وقال أيضًا ما نصه: “تنزيه الله عن المكان وتصحيح وجوده بلا مكانٍ عقلاً والله تعالى غنيٌّ عن العالمين، أي مستغن عن كلّ ما سواه أزلا وأبدًا، فلا يحتاجُ إلى مكان يقومُ به أو شىء يحُلُّ به أو إلى جهة. ويكفي في تنزيه الله عن المكان والحيّز والجهة قوله تعالى:{ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11]، فلو كان له مكان لكان له أمثالٌ وأبعادٌ طولٌ وعرضٌ وعمقٌ، ومن كان كذلك كان محدَثًا محتاجًا لمن حدَّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق، هذا الدليل من القرءان.

 

 
أما من الحديث فما رواه البخاري وابن الجارود والبيهقي بالإسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :”كان الله ولم يكن شىء غيره”، ومعناه أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيرُهُ لا ماءٌ ولا هواءٌ ولا أرضٌ ولا سماءٌ ولا كرسيٌّ ولا عرش ولا إنسٌ ولا جنٌّ ولا ملائكةٌ ولا زمانٌ ولا مكانٌ، فهو تعالى موجودٌ قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه. وهذا ما يستفاد من الحديث المذكور.

 

 
وقال البيهقيُّ في كتابه “الأسماء والصفات” ما نصه: “استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم :”أنت الظاهرُ فليس فوقكَ شىءٌ وأنت الباطنُ فليس دونكَ شىءٌ”، وإذا لم يكنْ فوقَهُ شىءٌ ولا دونَهُ شىءٌ لم يكنْ في مكانٍ”اهـ. وهذا الحديثُ فيه الردُّ أيضًا على القائلينَ بالجهةِ في حقهِ تعالى. وَقَدْ قال عليٌّ رضي الله عنهُ :”كانَ الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كانَ”. رواه أبو منصورٍ البغداديُّ.

 

 
وليس محور الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقلُ الصحيحُ السليمُ الذي هو شاهدٌ للشرع، وذلك أنَّ المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلك الحد فلا يكون إلهًا. فكما صحَّ وجودُ الله تعالى بلا مكانٍ وجهةٍ قبل خلقِ الأماكن والجهات فكذلك يصحُّ وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكانٍ وجهةٍ، وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى” انتهى كلام الشيخ الهرري.

 

 
وقال أيضًا في الرد على المشبهة المجسمة الذين يقولون بالعلو الحسي في حق الله ما نصه :“والعلو على وجهين: علو مكان، وعلو معنى أي علو قدر، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان، لأنه لا شأن في علوّ المكان إنما الشأن في علو القدر، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانًا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه: “إن رحمتي سبقت غضبي” مساويًا لله في الدرجة على قول أولئك ـ أي على قول من قال إن الله فوق العرش بذاته ـ، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه، مساويًا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى:{الرحمنُ على العرش استوى} [سورة طه/5] بعلا على العرش كما رواه البخاري” انتهى كلام الهرري، وهو نفيس جدًّا، فتمسك به تسلم من شبهات المجسمة المشبهة.

 

 
وقال أيضًا ما نصه: “ثم إن المتكلمين على لسان أهل السنة قالوا: الموجود ثلاثة أقسام موجود متحيز قائم بنفسه وهو الجواهر والأجسام وهي ما تركب من جوهرين فأكثر كالإنسان والحيوان والشجر والقمر والعرش والنور والريح ونحو ذلك، وموجود غير قائم بنفسه تابع للمتحيز وهو العرض كحركة الجوهر وسكونه وحرارته وبرودته وطعم الحلاوة وطعم المرارة، وموجود ليس بمتحيز ولا تابع لمتحيز وهو الله، والدليل النقلي على ذلك قوله تعالى:{ليس كمثله شىء} [سورة الشورى/11] لأنه لو كان كأحد القسمين الأولَين لكان له أمثال، وقد نفت هذه الآية مشابهة الله لغيره بوجه من الوجوه لأن كلمة {شىء} المذكورة في الآية وقعت نكرة في معرض النفي فهي للعموم لا للخصوص كما تدعي مُشَبّهة العصر الوهابية أن معناها أنه لا يشبه شيئًا من الأشياء التي نعرفها ليتوصلوا بهذا إلى إثبات عقيدتهم أن الله جرم متصل بالعرش، فكأنهم قالوا الله لا يشبه بعض الأشياء، ويشبه بعض الأشياء وكفاهم هذا إلحادًا.” اهـ.

 

 
وقال أيضًا في تنزيهه تعالى عن الجهة ما نصه :“والله تعالى متنزه أيضًا عن الجهات والأماكن إذ الجهات والأماكن خَلْقُهُ أحدثها بعد أن لم تكن فلا يوصف تعالى بالفوقية بالحيز والمكان فلو كان فوق العالم بالحيز والمكان لكان محاذيًا له والمحاذي للجسم إمّا أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر منه مساحة، وما يقدّر بالمساحة محتاج لمن خصه بها والمحتاج حادث، ولو كان مُقَدَّرًا بالمِساحة لصحت الألُوهِيَّةُ للشمس ونحوها من الكواكب. وأمّا رفع الأيدي والوجوه إلى السماء عند الدعاء فلأنها قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصّلاة تستقبل بالصّدر، وفي رفع اليد والرأس إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والعظمة” اهـ.

 

 
وقال أيضًا في بيان الدليل العقلي على تنزيه الله عن الجهة ما نصه :“والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قدمُ الحيز، أوْ لا فيكون محلاًّ للحوادث وكلا ذلك مستحيل، وأيضًا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيًا أو يزيد عليه فيكون متجزئًا، وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سُفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء. ثم إن بعض المجسمة إذا أُثبت لهم برهان وجوب تنزهه تعالى عن المكان يقول: جهة العلو غير جهة السفل، جهة السفل نقص عليه يجب تنزيهه عنها وأما جهة العلو فكمال ولا يدل العقل على نفيها عن الله”.

 

 
فالجواب أن يقال لهم: الجهات كلها لا تقتضي الكمال في حد ذاتها، لأن الشأن ليس في علو المكان بل الشأن في علو القدر، بل قد يختص الشخص من البشر بالمكان العالي ومن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في مكان عال وهم أسفلَ منهم فلم يكن في علو الجهة وعلو المكان شأن، ثم الأنبياء مستقرهم في الدنيا: الأرض وفي الآخرة: الجنة وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيث الجهة، وكون مستقر أولئك حملة العرش فوق مستقر الأنبياء من حيث الجهة لم يكن دليلاً على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا يساوونهم. ثم الخلاء وهو هذا الفراغ عند أهل الحق يتناهى، ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل، وكذلك القول بأن وراء العالم أجرامًا متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضًا، وإن أهل الحق لا يثبتون هذا ولا يثبتون هذا، بل يقولون: وراء العالم لا يوجد فراغ لا متناه ولا أجرام لا متناهية، انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم، انتهى الخلاء والملاء. والملاء هو الجرم المتواصل” اهـ.
بيان نشأة علم الكلام
كان الحجاز وما حوله من فلسطين والشام وبلاد الروم والعراق وأرض الفرس والهند وبلاد إفريقية ‏وما ‏والاها حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك من عبادة الأوثان والأصنام والكواكب ‏وغير ‏ذلك، فقام سيدنا محمد بالدعوة إلى الإسلام وأقام الحجة لدعوته بحيث لا ‏يدع لمعاند ‏عذراً، وأيقظ العقول بطريقة لا تعلو عن مدارك العامة ولا يستنكرها الخاصة فدانوا له ‏تباعاً، وعلمهم ‏طريق التنزيه وفقههم في أبواب العمل ودربهم على الفضيلة والسجايا الكريمة فانتشرت ‏دعوته إلى جميع الآفاق فدانت الأمم بنور هدايته في مشارق الأرض ومغاربها. ‏وأمهات ما تلقت ‏الأمة من النبي هي العلم بالله وصفاته والعلم بالأحكام العملية ‏من عبادات ‏ومعاملات.‏ وقد كان أصحاب رسول الله يسألونه عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة، ‏ويسألونه ‏عن الباطل والشر للتمكن من المجانبة حتى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه “كان الناس ‏يسألون ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني ” رواه ‏البخاري (1)، ‏وإنما كان يفعله لتصح له مجانبته لأن من لم يعلم الشر يوشك أن يقع فيه كما قال ‏الشاعر:‏
 
عرفتُ الشرَّ لا للشرّ لكن لتوقيه **** ومن لا يعَرف الشر من الناس يقع فيه‏ ‏
 
وقد أخبر رسول الله أنه سيظهر في زمن الإسلام فرق مختلفة تخالف ما عليه ‏‏المتمسكون بالكتاب والسنة، فقال إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ‏‏ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة, وهي الجماعة(2) رواه ابو داود.‏ فظهرت بعد وفاته فرق عديدة منها المعتزلة ويسمّون القدرية لإنكارهم القدر، ‏‏والجهمية ويسمّون الجبرية أتباع جهم بن صفوان يقولون إن العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له وإنما ‏هو ‏كالريشة المعلقة في الهواء يأخذها الهواء يمنة ويسرة، والخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي ‏رضي الله ‏عنه ويكفرون مرتكب المعصية الكبيرة، والمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب ‏بمعنى لا يعاقب ‏عصاة المؤمنين في الآخرة، والكرّامية الذين يقولون إن الله تقوم به الحوادث في ذاته ‏وأقواله ويقولون بأن ‏الله ليس له نهاية من الجهات الخمس وله نهاية من الأسفل، والمشبهة والمجسمة- ‏أسلاف الطائفة المسماة ‏بالوهابية في يومنا هذا- الذين يتقوّلون في الله ما لا يجوّزه الشرع ولا العقل ‏من إثبات الحركة له والنقلة ‏والحد والجهة والقعود والإقعاد (3) والاستلقاء والاستقرار إلى نحوها مما ‏تلقوه بالقبول من دجاجلة ‏الملبسين من الثنوية وعباد الأوثان ومما ورثوه من أمم قد خلت، ويؤلفون ‏في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة في ‏أهل السنة ويتسترون بالسلف مستغلين ما ينقل عن بعض السلف ‏من الأقوال المجملة التي لا حجة فيها، ‏نعم لهم سلف ولكن من غير هذه الأمة وهم على سنة ضلالة ‏ولكن على من سنها الأوزار إلى يوم ‏القيامة.‏ ‏
 
وكان أناس يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة والملاحدة والثنوية ‏من ‏الفرس حتى أستفحل أمرهم، فأمر المهدي العلماء من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على ‏هؤلاء ‏فأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وأوضحوا الحق وخدموا الدين. وكان لخصماء الدين من ‏الأسلحة ما لا ‏يمكن مقابلته إلا بمثل أسنتهم، وجروا مع المسلمين على طريق التدرج في مراحل ‏العداء، فلو تُرك الأمر ‏وشأنه لكاد أن تتسرب شكوكهم إلى قلوب جماعة المسلمين فيطم الخطب.‏ قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ممزوجاً بكلام الشارح البياضي (4)(وأصحاب رسول الله صلى ‏الله ‏عليه وسلّم إنما لم يدخلوا فيه) أي فيما فيه اختلاف الأمة من الاعتقادات (لأن مثلهم) بإفنائهم ‏الزائغين ‏بعد كشف شبههم لإصرارهم في اللجاج لم يحوج إلى التوغل في الاحتجاج، وصار مثلهم فيه ‏وحالهم ‏‏(كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم) ويبرز لهم (فلا يتكلفون) ولا يظهرون الكلفة والمشقة في ‏تعاطيهم ‏‏(السلاح) لدفع من لم يقاتلهم”اهـ، ثم قال “(ونحن قد ابتلينا) في عصرنا (بمن يطعن) ‏في ‏الاعتقاديات (علينا) من أهل البدع والأهواء (ويستحلّ الدماء منا) ويستطيلون علينا لشيوع ‏بدعتهم، ‏ونصرة بعض ملوك السوء لهم كيزيد بن الوليد ومروان بن محمد من الأموية كما في تاريخ ‏الخلفاء ‏للسيوطي وغيره. (فلا يسعنا أن لا نعلم) بإقامة البراهين اليقينية (من المخطئ منا) أي من ‏المتخالفين (ومن ‏المصيب، وأن لا نذب) ونمنع المخالفين بإقامة الحجج عليهم وإبطال نحلهم (عن) ‏الاستطالة على (أنفسنا ‏وحرمنا، فقد ابتلينا” بمن يقاتلنا) من أهل الأهواء بإظهار الشبه والإغراء الذي ‏هو القتال المعنوي (فلا بد ‏لنا) في دفعهم وإزالة شبههم (من) إقامة الحجج الساطعة والبراهين القاطعة ‏التي في معنى (السلاح) فقد ‏أشار إلى أن البحث فيه والمحاجة صارت من الفروض على الكفاية دون ‏البدع المنهية، وصرّح به في ‏‏”الملتقط ” “والتتار خانية”اهـ.‏
 
ففي مثل هذه الظروف الحرجة غار الإمام أبو الحسن الأشعري على ما حل بالمسلمين من ضروب ‏‏النكال وقام لنصرة السنة وقمع البدعة فوفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وقمع ‏المعاندين ‏وكسر تطرفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها فطبق في ذِكره الآفاق ‏وملأ الدنيا ‏بكتبه وكتب أصحابه في السنة والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة، وتفرق أصحابه في ‏بلاد العراق ‏وخراسان والشام وبلاد المغرب ومضى لسبيله وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض ‏قوتهم في عهد بني ‏بويه لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ‏ودانت السنة على الطريقة ‏الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية. وقد بعث ابن الباقلاني في ‏جملة من بعث من أصحابه إلى ‏البلاد أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى ‏قيروان وبلاد المغرب فدان له أهل ‏العلم من أئمة المغاربة وانتشر إلى صقلية والأندلس، وقام بنشر ‏المذهب في الحجاز راوي الجامع الصحيح ‏الحافظ أبو ذر الهروي وأخذ عنه من ارتحل إليه من علماء ‏الآفاق.‏
 
وفي كلام المتقدمين من المتكلمين ما ينبغي أن يسترشد به القائمون بالدفاع عن الدين في كل عصر، ‏ومن ‏البيّن أن طرق الدفاع عن عقائد الإسلام ووسائل الوقاية عن تسرب الفساد إلى الأخلاق ‏والأحكام مما ‏يتجدد في كل عصر بتجدد أساليب الأخصام وهي في نفسها ثابتة عند ما حده الشرع ‏لا تتبدل حقائقها، ‏فيجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة لتتبع الآراء ‏السائدة في طوائف البشر ‏والعلوم المنتشرة بينهم وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر للمسلمين ‏لا سيما في المعتقد الذي لا ‏يزال ينبوع كل خير ما دام راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن ‏استحال واهناً واهياً، فيدرسون هذه ‏الآراء والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما ‏يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء ‏الدين بوسائط عصرية حتى إذا فوَّق متقصد سهاما منها نحو ‏التعاليم الاسلامية من المعتقد وأحكام ردوها ‏الى نحره ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن ‏يجدوا سبيلاً إلى مراتع خصبة بين المسلمين تنبت ‏فيها بذور تلبيساتهم بحيث يصعب اجتثاث عروقها ‏الفوضوية بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية ‏تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل وقانا الله شر ‏ذلك.‏ فتبين من ذلك أن نشأة علم الكلام كان ضرورة للرد على أهل البدع من المعتزلة والمجسمة وغيرهما ‏من ‏الفرق الضالة، وللرد على الفلاسفة والملاحدة والمخالفين لأهل الحق في المعتقد.‏
 
قال (5) القاضي أبو المعالي بن عبد الملك “من اعتقد أن السلف الصالح رضي الله عنهم نهوا عن ‏معرفة ‏الأصول وتجنبوها أو تغافلوا عنها وأهملوها فقد اعتقد فيهم عجزاً وأساء بهم ظنّاً لأنه يستحيل ‏في العقل ‏والدين عند كل من أنصف من نفسه أن الواحد منهم يتكلم في مسئلة العول وقضايا الجد ‏وكمية الحدود ‏وكيفية القصاص بفصول ويباهل عليها ويلاعن ويجافي فيها ويبالغ ويذكر في إزالة ‏النجاسات عشرين ‏دليلاً لنفسه وللمخالف ويشقق الشعر في النظر فيها ثم لا يعرف ربه الآمر خلْقَه ‏بالتحليل والتحريم ‏والمكلّف عباده للترك والتعظيم فهيهات أن يكون ذلك، وإنما أهملوا تحرير أدلته ‏وإقرار أسئلته وأجوبته فإن ‏الله سبحانه وتعالى بعث نبينا محمداً صلوات الله عليه وسلامه فأيده ‏بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة ‏حتى أوضح الشريعة وبيَّنها وعلَّمهم مواقيتها وعينها فلم يترك لهم ‏أصلاً من الأصول إلا بناه وشيده ولا ‏حكماً من الأحكام إلا أوضحه ومهده لقوله سبحانه وتعالى ‏‏(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ ‏إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44} [سورة النحل]، فاطمأنت ‏قلوب الصحابة لما عاينوا من عجائب الرسول ‏وشاهدوا من صدق التنزيل ببدائة العقول والشريعة ‏غضة طرية متداولة بينهم في مواسمهم ومجالسهم ‏يعرفون التوحيد مشاهدة بالوحي والسماع ‏ويتكلمون في أدلة الوحدانية بالطباع مستغنين عن تحرير أدلتها ‏وتقويم حجتها وعللها، كما أنهم كانوا ‏يعرفون تفسير القرءان ومعاني الشعر والبيان وترتيب النحو ‏والعروض وفتاوى النوافل والفروض من ‏غير تحرير العلة ولا تقويم الأدلة. ثم لما انقرضت أيامهم وتغيرت ‏طباع مَن بعدهم وكلامهم وخالطهم ‏من غير جنسهم وطال بالسلف الصالح والعرب العرباء عهدهم ‏أشكل عليهم تفسير القرءان ومَرَن ‏‏(6) عليهم غلط اللسان وكثر المخالفون في الأصول والفروع ‏واضطروا إلى جمع العروض والنحو ‏وتمييز المراسيل من المسانيد والآحاد من التواتر وصنفوا التفسير ‏والتعليق وبينوا التدقيق والتحقيق، ولم ‏يقل قائل إن هذه كلها بدع ظهرت أو أنها محالات جمعت ودونت ‏بل هو الشرع الصحيح والرأي ‏الصريح، وكذلك هذه الطائفة كثّر الله عدَدهم وقوى عُدَدهم، بل هذه ‏العلوم أولى بجمعها لحرمة ‏معلومها فإن مراتب العلوم تترتب على حسب معلوماتها والصنائع تكرم على ‏قدر مصنوعاتها، فهي ‏من فرائض الأعيان وغيرها إما من فرائض الكفايات أو كالمندوب والمستحب، فإن ‏من جهل صفة من ‏صفات معلومه لم يعرف المعلوم على ما هو به، ومن لم يعرف البارىء سبحانه على ما ‏هو به لم ‏يستحق اسم الإيمان ولا الخروج يوم القيامة من النيران” اهـ.‏
__________________________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.‏ ‏
(2) سنن أبي داود: كتاب السنة، باب. شرح السُّنة.‏
(3) أي زعمهم أن الله يقعد محمداً إلى جنبه على العرش يوم القيامة، كما قال ابن تيمية في فتاويه ‏‏وغيرها.‏
(4) إشارات المرام (ص/ 32 وما بعدها)، بتصرف لا يغير المعنى.‏
(5) تبيين كذب المفتري (ص/ 354- 355).‏ ‏
(6) في القاموس المحيط: مَرَنَ على الشيء مرونًا و مرانة: تعوَّده (ص/1592).‏

 

حكم تعلم علم الكلام
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه “الفتاوى الحديثية” ما نصه (1)الذي صرّح به أئمتنا أنه ‏يجب ‏على كل أحد وجوباً عينيّاً أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين ‏أهل ‏الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية ‏والقيام بها ‏للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها ‏على تعلم ما ‏يتعلق بها من علم الكلام أو ءالاته فيجب عيناً على من تأهل لذلك تعلمه للرد على ‏المخالفين” اهـ.‏ وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (2) ‏‏”‏‏(ولم يكن شئ منه- أي علم الكلام – مألوفاً في العصر الأول) عند الصحابة والتابعين (فكان ‏الخوض ‏فيه بالكلية من البدع ) والمنكرات (ولكن تغير الآن حكمه) باختلاف الأزمنة ( إذ حدثت ‏البدع) من ‏المبتدعة ( الصارفة عن مقتضى نص القرءان والسنة) ومقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ‏ولا يكون ‏ملفوظاً لكن يكون من ضرورة اللفظ (ونبغت) أي ظهرت (جماعة لفقوا) أي جمعوا (لها) ‏لتلك البدع ‏‏(شبهاً) وإيرادات (ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً) يقرؤه الناس (فصار ذلك المحذور) أي ‏الممنوع منه (بحكم ‏الضرورة) والاحتياج (مأذوناً) بالتكلم (فيه) تعلماً وتعليماً (بل صار) القدر ‏المحتاج إليه (من فروض ‏الكفايات) وقال السبكي ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدع إليه الحاجة ‏أولى والكلام فيه عند فقد ‏الحاجة بدعة وحيث دعت إليه الحاجة فلا بأس به (وهو القدر الذي يقابل ‏به المبتدع إذا قصد الدعوة) ‏أي دعاء الناس (إلى البدعة) وحملهم عليها” اهـ.‏
 
وقال الشيخ شمس الدين الرملي الشافعي في شرح الزبد ما نصه (3)التوغل في علم الكلام بحيث ‏‏يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلاًّ منهم فعله، فكل ‏‏منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل ‏من ‏لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به” اهـ.‏ وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” ما نصه (4)قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ‏ومندوبة ‏ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين ‏وشبه ذلك‏‏”اهـ.‏
 
وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (5) (فإن ‏‏قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدع) ورد شبهة (والآن فقد ثارت البدع) وهاجت ‏‏(وعمت ‏البلوى) الناس (وأرهقت الحاجة) أي دنت وقرب وقوعها (فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم) ‏والتصدي له ‏‏(من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال) وحفظها من النهاب (وسائر الحقوق) ‏كذلك (وكالقضاء ‏والولاية وغيرهما) من المناصب العامة والخاصة (وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك) ‏وتعليمه (والتدريس فيه ‏والبحث عنه) والتحقيق فيه (لا يدوم ولو ترك) الاشتغال به (لاندرس) بالمرة ‏وانمحى أثره، ولقائل أن ‏يقول لا يحتاج إلى نشره وتعليمه بل يكتفي منه في رد شبه المبتدعة بما ركز ‏في الجبلة والطباع فأجاب ‏بقوله (وليس في مجرد الطباع) ولو كانت سليمة (كفاية) تامة (لحل شبه ‏المبتدعة ما لم يتعلم) ويدأب فيه ‏لأن أكثر هذا العلم أمور دقيقة نظرية (فينبغي أن يكون التدريس فيه ‏والبحث عنه أيضاً من فروض ‏الكفايات) وهذا (بخلاف زمان لصحابة) رضوان الله تعالى عليهم (فإن ‏الحاجة ما كانت ماسة إليه) إما ‏لعدم ظهور البدع في زمانهم أو لاكتفائهم بما أشرق الله من أنوار ‏المشاهدة في صدورهم فكانت الأمور ‏الخفية بالنسبة إلينا جلية عندهم (فاعلم أن الحق) الذي لا محيد ‏عنه (أنه لا بد في كل بلد) من بلاد ‏الإسلام (من قائم بهذا العلم) أي بإزائه (مستقل بدفع شبه ‏المبتدعة الذين ثاروا في تلك البلدة) ونبغوا ‏‏(وذلك يدوم بالتعليم) ويحفظ بالنشر والإفادة (ولكن ليس ‏من الصواب تدريسه على العموم) أي على ‏عامة الناس (كتدريس الفقه والتفسير) ولوازمهما (فإن ‏هذا) أي علم الكلام (مثل الدواء) الذي لا يحتاج ‏إليه في كل وقت وينتفع به ءاحاد الناس ويستضرُّ بِهِ ‏الآخرون (والفقه مثل الغذاء) للأبدان الذي لا ‏يستغنى عنه بحال في إقامة ناموس البدن (وضرر الغذاء ‏لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من ‏أنواع الضرر) التي لا تحصى (فالعالم به ينبغي أن ‏يخصص بتعليم هذا العلم من) وجدت (فيه ثلاث خصال ‏إحداها التجرد للعلم) والاستعداد لطلب ‏المعرفة (والحرص عليه) بالإكباب على درسه وتعلمه (فإن ‏المحترف) أي المشتغل بالحرفة والصناعة ‏‏(يمنعه الشغل) الذي هو فيه (عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا ‏عرضت) لعدم استعداده لذلك (والثانية ‏الذكاء) وهو سرعة الإدراك وحدَّة الفهم وقيل هو سرعة اقتراح ‏النتائج (والفطنة) وهي سرعة هجوم ‏على حقائق معان مما تورده الحواس عليها (والفصاحة) وهي ملكة ‏يقتدر بها على التعبير عن المقصود ‏‏(فإن البليد) المتحير في أمره الذي لا يوصف بذكاء ولا فطنة (لا ينتفع ‏بفهمه) بل هو دائماً حيران في ‏أمره (والفَدْم) وهو البطيء الفهم (لا ينتفع بحجاجه) أي بمحاجته (فيخاف ‏عليه من ضرر الكلام ولا ‏يرجى فيه نفعه والثالثة أن يكون في طبعه الصلاح ) وهو ضد الفساد ويختصان ‏في أكثر الاستعمال ‏بالأفعال وقوبل في القرءان تارة بالفساد وأخرى بالسيئة (والديانة) وهي التمسك ‏بأمور الدين ‏‏(والتقوى) وهي تجنب القبيح خوفاً من الله تعالى (ولا تكون الشهوات) النفسية (غالبة عليه) ‏وفي ‏معنى الشهوات التعصبات للمذاهب والمباهاة بالمعارف (فإن الفاسق بأدنى شبهة) إذا عرضت (ينخلع ‏‏عن) ربقة (الدين فإن ذلك يحل عنه الحجز) أي الستر الحاجز (ويرفع الستر بينه وبين الملاذ) الشهوانية ‏‏‏(فلا يحرص على إزالة الشبهة) ودفعها (بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف) ومشقاته (فيكون ما ‏‏يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه) “اهـ.‏
 
قال الشيخ الفقيه تقي الدين السبكي “أكثر العلوم التي نحن نتبع وندأب فيها الليل والنهار حاصلة ‏‏عندهم- أي عند الصحابة- بأصل الخلقة من اللغة والنحو والتصريف وأصول الفقه وما عندهم من ‏‏العقول الراجحة وما أفاض الله عليها من نور النبوة العاصم من الخطإ في الفكر يغني عن المنطق وغيره ‏من ‏العلوم العقلية، وما ألّف الله بين قلوبهم حتى صاروا بنعمته إخواناً يغني عن الاستعداد في المناظرة ‏والمجادلة ‏فلم يكونوا يحتاجون في علمهم إلا إلى ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب ‏والسنة ‏فيفهمونه أحسن فهم ويحملونه على أحسن محمل وينزلونه منزلته، وليس بينهم من يماري فيه ‏ولا يجادل ‏ولا بدعة ولا ضلالة، ثم التابعون على منوالهم قريباً منهم ثم أتباعهم وهم القرون الثلاثة التي ‏شهد النبي ‏صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون بعده، ثم نشأ بعدهم وربما في أثناء الثاني والثالث ‏أصحاب بدع ‏وضلالات فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا ‏يلبسوا على الضعفاء ‏أمر دينهم ولا يدخلوا في الدين ما ليس منه، ودخل في كلام أهل البدع من ‏كلام المنطقيين وغيرهم من ‏أهل الإلحاد شئ كثير ورتبوا عليها شبهّا كثيرة، فإن تركناهم وما ‏يصنعون استولوا على كثير من الضعفاء ‏وعوام المسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم فأضلوهم ‏وغيروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة ‏وانتشرت البدع والحوادث ولم يكن كل واحد يقاومهم ‏وقد لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به، وإنما يرد ‏على الكلام من يفهمه ومتى لم يرد عليه تعلو كلمته ‏ويعتقد الجاهلون والأمراء والملوك المستولون على ‏الرعية صحة كلام ذلك المبتدع كما اتفق في كثير ‏من الأعصار وقصرت همم الناس عما كان عليه ‏المتقدمون، فكان الواجب أن يكون في الناس من ‏يحفظ الله به عقائد عباده الصالحين ويدفع به شبه ‏الملحدين وأجره أعظم من أجر المجاهد بكثير وبه ‏يحفظ أمر بقية الناس وعبادات المتعبدين واشتغال الفقهاء ‏والمحدثين والمفسرين والمقرئين وانقطاع ‏الزاهدين:‏ لا يعرف الشوق إلا من يكابده…. ولا الصبابة إلا من يعانيها” ‏ انتهى كلام السبكي الذي نقلناه من شرح الإحياء (6) للحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي.‏
__________________________
(1) الفتاوى الحديثية (ص/ 27). ‏
(2) إتحاف السادة المتقين (1/ 175).‏
(3) غاية البيان (ص/ 20).‏ ‏(4) شرح صحيح مسلم ( 6/154- 155).‏
(5) إتحاف السادة المتقين (2/ 62- 63).‏ ‏
(6) إتحاف السادة المتقين (1/ 177).‏

 

بيان علم الكلام الممدوح وعلم الكلام المذموم
اعلم أن العاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول ويعرضه على الكتاب والسُّنة، فإن كان الكلام ‏معقولا ‏في نفسه مؤيداً بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة فلِمَ ينبغي أن يهجر ويترك وإن لم ‏يتكلم به ‏الصحابة والتابعون، وإن كان الكلام باطلاً يُرد ولا يلتفت إليه، لذلك قال الإمام الحافظ ابن ‏عساكر في ‏كتابه الذي ألّفه في الدفاع عن الإمام الأشعري وبيَّن فيه كذب من افترى عليه ما نصّه ‏‏(1)والكلامُ ‏المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع المُرْدية، فأما الكلام الموافق ‏للكتاب والسنّة ‏الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد ‏كان الشافعي يحسنه ‏ويفهمه، وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع، وأقام الحجة عليه حتى انقطع” ‏اهـ.‏
 
وقال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان (2) في باب القول في إيمان المقلّد والمرتاب ما نصه “أخبرنا ‏أبو ‏طاهر الفقيه، أنبأنا أبو بكر محمد ابن الحسين القطان، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا محمد ‏بن ‏يوسف الفريابي، حدثنا سفيان، عن جعفر ابن برقان، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه ‏سأله ‏رجل عن شيء من الأهواء فقال:عليك بدين الأعرابي الغلام في الكُتَّاب وَالْهُ عمن سوَاه“.‏ قال الإمام البيهقي رحمه الله “وهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز قاله غيره من السلف فإنما هو لأنهم ‏رأوا ‏أنه لا يحتاج إليه لتبيين صحَّة الدين في أصله، إذ كان رسول الله إنما بُعِثَ ‏مؤيداً ‏بالحُجج فكانت مشاهدتُها للذين شاهَدُوها، وبلاغُها المستفِيضُ ومن بَلغَه كافياً في إثبات ‏التوحيد والنُّبُوَّة ‏معاً عن غيرها، ولم يأمَنُوا أن يوسع الناس في علم الكلام، وأن يكون فيهم مَن لا ‏يكملُ عقلهُ ويضعُفُ ‏رأيُه فيرتبك في بعض ضلالة الضالين وشُبَه الملحدين، ولا يستطيع منها مَخْرجاً ‏كالرجل الضعيف غير ‏الماهر بالسباحة إذا وَقع في ماءٍ غامرٍ قويّ لم يُؤمَنْ أن يَغرق فيه ولا يقدر على ‏التخلُّص منه، ولم يَنْهَوا ‏عن علم الكلام لأنَّ عينه مذموم أو غير مفيد‎;‎‏ وكيف يكون العلم الذي ‏يُتوصل به إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ ‏وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبيّ الصادق وبين المُتَنَبّىء ‏الكاذب عليه مذموماً أو مرغوباً عنه؟ ‏ولكنهم لإشفاقهم على الضُّعفاء لئلا يبلغوا ما يريدون منه ‏فيضِلُّوا نَهَوْا عن الاشتغال به. ثم بسط الحليمي ‏رحمه الله تعالى الكلام في التحريض على تعلُّمه إعداداً ‏لأعداء الله عزّ وجل.‏ وقال غيره في نهيهم عن ذلك إنما هو لأن السَّلف من أهل السُّنَّة والجماعة كانوا يكتفون بمعجزات ‏الرسل ‏صلوات الله عليهم على الوجه الذي بيَّنا، وإنما يشتغِلُ في زمانهم بعلم الكلام أهلُ الأهواء، ‏فكانوا يَنْهَون ‏عن الاشتغال بكلام أهل الأهواء. ثم إنَّ أهل الأهواء كانوا يَدَّعون على أهل السُّنَّة أنَّ ‏مذاهبهم في ‏الأصول تخالف المعقول، فقيَّض الله تعالى جماعة منهم للاشتغال بالنظر والاستدلال حتى ‏تَبحروا فيه، وبينوا ‏بالدلائل النيرة والحجج الباهرة أن مذاهب أهل السنَّة توافق المعقول كما هي ‏موافقة لظاهر الكتاب ‏والسنّة، إلا أنَّ الإيجاب يكون بالكتاب والسنّة فيما يجوز في العقل أن يكون ‏غير واجب دون العقل، وقد ‏كان من السلف من يشرع في علم الكلام ويَرُدّ به على أهل الأهواء” ‏انتهى كلام الحافظ البيهقي.‏
 
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي في تعليقه على “بيان زغل العلم” ما نصه (3) “والحق أن ‏‏عقيدة السنة في الإسلام واحدة سلفاً وخلفاً لا تتغير ولا تتبدل بل الذي يتجدد هو طريق الدفاع ‏عنها ‏بالنظر لخصومها المتجددة، وذم علم الكلام ممن كان في موضع الإمامة من السلف محمول حتماً ‏على ‏كلام أهل البدع وخوض العامي فيه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وأجاد: لا يجحد علم ‏الكلام إلا ‏أحد رجلين جاهل رَكَنَ إلى التقليد وشقَّ عليه سلوك طرق أهل التحصيل وخلا عن طرق ‏أهل النظر ‏والناس أعداء ما جهلوا فلما انتهى عن التحقق بهذا العلم نهى الناس ليضل كما ضل، أو ‏رجل يعتقد ‏مذاهب فاسدة فينطوي على بدع خفية يلبس على الناس عوار مذهبه ويعمى عليهم ‏فضائح عقيدته ويعلم ‏أن أهل التحصيل من أهل النظر هم الذين يهتكون الستر عن بدعه ويظهرون ‏للناس قبح مقالاته، ‏والقلاب لا يحب من يميز النقود والخلل فيما في يده من النقود الفاسدة كالصراف ‏ذي التمييز والبصيرة ‏وقد قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة ‏الزمر:19]”اهـ.‏ ‏
__________________________
(1) تبيين كذب المفتري (ص/339). ‏ ‏
(2) شعب الإيمان (1/ 95- 96).‏ ‏
(3) بيان زغل العلم والطلب (ص/ 22).‏

 

بعض من اشتغل بعلم الكلام من السلف
اشتغل عدد من علماء السلف بعلم الكلام إلى جانب اشتغالهم بالقرءان والسنة، والذي ألجأهم إلى ‏ذلك ‏الحاجة للرد على أهل البدع والدفاع عن عقيدة أهل الحق وحراستها من تشويشات وشُبَه ‏هؤلاء ‏المنحرفين.‏ ومن أبرز علماء السلف المشتغلين بهذا العلم الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، ‏فقد ‏قال الحافظ البيهقي في كتابه مناقب الشافعي ما نصه (1)وقرأت في كتاب أبي نعيم ‏الأصبهاني ‏حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي: ‏كلَّم الشافعي ‏يوماً بعض الفقهاء فدقق عليه وحقق، وطالب وضيق، فقلت له: يا أبا عبد الله: هذا ‏لأهل الكلام لا لأهل ‏الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا” اهـ.‏ وقال الربيع بن سليمان “حضرت الشافعي وحدَّثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن ‏عبد ‏الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص ‏عبد الله بن ‏عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان، فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو، فلم يجبه ‏وكلاهما أشار إلى ‏الشافعي، فسأل الشافعي فاحتجَّ عليه الشافعي، فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي ‏بالحجة عليه بأن القرءان ‏كلام الله غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد، قال الربيع: فلقيت حفصاً الفرد في ‏المسجد بعدُ فقال: أراد ‏الشافعي قتلي (2) اهـ.‏
 
وللإمام أبي حنيفة رضي الله عنه (الفقه الأكبر) و (الرسالة) و(الفقه الأبسط) و (العالم والمتعلّم) و ‏‏‏(الوصية)، واختلف في نسبتها إلى الإمام كثيراً، فمنهم من ينكر نسبتها للإمام مطلقاً ويزعم أنها ‏ليست ‏من عمله، ومنهم من ينسبها إلى محمد بن يوسف البخاري المكنى بأبي حنيفة وهذا قول المعتزلة ‏لما فيها من ‏إبطال نصوصهم الزائغة وادعائهم كون الإمام منهم- أي في المعتقد- كما في المناقب ‏الكردرية. والإمام ‏أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلم في أصول الدين بالتوسُّع وأتقنها بقواطع البراهين ‏على رأس المائة ‏الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أو متكلمي أهل السنّة من الفقهاء ‏أبو حنيفة والشافعي، ‏ألّف فيه الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل بن سليمان ‏صاحب التفسير وكان مجسّماً، ‏وقد ناظر فرقة الخوارج والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة ‏فسافر إليها نيفاً وعشرين مرةً، ‏وفضَّهم بالأدلة الباهرة، وبلغ في الكلام- أي علم التوحيد- إلى أنه ‏كان المشار إليه بين الأنام، واقتدى به ‏تلامذته الأعلام.‏ وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أنه كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وحماد ‏بن ‏أبي حنيفة قد خَصَمُوا بالكلام الناس أي ألزموا المخالفين وهم أئمة العلم. وعن الإمام أبي عبد الله ‏‏الصيمري أن الإمام أبا حنيفة كان متكلم هذه الأمة في زمانه، وفقيههم في الحلال والحرام.‏ ‏ هذه الكتب الخمسة ليست من جمع الإمام أبي حنيفة، بل الصحيح أن هذه المسائل المذكورة في هذه ‏‏الكتب من أمالي الإمام التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع الحكم بن عبد الله ‏‏البلخي وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من ‏الأئمة ‏كإسمعيل بن حمّاد ومحمد بن مقاتل الرازي ومحمّد بن سماعة ونصير بن يحي البلخي وشداد بن ‏الحكم ‏وغيرهم، إلى أن وصلت بالإسناد الصحيح إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، فمن عزاهن إلى ‏الإمام صح ‏لكون تلك المسائل من إملائه، ومن عزاهن إلى أبي مطيع البلخي أو غيره ممن هو في طبقته ‏أو ممن هو ‏بعدهم صح لكونها من جمعه، ذكر ذلك الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (3).‏
 
وقال العلامة الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع “إن الأئمة انتدبوا للرد على أهل البدع ‏والضلال، ‏وقد صنَّف الشافعيّ كتاب (القياس) ردَّ فيه على من قال بقدم العالم من الملحدين، وكتاب ‏‏(الرد على ‏البراهمة) وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم والمتعلّم) رد فيه على ‏المخالفين، ‏وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق القويم، وكذلك الإمام ‏أحمد“اهـ.‏ وقد صنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسماعيل البخاري – المتوفى سنة 256 هـ- كتاب (خلق ‏‏أفعال العباد)، وصنَّف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام- المتوفى في حبس الواثق ‏سنة ‏‏228 هـ- كتاباً في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنَّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي- ‏المتوفى سنة ‏‏242 هـ- وهو من أقران الإمام أحمد أيضاً في الردّ على الجهمية، وقد ردّ على المعتزلة ‏فأجاد بالتأليف ‏ثلاثة- من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد بن حنبل: الحارث المحاسبي، والحسين ‏الكرابيسي، وعبد الله ‏بن سعيد بن كُلاّب- المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل- ويمتاز الأول بإمامته ‏أيضاً في التصوف.‏ وقد صنَّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو ‏منصور ‏الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج ‏المنقول ‏والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. ‏وكانت وفاة ‏الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة ، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة ‏الأشعري بقليل.‏ وصنَّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج ‏الدامغة ‏الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا ‏غيرهم من ‏المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافِقَينْ (4) ‏وأبرزهم في نشره ‏ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي الإمام أبو ‏بكر الباقلاني، فالأولان ‏نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة ‏الخامسة إلا والأمة الإسلامية ‏أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نذر من المعتزلة وشرذمة من ‏المشبّهة وطائفة من الخوارج، فلا تجد ‏عالماً محقّقاً أو فقيهاً مدققاً إلا وهو أشعري أو ماتريدي.‏
 
وإن حال هؤلاء المنكرين لعلم الكلام لهو الموصوف بقول الشاعر فيهم:‏ ‏( البسيط)‏
 
عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم…. وما عليه إذا عابوه من ضررِ ‏
ما ضرَّ شمسَ الضحى في الأفْقِ طالعة…. أنْ لا يَرى ضَوْءَها من ليس ذا بصرِ‏ ‏
 
فائدة مهمة: قال الشيخ الفقيه الأصولي الزركشي في كتابه تشنيف المسامع (5) ما نصه “قال الإمام ‏أبو ‏بكر الإسماعيلي (6) أعاد الله هذا الدين بعدما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن ‏الأشعري ‏وأبي نعيم الإستراباذى، وقال أبو إسحاق المَرْوَزي: سمعت المحاملي يقول في أبي الحسن ‏الأشعري: لو أتى ‏الله بقُراب الأرض ذنوباً رجوت أن يغفر الله له لدفعه عن دينه، وقال ابن العربي: ‏كانت المعتزلة قد رفعوا ‏رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم” اهـ.‏ ومثل هذا يقال في أبي منصور الماتريدي لأنه مثله قام بتقرير عقيدة السلف بالأدلة النقلية والعقلية ‏بإيضاح ‏واسع، فقد جمع هذان الإمامان الإثبات مع التنزيه فليسا على التشبيه ولا التعطيل ولعن الله ‏من يسمي ‏الأشعري أو الماتريدي معطلاً، فهل خالفا التنزيه الذي ذكره الله بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ ‏شَيْء) [سورة ‏الشورى:11]، فإنهما نفيا عن الله الجسمية وما ينبني عليها، وهذا ذنبهما عند ‏المشبهة كالوهابية ومن سبقهم ‏من المشبهة، فإن المشبهة قاست الخالق بالمخلوق فنفت موجوداً ليس ‏جسماً، والإمامان ومن تبعهما وهم ‏الأمة المحمدية قالوا إن الله لو كان جسماً لكان له أمثال لا ‏تحصى.‏ وهذا هو دين الله الذي كان عليه السلف الصالح وتلقاه عنهم الخلف الصالح، وطريقة الأشعري ‏‏والماتريدي في أصول العقائد متحدة. فالمذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح هو ما عليه ‏الأشعرية ‏والماتريدية وهم مئات الملايين من المسلمين، فكيف يكون هؤلاء السوادُ الأعظم على ضلال ‏وتكون ‏شرذمة هي نحو ثلاثة ملايين على الحق؟!، والصواب أن الرسول أخبر بأن جمهور ‏أمته لا ‏يضلون وذلك من خصائص هذه الأمة، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما ‏‏(7)إن ‏الله لا يجمع أمتي على ضلالة” وعند ابن ماجه زيادة “فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد ‏الأعظم“، ‏ويقوي هذا الحديث الحديث الموقوف (8) على أبي مسعود البدري “وعليكم بالجماعة ‏فإن الله لا يجمع ‏هذه الأمة على ضلالة” قال الحافظ ابن حجر (9) “وإسناده حسن”، والحديث ‏الموقوف (10) على عبد ‏الله بن مسعود وهو أيضاً ثابت عنه (ما رءاه المسلمون حسناً فهو عند الله ‏حسن، وما رءاه المسلمون ‏قبيحاً فهو عند الله قبيح)، قال الحافظ ابن حجر (11) “هذا موقوف ‏حسن” ولا ينافي ما قررناه من أن ‏الجمهور معصومون من الضلالة ما صح مرفوعاً إليه من قوله (12)لا تزال ‏طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة“، فإن هذا أريد ‏به طائفة متمسكة من بينهم بالدين ‏على الكمال ولا شك أن المتمسكين بالدين على الكمال هم أقل ‏الأمة، وليس معنى ذلك أن أكثر ‏المنتسبين إلى الإسلام يكونون ضالين من حيث العقيدة خارجين عن ‏الإسلام كما صرحت بذلك الوهابية ‏ووافقهم أبو الأعلى المودودي، فعندهم جمهور المنتسبين للإسلام ‏ليسوا على الهدى بل على الشرك، وقد ‏صح (13) أن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون من هذه ‏الأمة، فلا يمكن أن يكون هؤلاء الثمانون ‏هذه الشرذمة الوهابية، وهل كانت الوهابية قبل قرنين، فإن ‏معتقدها منبثق من محمد بن عبد الوهاب ‏المتوفى سنة مائتين وألف وست للهجرة وبعض معتقداتها ‏مأخوذ من أحمد بن تيمية المتوفى سنة سبعمائة ‏وثمان وعشرين للهجرة وهو شذ عن ما كان عليه من ‏قبله من أهل الحق بقوله: إن جنس العالم ليس ‏حادثاً إنما الحادث الأفراد أي الأشخاص المعينة فكل ‏شخص وفرد عنده حادث ولكن إلى ما لا نهاية له ‏ولا ابتداء، فجعل العرش أزليّاً بنوعه وجنسه بمعنى ‏أن العرش لم يزل مع الله ولكن عينه ليس دائماً بل ‏يتجدد كل ءان بعد عدم، وقد نقل ذلك عنه ‏الإمام جلال الدين الدَّواني وهو من ثقات العلماء كما وثقه ‏الحافظ السخاوي في “البدر اللامع في ‏تراجم أهل القرن التاسع”، ونسب إلى ابن تيمية ذلك الحافظان ‏الجليلان المعاصران له وهما الحافظ ‏المجتهد تقي الدين السبكي والحافظ أبو سعيد العلائي.‏
 
وفيما ذهب إليه ابن تيمية تكذيب لقول الله تعالى(هُوَ اَلأوّلُ) [سورة الحديد:3]، لأن مراد الله ‏تعالى ‏بأوليته الأولية المطلقة ليست الأولية المقيدة النسبية، لأن ذلك ليس لله تعالى فيه خصوصية، إذ ‏الماء والعرش ‏لهما تلك الأولية النسبية لأنهما أول ما خلق الله لم يخلق الله قبلهما شيئاً كما نطق بذلك ‏الحديث الصحيح ‏‏(14)كان الله ولم يكن شىء غيره“، فثبت أن ابن تيمية كذَّب هذا الحديث ‏الصحيح كما كذَّب الآية ‏المذكورة وكذَّب الإجماع لأنه لم يقل قبله أحد من المسلمين إن نوع العالم ‏لم يزل مع الله أزليّاً، وإنما قال ‏بذلك متأخرو الفلاسفة الذين هم على خلاف رأي إرسطو. ولم يخش ‏ابن تيمية من الله حيث افترى على ‏أئمة أهل السنة والحديث بنسبته ذلك إليهم ولا يعرف واحد منهم ‏قال ذلك، لكن ابن تيمية يربأ بنفسه ‏عن أن يُنسب إلى موافقة رأي المُحْدَثين من الفلاسفة الذين ‏وافقهم برأيهم القائلين بمثل مقالته، وليست ‏هذه المسألة من المسائل التي يدخلها الاجتهاد بل من ‏أخطأ فيها كفر بالإجماع، قال السبكي في شرح ‏عقيدة ابن الحاجب”اعلم أن حكم الجواهر ‏والأعراض كلها الحدوث فإذاً العالم كله حادث، وعلى هذا ‏إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف ‏في ذلك فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي” اهـ، ذكر ذلك ‏المحدث الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي ‏في شرح إحياء علوم الدين (15).‏
 
وكذلك كان ابن هرمز من العارفين بعلم الكلام، فقد قال الحافظ البيهقي في “شعب الإيمان ” ما ‏نصه ‏‏(16)أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أحمد بن سهل، ثنا إبراهيم بن معقل، ثنا حَرملة، ثنا ‏ابن ‏وهب، ثنا مالك أنه دخل يوماً على عبد لله بن يزيد بن هرمز فذكر قصة، ثم قال: وكان – يعني ‏ابن ‏هرمز- بصيراً بالكلام، وكان يردُّ على أهل الأهواء، وكان من أعلم الناس بما اختلفوا فيه من هذه ‏‏الأهواء” اهـ.‏ ‏ وابن هرمز توفي سنة 148اهـ، قال فيه الذهبي في “السير” (17) “فقيه المدينة، عداده في التابعين ‏‏وقلَّما روى، كان يتعبد ويتزهد، وجالسه مالك كثيراً وأخذ عنه. قال مالك: كنت أحب أن أقتدي ‏به، ‏وكان قليل الفتيا شديد التحفظ، كثيراً ما يفتي الرجل ثم يبعث من يرده ثم يخبره بغير ما أفتاه، ‏وكان ‏بصيراً بالكلام يرد على أهل الأهواء، كان من أعلم الناس بذلك، بيَّن مسئلة لابن عجلان فلما ‏فهمها قام ‏إليه ابن عجلان فقبَّل رأسه “، ثم قال الذهبي: “قال مالك: جلست إلى ابن هرمز ثلاث ‏عشرة سنة ‏واستحلفني أن لا أذكر اسمه في الحديث ” اهـ.‏ فمن هنا يُعلم أن ما يُروى عن مالك أنه ذم علم الكلام محمول على كلام المبتدعة وأهل الأهواء ‏وليس ‏علم الكلام الممدوح الذي كان ابن هرمز شيخ الإمام مالك بصيراً به كما روى ذلك عنه ‏مالك نفسه من ‏غير إنكار، فالمذموم من هذا العلم ما خالف القرءان أو الحديث أو الإجماع.‏ ‏ و
 
كذلك قطع قاضي البصرة إياس بن معاوية القدرية، وكان يضرب به المثل في الذكاء والدَّهاء ‏والسؤُّددِ ‏والعقل، روى الحافظ أبو نُعَيْم في “الحلية” (18) عن حبيب بن الشهيد قال‏ ‏”سمعت إياس بن معاوية يقول: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، فإني ‏قلت ‏لهم: ما الظلم فيكم؟ قالوا: أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلتُ لهم: فإن لله عز وجل كل شىء” ‏اهـ.‏ ومن الذين اشتغلوا بعلم الكلام للرد على أهل البدع الشيخ الحارث بن أسد المحاسبي شيخ الجنيد ‏رحمهما ‏الله تعالى.‏ والكلام بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة، فأول متكلمي أهل السنة من الصحابة علي بن ‏أبي ‏طالب لمناظرته الخوارج في مسائل الوعد والوعيد ومناظرته القدرية في القدر والقضاء والمشيئة ‏‏والاستطاعة، ثم عبد الله بن عمر في كلامه على القدرية وبراءته منهم ومن زعيمهم المعروف بمعبد ‏الجهني. ‏وادَّعت القدرية أن عليّاً كان منهم وزعموا أن زعيمهم المعروف بمعبد الجهني . وادَّعت ‏القدرية أن عليّا ‏كان منهم وزعموا أن زعيمهم واصل بن عطاء الغزّال أخذ مذهبه من محمد وعبد الله ‏ابني علي رضي الله ‏عنه وهذا من بهتهم، ومن العجائب أن يكون ابنا علي قد علَّما واصلاً رَدَّ شهادة ‏علي وطلحة والشكَّ في ‏عدالة علي، أَفَتَراهما علَّماه إبطال شفاعة علي وشفاعة صهر المصطفى.‏ وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز وله رسالة بليغة في الرد على القدرية، ثم زيد ‏ابن ‏علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وله كتاب في الرد على القدرية، ثم الحسن البصري وقد ‏ادَّعَتْه ‏القدرية فكيف يصح لها هذه الدعوى مع رسالته إلى عمر بن عبد العزيز في ذم القدرية ومع ‏طرده واصلاً ‏عن مجلسه عند إظهاره بدعَتَهُ، ثم الشعبي وكان أشد الناس على القدرية، ثم الزهري وهو ‏الذي أفتى عبدَ ‏الملك بن مروان بدماء القدرية، ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق وله ‏كتاب في الرد على ‏القدرية وكتاب في الرد على الخوارج، وهو الذي قال “أرادت المعتزلة أن تُوَحّد ‏ربَّها فَألحَدَتْ وأرادت ‏التعديل فنسبت البخل إلى ربها“. وأول متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب ‏أبو حنيفة والشافعي فإن ‏أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سماه كتاب الفقه الأكبر، وقال ‏صاحبه أبو يوسف في المعتزلة: ‏إنهم زنادقة، وللشافعي كتابان في الكلام أحدهما في تصحيح النبوة ‏والرد على البراهمة والثاني في الرد على ‏أهل الأهواء، وذكر طرفاً من هذا النوع في كتاب “القياس” ‏وأشار فيه إلى رجوعه عن قبول شهادة ‏المعتزلة وأهل الأهواء.
 
ثم من بعد الشافعي تلامذته الجامعون ‏بين علم الفقه والكلام كالحارث بن أسد ‏المحاسبي وأبي علي الكرابيسي وحرملة البُوَيْطي وداود ‏الأصبهاني، وعلى كتاب الكرابيسي في المقالات ‏مُعَوَّلُ المتكلمين في معرفة مذاهب الخوارج وسائر ‏أهل الأهواء، وعلى كتبه في الشروط وفي علل الحديث ‏والجرح والتعديل مُعَوَّلُ الفقهاء وحفاظ ‏الحديث، وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه والحديث ‏مُعَوَّلُ متكلمي أصحابنا وفقهائهم ‏وصوفيتهم، وكان أبو العباس بن سُرَيج أنزع الجماعة في هذه العلوم.‏ ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي الذي دَمَّر على المعتزلة في مجلس ‏المأمون ‏وفضحهم ببيانه وءاثار بيانه في كتبه وهو أخو يحيى بن سعيد القطمان وارث علم الحديث ‏وصاحب ‏الجرح والتعديل، ومن تلامذة عبد الله بن سعيد عبد العزيز المكي الكتاني الذي فضح ‏المعتزلة في مجلس ‏المأمون، وتلميذه الحسين بن الفضل البجلي صاحب الكلام والأصول وصاحب ‏التفسير والتأويل وعلى ‏نكته في القرءان مُعَوَّلُ المفسرين وهو الذي استصحبه عبد الله بن طاهر والي ‏خراسان إلى خراسان فقال ‏الناس: إنه قد أخرج علم العراق كله إلى خراسان، ومن تلامذة عبد الله ‏بن سعيد أيضاً الجنيد شيخ ‏الصوفية وإمام الموحدين وله في التوحيد رسالة على شرط المتكلمين ‏وعبارة الصوفية، ثم بعدهم شيخ النظر ‏وإمام الآفاق في الجدل والتحقيق أبو الحسن علي ابن إسماعيل ‏الأشعري الذي صار شجاً في حلوق القدرية ‏والنجارية والجهمية والجسمية والخوارج وقد ملأ الدنيا ‏كتبه وما رُزِقَ أحد من المتكلمين من التَّبَع ما قد ‏رُزِقَ لأن جميع أهل الحديث وكل من لم يتمعزل من ‏أهل الرأي على مذهبه، ومن تلامذته المشهورين أبو ‏الحسن الباهلي وأبو عبد الله بن مجاهد وهمما ‏اللذان أَثْمَرا تلامذة هم إلى اليوم شموس الزمان وأئمة العصر ‏كأبي بكر محمد بن الطيب قاضي قضاة ‏العراق والجزيرة وفارس وكرمان وسائر حدود هذه النواحي، ‏وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك، ‏وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المهراني، وقبلهم أبو الحسن علي بن ‏مهدي الطبري صاحب الفقه ‏والكلام والأصول والأدب والنحو والحديث، ومن ءاثاره تلميذ مثل أبي ‏عبد الله الحسين بن محمد ‏البزازي صاحب الجدل والتصانيف في كل باب من الكلام، وقبل هذه الطبقة شيخ العلوم على الخصوص والعموم أبو علي الثقفي، وفي زمانه كان إمام أهل السنة أبو ‏‏العباس القلانسي الذي زادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتاباً، وتصانيف الثقفي ونقوضه ‏على ‏أهل‎ ‎الأهواء زائدةٌ على مائة كتاب. قال أبو منصور البغدادي: وقد أدركنا منهم في عصرنا أبا ‏عبد الله ‏بن مجاهد ومحمد بن الطيب قاضي القضاة و محمد ابن الحسين بن فورك إبراهيم بن محمد ‏المهراني والحسين ‏بن محمد البزازي، وعلى منوال هؤلاء الذين أدركناهم شيخنا وهو لإحياء الحق كل ‏وعلى أعدائه غلٌّ.‏ ذكرنا ذلك كله من كتاب أصول الدين، للبغدادي (19).‏ ‏
__________________________
(1) مناقب الشافعي (1/ 457).‏
(2) الأسماء و الصفات (ص/252)، تبيين كذب المفتري (ص/339-340).‏
(3) إتحاف السادة المتقين (2/ 13- 14).‏ ‏
(4) المشرق والمغرب.‏
(5) تشنيف المسامع (ص/ 395)، مخطوط.‏
(6) أبو بكر الإسماعيلي الذي مر ذكره أحد أكابر حفاظ الحديث له مستخرج على البخاري، ‏وأصحاب ‏المستخرجات متبحرون في حفظ الحديث.‏ ‏
(7) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، وابن ماجه في ‏سننه:كتاب ‏الفتن: باب السواد الأعظم، والحاكم في المستدرك (1/ 115 و 116)، وأحمد في ‏مسنده (6/396).‏ ‏
(8) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (ص/ 42).‏ ‏
(9) موافقة الخبر الخبر (1/ 115).‏
(10) مسند أحمد (1/ 379)، وانظر كشف الأستار (1/ 81).‏ ‏
(11) موافقة الخبر الخبر (1/ 115).‏
(12) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 449).‏
(13) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة الجنة: باب ما جاء في وصف أهل الجنة.‏
(14) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي ‏يَبْدَأُ ‏الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ{27} [سورة الروم].‏ ‏
(15) إتحاف السادة المتقين (2/ 94).‏ ‏
(16)شعب الإيمان (1/ 96).‏ ‏
(17) سير أعلام النبلاء (6/379-380).‏
(18)حلية الأولياء(3/124).‏ ‏
(19) أصول الدين (ص/307 وما بعدها).‏
منهج علماء الكلام في تقرير العقيدة
اعلم أن أصول التوحيد وسائر أمور العقيدة الحقة قامت على حقيتها حجج الكتاب والسنة الواضحة ‏‏وإجماع الأمة الهادية، وبراهين العقول المستقيمة التي هي شاهدة للشرع وذلك مما اختص به الإسلام ‏من ‏بين الأديان لأنه لم يأت بشىء إلا والعقل شاهد له، أما سائر الأديان فعلى خلاف ذلك، لذا ‏كانت ‏مصنفات أهل الحق في ترتيب الأدلة للرد على المبتدعة والملحدين والمنحرفين مبنية على ما ‏ذكرنا، وتفصيل ‏ذلك ما يلي:‏
 
ا- القرءان: وهو أصل الحجج وبه تثبت الرسالة وقامت الحجة على دحض الضلال، وهو المهيمن ‏على ‏الكتب السماوية، وبه يميّز الحق من الباطل، وقد أمر الله برد المتنازع فيه إليه وإلى رسوله صلى ‏الله عليه ‏وسلم، قال تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء: 59]، ‏والرد إلى الله ‏هو الرد إلى القرءان، والرد إلى الرسول هو الرد إلى الأحاديث الصحاح الثابتة عن ‏رسول الله .
 
2- السُّنة: اعلم أن الاحتجاج بالحديث في أمور الاعتقاديات يشترط فيه أن يكون الراوي متفقاً على ‏‏ثقته أي أن يرد الحديث بإسناد غير مختلف فيه كما ذهب إلى ذلك أهل التنزيه من المحدَثين والفقهاء، ‏فلا ‏يكفي الاحتجاج بالحديث الذي ورد من طريق ضعيف لو اعتضد كما قال الحافظ ابن حجر ‏العسقلاني ‏في “شرح صحيح البخاري “، ونص عبارته (1)لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق ‏نسبته إلى الرب ‏ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت” ‏اهـ، أي لا يكفي ‏ذلك في مسائل الاعتقاد.‏ وذكر الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقّه ما نصه “والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق ‏على ‏توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُخْتَلَف ‏فيه وجاء ‏حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتَجُّ به” اهـ.‏ وقد نقل البيهقي في “الأسماء والصفات” (2) عن أبي سليمان الخطابي أنه لا تثبت لله صفة إلا ‏بكتاب ‏ناطق أو خبر مقطوع بصحته.‏ وكذلك يحتج بالحديث المتواتر وهو أعلى درجات الحديث الصحيح، والمتواتر هو ما أخبر به جمع ‏كثير ‏عن مشاهدة وإحساس واستمرت هذه الكثرة في الطبقة الأولى وهي التي شاهدت المخْبِرَ به ‏والثانية ‏والثالثة، فهذا الخبر لا يحتمل الكذب.‏ وأمّا ما نزل عن التواتر فهو مستفيض ويقال له المشهور، ومنه ما هو دون ذلك، فالمستفيض الذي هو ‏‏المشهور حجة في الاعتقاديات لإفادته العلم كالمتواتر، والمشهور هو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر، ‏وقد ‏اشترط أبو حنيفة وأتباعه من الماتريدية أن يكون الحديث في درجة المشهور للاحتجاج به في ‏أمور ‏العقيدة، واحتج في رسائله التي ألفها في الاعتقاد بنحو أربعين حديثاً من قبيل المشهور جمعها ‏كمال الدين ‏البياضي.‏ وأما ما نزل عن ذلك فلا يحتج به لإثبات الصفات.
 
3- الإجماع: وهو إجماع أهل الحق في مسئلة دينية، فالأصل الذي يبنى عليه إثبات قدم صفات الله ‏تعالى ‏هو الإجماع القطعي، قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب “اعلم أن حكم الجواهر ‏والأعراض كلها ‏الحدوث فإذاً العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف ‏في هذا فهو كافر ‏لمخالفته الإجماع القطعي“اهـ، انظر”إتحاف السادة المتقين” (3).
 
4- العقل: اعلم أن الله تبارك وتعالى حث عباده في القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال ‏‏تعالى (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [سورة الأعراف: 185]، وقال تعالى (‏‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [سورة فصلت: 53]. وعلماء ‏‏التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتماداً على مجرد النظر بالعقل، بل ‏يتكلمون ‏في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏فالعقل عند ‏علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلاً للدين، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عما ‏جاء به الشرع ‏ولا يتناقض معه.‏ واعلم أيضاً أن علماء الحديث ذكروا أن الحديث إذا خالف النص القرءاني أو الحديث المتواتر أو ‏صريح ‏العقل ولم يَقبل تأويلاً فهو باطل، وذكر ذلك الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج ‏الدين ‏السبكي في جمع الجوامع وغيره.‏ وقال الحافظ الفقيه الخطيب البغدادي في كتابه “الفقيه والمتفقه ” ما نصه (4)وإذا روى الثقة ‏المأمون ‏خبراً متصل الإسناد رُد بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع ‏إنما يَرِد ‏بمجوَّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا” اهـ.‏
 
وليُعلم أن العقل مفيد للعلم خلافاً للسُّمَّنية في جميع النظريات وبعض الفلاسفة في الإلهيات. فإن قيل: ‏لو ‏كان هذا يفيد العلم القطعي لتحقق في كل من نظر فيه والواقع خلاف ذلك فإن كثيراً من ‏الناظرين فيه لا ‏يتحقق لهم ذلك العلم القطعي، فالجواب أن يقال: إنما لم يحصل لهم العلم به لفساد ‏نظرهم، وأما النظر ‏الصحيح هو الذي استوفى شرط النظر فهو في حد ذاته مفيد للعلم القطعي.‏ تنبيه: قال الشيخ شرف الدين التلمساني في شرح لمع الأدلة (5) ما نصه “إن الشرع إنما ثبت بالعقل ‏فلا ‏يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل، فإذا تقرّر هذا ‏فنقول: ‏كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات مما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن ‏يكون ‏متواتراً أو ءاحاداً، فإن كان ءاحاداً وهو نص لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو ‏غلطه، ‏وإن كان ظاهراً فالظاهر منه غير مراد، وإن كان متواتراً فلا يتصور أن يكون نصّاً لا يحتمل ‏التأويل فلا ‏بُد أن يكون ظاهراً أو مُحْتَمِلاً فحينئذ نقول: الاحتمال الذي دل العقل على خلافه ليس ‏بمراد منه، فإن ‏بقي بعد إزالته احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال، وإن بقي احتمالان فصاعداً ‏فلا يخلو إما أن يدل ‏قاطع على تعيين واحد منها أو لا، فإن دَلَّ حُمل عليه، وإن لم يدل قاطع على ‏التعيين فهل يعين بالظن ‏والاجتهاد؟ اختلف فيه فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد” اهـ.‏ وقول ابن التلمساني إن مذهب السلف عدم التعيين لعله يريد بذلك عدم كثرة ذلك بالنسبة للخلف ‏وإلا ‏فقد ثبت عن السلف كما ثبت عن الخلف، فمن نفى التأويل عن السلف غالط لثبوت ذلك عن ‏أحمد ‏بالإسناد الصحيح، وكذلك ثبت عن الإمام البخاري وغيرهما.‏
__________________________
(1)‏ فتح الباري (1/ 174).‏
(2)‏ الأسماء والصفات (ص/ 335).‏ ‏
(3)‏ إتحاف السادة المتقين (2/ 94).‏
(4)‏ الفقيه والمتفقه (ص/ 132).‏ ‏
(5)‏ شرح لمع الأدلة (ص/ 76)، مخطوط.‏

 

بيان شبه المانعين من الإشتغال بعلم الكلام والإجابة عنها
ذهب بعض الناس إلى تحريم الاشتغال بعلم الكلام مستدلين بأن الصحابة لم يتعلموا ولا علَّموا هذا ‏العلم، ‏وأن جماعة من السلف ذموه إلى غير ذلك من الشبهات، وجواباً على ذلك نقول:‏ إن قولهم لم ينقل أنه علّم أحداً من أصحابه هذا العلم، ولا عن أحد من أصحابه ‏أنه ‏تعلم أو علّم غيره، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان .، فلو كان هذا العلم مهمّاً في ‏الدين لكان ‏أولى به الصحابة والتابعون.‏ قلنا: إن عُني بهذا المقال أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحقية رسوله وصحة ‏معجزاته ‏بدلالة العقل بل أقروا بذلك تقليداً فهو بعيد من القول شنيع من الكلام، وقد ردَّ الله عز ‏وجلَّ في كتابه ‏على من قلَّد أباه في عبادة الأصنام بقوله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم ‏مُّقْتَدُونَ{23}) ‏سورة الزخرف، أي أن أولئك اقتدوا بآبائهم في إشراكهم بغير دليل يقوم على ‏صحة ذلك الدين، وهذا ‏يفهم منه أن علم الدليل مطلوب، قال أبو حنيفة رضي الله عنه جواباً على ‏القائلين: لِمَ تتكلمون بعلم ‏الكلام والصحابة لم يتكلموا فيه “إنما مثلهم كأناس ليس بحضرتهم من ‏يقاتلهم فلم يحتاجوا إلى إبراز ‏السلاح، ومثلنا كأناس بحضرتهم من يقاتلهم فاحتاجوا إلى إبرأز السلاح‏‏” أهـ.‏
 
وإن أريد أن الصحابة لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو: الجوهر ‏والعرض، ‏والجائز والمحال، والحدث والقِدم، فهذا مُسَلَّمٌ به، لكننا نعارض هذا بمثله في سائر العلوم، ‏فإنه لم ينقل عن ‏النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفّظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل ‏والمتشابه، وغيرها كما هو ‏المستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة ‏والمناقضة، والطرد والشرط، والسبب ‏والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح ‏والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر ‏والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل ‏الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض ‏هذه العلوم لهذه العلة، على أنه في عصر النبي لم تظهر الأهواء والبدع فلم تمسّ ‏الحاجة إلى الدخول في التفاصيل والاصطلاحات.‏ فإن قيل: روى البيهقي (1) بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال “تفكَّروا في كل شىء ولا تفكروا ‏في ‏ذات الله” فهو منهي عنه.‏ فالجواب: أن النهي ورد عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر وإعمال ‏الفكر ‏والتأمل في ملكوت السماوات والأرض ليستدل بذلك على وجود الصانع، وعلى أنه لا يشبه ‏شيئاً من ‏خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر الصحيح. وقد أمر القرءان ‏بتعلّم الأدلة ‏على العقائد الإسلامية على وجوده تعالى وعلى ثبوت العلم له والقدرة والمشيئة ‏والوحدانية إلى غير ذلك، ‏ولم يطعن إمام معتبر في هذا العلم الذي هو مقصد أهل السنّة والجماعة من ‏السلف والخلف.‏
 
وما يروى عن الشافعي أنه قال “لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه ‏بعلم ‏الكلام ” بهذا اللفظ فهو غير ثابت عنه، واللفظ الثابت عنه هو “لن يلقى الله عز وجل العبدُ ‏بكل ذنب ‏ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء (2). والأهواء جمع هوى وهو ‏ما مالت إليه ‏نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف، أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد ‏كالخوارج والمعتزلة ‏والمرجئة والنجارية وغيرهم، وهم الاثنتان والسبعون فرقة كما ورد في الحديث ‏المشهور “وان هذه الملة ‏ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي ‏الجماعة” رواه أبو داود (3). ‏فليس كلام الشافعي على إطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم ‏الذين جانبوا نصوص الشريعة كتاباً ‏وسنّةً، وتعمقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب ‏والسنّة الموضح لحقائق الشريعة عند ‏ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمّه الشافعي، وقد ‏كان الشافعي رضي الله عنه يحسنه ‏ويفهمه وقد ناظر بِشْراً المريسي وحفصاً الفرد فقطعهما.‏
 
فإن قيل: قد ذمَّ علم الكلام جماعةٌ من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: من طلب الدين بالكلام ‏‏تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب، وروي مثله عن الإمام ‏مالك ‏والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.‏ قلنا: أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله (4)إنما يريد والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع، ‏فإن ‏في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام ‏حتى ‏اضطروا إليه بعد” اهـ، قال ابن عساكر (5)فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك ‏بقائله ‏أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية. وتحتمل وجهاً ءاخر وهو أن يكون المراد بها ‏أن يقتصر ‏على علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض ‏العمل بما أُمر بفعله ‏من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل مـا أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من ‏الأحكام. وقد بلغني عن ‏حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل ‏الدين، والفقه فرعه، والعمل ثمره، ‏فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل ‏دون الكلام والفقه ابتدع، ومن ‏اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسَّق، ومن تفنَّن في الأبواب كلها ‏تخلص” اهـ، وقد روي مثل كلام ‏حاتم عن أبي بكر الورَّاق.‏
 
ويضاف جواباً عما تمسك به المانعون مما يذكرونه عن مالك بأن شيخه ابن هرمز أحد فقهاء المدينة ‏‏المنورة كان بصيراً بعلم الكلام يرد على أهل الأهواء، وقد جالسه مالك كثيراً وأخذ عنه (6) كما ‏تقدم، ‏فبطل بذلك ما تمسك به هؤلاء.‏ فإن قيل: إن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينكر على مَن يتكلم في علم الكلام فلذلك أمر بهجر ‏الحارث ‏المحاسبي.‏ فالجواب: أن الإمام أحمد لم يحرم الاشتغال بعلم الكلام بدليل ثنائه على المحاسبي، فقد قال تاج الدين ‏‏السبكي في طبقاته (7) ما نصه “ذكر الحاكم أبو عبد الله أن أبا بكر أحمد بن إسحاق الصَّبْغِيَّ ‏أخبره ‏قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق السرَّاج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا ‏يُكثر الكون ‏عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأسمع كلامه. فقصدت الحارث ‏وسألته أن ‏يحضرنا تلك الليلة وأن يحضر أصحابه، فقال: فيهم كثرة، فلا تَزِدْهم على الكُسْب (8)والتمر، فأتيت أبا ‏عبد الله فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في وِرده وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ‏ثم صلّوا العَتَمة ولم ‏يصلّوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث ينطقون إلى قريب نصف الليل، ثم ابتدأ ‏رجل منهم فسأل عن ‏مسئلة، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير، ‏فمنهم من يبكى ومنهم ‏من يَحِنُّ، ومنهم من يزعق وهو في كلامه، فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي ‏عبد الله فوجدته قد بكى ‏حتى غُشي عليه، فانصرفت إليهم، ولم تزل تلك حالهم حتى اصبحوا ‏وذهبوا، فصعدت إلى أبي عبد الله ‏فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم ‏الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ومع هذا فلا ‏أرى لك صحبتهم، ثم قام وخرج، وفي رواية أخرى أن ‏أحمد قال: لا أُنكر من هذا شيئا.‏ قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة، واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم ‏لقصوره ‏عن مقامهم، فإنهم في مقامٍ ضيّق لا يسلكه كل أحد فيُخاف على سلكه، وإلا فأحمد قد ‏بكى وشكر ‏الحارث هذا الشكر، ولكلّ رأي واجتهاد حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين ‏صلى الله عليه ‏وعلى ءاله وأصحابه وسلَّم” اهـ.‏ قال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في “مناقب الشافعي” (9) ما نصه ‏”باب ما جاء عن الشافعي رحمه الله في مجانبة أهل الأهواء وبغضه إياهم وذمه كلامهم وإزرائه بهم ‏ودقه ‏عليهم ومناظرته إياهم.‏ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن عبدان قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يقول: ‏سمعت ‏الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك ‏بالله خير ‏من أن يلقاه بشيء من الهوى. وفي رواية بشيء من الأهواء .‏ زاد فيه غير الربيع: وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه فقال الشافعي: في كتاب الله ‏المشيئة ‏له دون خلقه، والمشيئة إثبات إرادة الله يقول الله عز وجل: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ‏‏{30}) ‏‏[سورة الإنسان]، فأعلم خلقه أن المشيئة له.، وكان يثبت القدر.‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا عبد الله بن محمد القاضي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ‏‏زياد، قال: حدثنا أبو يحيى الساجي- أو فيما أجاز لي مشافهة- قال: أخبرنا الربيع فذكره وقال: ‏بشيء ‏من هذه الأهواء.‏ أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا أبو الوليد يقول: سمعت إبراهيم بن محمود يقول:‏ ح وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الوليد الفقيه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود قال: ‏‏حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو ‏رأيت ‏صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته، فقال الشافعي: أما إنه قصَّر، لو رأيته يمشي في الهواء ما ‏قبلته.‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله ابن محمد العمري قال: حدثنا أبو ‏بكر ‏محمد بن إسحاق قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أتيت الشافعي بعدما كلم حفصاً ‏الفرد فقال: ‏غبت عنا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شىء والله ما توهمنه قط، ولأن ‏يُبْتَلى المرء بجميع ‏ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام.‏ قلت: إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي ‏‏عنه في ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على ‏‏مراده.‏‎ ‎ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حيان، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن ‏بن ‏زياد، قال: سمعت أبا الوليد بن الجارود يقول: دخل حفص الفرد على الشافعي فكلمه، ثم خرج ‏إلينا ‏الشافعي فقال لنا: لأن يلقى الله العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف ‏مما عليه ‏هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول- أي حفص- بخلق القرءان، وهذه الروايات تدل على ‏مراده بما أطلق ‏عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا.‏ وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه، وكشف ‏عن ‏تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه. أخبرنا بصحة ذلك أبو ‏عبد الله ‏الحافظ ، قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن- يعني ابن محمد- ‏قال: في كتابي ‏عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه ‏حضر عبد الله بن عبد ‏الحكم ويوسف ابن عمرو بن يزيد وحفص الفرد- وكان الشافعي يسميه ‏المنفرد- فسأل حفص عبد الله ‏بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف ‏بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار ‏إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج الشافعي وطالت المناظرة، ‏وغلب الشافعيُّ بالحجة عليه بأن القرءان ‏كلام الله تعالى غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد. قال الربيع: ‏فلقيت حفصاً الفرد فقال: أراد الشافعي ‏قتلي.‏ وقرأت في كتاب أبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي فيما رواه الشيخ أبو الفضل الجارودي الحافظ، عن ‏أبي ‏إسحاق القرّاب قال: حدثنا زكريا، قال: سمعت أبا شعيب المصري- شيخ من أصحاب الحديث- ‏يقول: ‏حضرت الشافعي محمد بن إدريس وعنده يوسف بن عمرو بن يزيد وعبد الله بن عبد الحكم ‏في منزله، ‏فدخل عليهم حفص الفرد وكان متكلماً مناظراً، فقال ليوسف: ما تقول في القرءان؟ فقال: ‏كلام الله ‏ليس عندي غير هذا، وجعلوا يحيلون على الشافعي فأقبل حفص الفرد على الشافعي فقال: ‏إنهم يحيلون ‏عليك، فقال له الشافعي: دع هذا عنك، فلم يزل به، فقال له الشافعي. ما تقول أنت في ‏القرءان؟ قال: ‏أقول: إنه مخلوق، قال: من أين قلت؟ قال: فلم يزل يحتج عليه حفص الفرد بأنه مخلوق ‏ويحتج الشافعي ‏رضي الله عنه بأنه كلام الله غير مخلوق حتى كفَّره الشافعي وقطعه، قال أبو شعيب: ‏وحججهما عندي في ‏كتاب. قال أبو شعيب: فلما كان من الغد لقيني حفص الفرد في سوق الزجاج ‏فقال: أما رأيت ما صنع ‏بي الشافعي؟ أحب أن يريهم أنه عالم، ثم أقبل عليَّ فقال: مع أنه ما تكلم ‏أحد في هذا مثله ولا أقدر منه ‏على هذا.‏ وقد ذكرنا قبل هذا مناظرته مع حفص في زيادة الإيمان ونقصانه، وذكر الحميدي أحسن ما يحتج به ‏على ‏أهل الأرجاء فذكر لابن هَرِم ما يحتج به على من أنكر الرؤية.‏ وقرأت في كتاب الساجي عن أحمد بن مدرك الرازي قال: سمعت عبد الله بن صالح كاتب الليث ‏يقول: ‏كنا عند الشافعي في مجلسه فجعل يتكلم في تثبيت خبر الواحد عن النبي ، ‏فكتبناه ‏وذهبنا به إلى إبراهيم ابن إسماعيل ابن عُلَيَّة وكان من غلمان أبي بكر الأصم، وكان مجلسه ‏بمصر عند باب ‏الضوال، فلما قرأناه عليه جعل يحتج بإبطاله، فكتبنا ما قال ابن عليّة، وذهبنا به إلى ‏الشافعي، فنقضه ‏الشافعي وتكلم بإبطال ما قاله ابن عليَّة وقال: ابن علية ضال قد جلس عند باب ‏الضَّوال يضل الناس. ‏وبلغني عن يعقوب بن سفيان أنه حكى عن إبراهيم ابن عُلَيَّة هذا أنه تكلم في ‏القرءان بما لا أستجيز ‏حكايته.‏ وقرأت في كتاب أبى نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن ‏إسحاق ‏أنه قال: قال لي أبي. كلم الشافعي يوماً بعض الفقهاء، فدقَّق عليه وحقَّق وطالب وضيَّق، ‏فقلت له: يا أبا ‏عبد الله هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا.‏ وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني نصر بن محمد الصوفي قال: سمعت عبد الرحمن بن حفص ‏الصوفي ‏يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت ابن بحر يقول: سمعت المزني يقول: دار بيني ‏وبين رجل ‏مناظرة فسألني عن كلام كاد أن يشككني في ديني، فجئت إلى الشافعي فقلت له: كان ‏من الأمر كيت ‏وكيت، قال: فقال لي: أين أنت؟ فقلت: أنا في المسجد، فقال لي: أنت في مثل تاران ‏‏(10) تلطمك ‏أمواجه، هذه مسئلة الملحدين والجواب فيها كيت وكيت، ولأن يبتلى العبد بكل ما ‏خلق الله من مضاره ‏خير له من أن يبتلى بالكلام.‏ قلت: تاران في بحر القلزم، يقال فيها غرق فرعون وقومه، فشبه الشافعي المزني فيما أورد عليه بعض ‏أهل ‏الإلحاد ولم يكن عنده جواب بمن ركب البحر في الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه ‏وأشرف على ‏الهلاك.، ثم علمه جواب ما أورد عليه حتى زالت عنه تلك الشبهة، وفي ذلك دلالة على ‏حسن معرفته ‏بذلك، وأنه يجب الكشف عن تمويهات أهل الإلحاد عند الحاجة إليه، وأراد بالكلام ما ‏وقع فيه أهل ‏الإلحاد من الإلحاد وأهل البدع من البدع. والله أعلم.‏ فأما استحبابه ترك الخوض فيه والإعراض عن المناظرة فيه عند الاستغناء عنها فقد كان رحمه الله يميل ‏إليه ‏مع معرفته به.‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو احمد بن أبي الحسن قال: أخبرنا عبد الرحمن- يعني ابن ‏محمد- ‏أخبرنا الربيع قال: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون في شىء ‏من الكلام ‏فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا.‏ وأخبرنا أبو عبد الله قال: سمعت أبا الفضل الحسن بن يعقوب العدل يقول: سمعت أبا أحمد محمد بن ‏رَوْح ‏يقول: سمعت المزني يقول: كنا على باب الشافعي نتناظر في الكلام، فخرج إلينا الشافعي وسمع ‏بعض ما ‏كنا فيه فرجع عنا فما خرج إلينا إلا بعد سبعة أيام، ثم خرج فقال: ما منعني من الخروج ‏إليكم علة ‏عرضت ولكن لما سمعتكم تتناظرون فيه أتظنون أني لا أحسنه؟ لقد دخلت فيه حتى بلغت ‏منه مبلغاً، وما ‏تعاطيت شيئاً إلا وبلغت فيه مبلغاً حتى الرمي كنت أرمي بين الغرضين فأصيب من ‏العشرة تسعة ولكن ‏الكلام لا غاية له.، تناظَرُوا في شىء إن أخطأتم فيه يقال لكم: أخطأتم، لا ‏تناظروا في شىء إن أخطأتم فيه ‏يقال لكم: كفرتم.‏ أخبرنا أبو عبد الله قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، عن أبي العباس محمد بن عبد ‏الرحمن ‏يعني الدغولي قال: سمعت زكريا ابن يحيى يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ‏يقول: قال ‏الشافعي: يا محمد، إن سألك رجل عن شىء من الكلام فلا تجبه، فإنه إن سألك عن دية ‏فقلت: درهماً أو ‏دانقاً قال لك: أخطأت، وإن سألك عن شىء من الكلام فزللت قال: كفرت.‏ وفي حكاية المزني عن الشافعي رحمه الله دلالة على أنه كان قد تعلم الكلام وبالغ فيه، ثم استحب ترك ‏‏المناظرة فيه عند الاستغناء عنها.‏ وفي رواية زكريا بن يحيى الساجي عن الربيع في هذه الحكاية بعينها قال: انحدر علينا الشافعي من ‏درجته ‏يوماً وهم يتجادلون في القدر فقال: إما أن تقوموا عنا أو تجاورونا بخير، فلأن يلقى الله العبد ‏بكل ذنب ما ‏خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشىء من هذه الأهواء. فإنما أراد ذم مذهب القدرية، ‏ألا تراه قال ‏بشىء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه.‏ وكأنه تبع فيه ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” ‏إلا ‏تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم الحديث ” وغير ذلك من الأخبار الواردة في معناه.‏ وعلى مثل هذا جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما ‏في ‏كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله عز ‏وجل، ‏وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شىء إلا بحكم الله وتقديره وإرادته، وكذلك في ‏سائر ‏مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم، حتى حدثت طائفة سمّوا ما في كتاب ‏الله عز ‏وجل من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا يترك القول بالأخبار أصلاً وزعموا أن الأخبار التي ‏حملت إليهم لا ‏تصح في عقولهم، فقام جماعة من أئمتنا رحمهم الله بهذا العلم وبَيَّنُوا لمن وُفّق للصواب ‏ورُزق الفهم أنَّ ‏جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في العقول، وما ادعوه في الكتاب من التَّشابه ‏باطل في المعقول.‏ وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم وكشفوا عنها بما هو ‏حجة ‏عليهم عندهم، كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ‏وما في ترك ‏إنكار المنكر والسكوت عليه من الفساد والتعدي. وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام ‏أهل الأهواء.، ‏فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يتسمون ‏بتسميتهم، ولهذا قال ‏الشافعي ما أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو نصر محمد بن علي ‏بن طلحة المروروذي قال: ‏حدثنا أبو سعيد أحمد بن علي الأصبهاني قال: حدثنا زكريا ابن يحيى ‏الساجي قال: حدثني محمد بن ‏إسماعيل قال: سمعت أبا ثور وحسيناً يقولان: سمعنا الشافعي يقول: ‏حكمي في أهل الكلام أن يضربوا ‏بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ‏وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب ‏والسنة وأقبل على الكلام.‏ وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الدّينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي ‏قال: ‏حدثنا زكريا بن يحيى السَّاجي. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الطيب الفقيه قال: ‏حدثنا أبو ‏جعفر الأصبهاني قال: حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى قال: حدثنا أبو داود- يعني ‏السّجستاني – قال: ‏حدثنا أبو ثور قال: سمعت الشافعي يقول: من ارتدى بالكلام لم يفلح. وإنما ‏يعني- والله أعلم- كلام أهل ‏الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معوَّلهم عقولهم، وأخذوا ‏في تسوية الكتاب عليها، وحين ‏حُمِلت إليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا ‏عنها. فأما أهل السنة فمذهبهم في ‏الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في ‏العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير ‏مستقيم على العقل، وبالله التوفيق.‏ ولاستحباب الشافعي ومن كان في عصره من أئمتنا ترك الخوض في الكلام وترك الاشتهار به عند ‏‏الاستغناء عنه معنى ءاخر، وهو أن الشافعي حين قدم العراق في خلافة الرشيد كان قد دخل على ‏المأمون ‏باستدعائه دخوله عليه ورأى تقريبه بشراً المريسي وأمثاله من أهل البدع، وحين عاد إلى ‏العراق في خلافة ‏المأمون شاهد غلبة أهل الأهواء على مجلسه، وأحس ببعض ما رأى أهل السنة من ‏غلبة أهل الأهواء في ‏عصره، ثم بما أصابهم من المحنة في أيام المعتصم والواثق ” انتهى كلام البيهقي.‏ ثم قال البيهقي (11) وفي كل ذلك دلالة على أن استحباب من استحب من أئمتنا ترك الخوض ‏في ‏الكلام إنما هو للمعنى الذي أشرنا إليه، وأن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف ‏الكتاب ‏والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة وبُيّنَ بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه ‏عند الحاجة، ‏تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم عند الحاجة كما سبق ذكرنا له” ‏اهـ.‏ وقال العلامة البياضي الحنفي في “إشارات المرام” ما نصه (12) “وما روي عن أبي يوسف أن ‏الجهل ‏بالكلام هو العلم، ولا يشمل الوصية للعلماء لأهل الكلام فهو في كلام المخالفين من أهل ‏الأهواء كما في ‏الكردرية وشرح المنهاج للسبكي وشرح جمع الجوامع، وما روي عنه أنه زندقة وأنه ‏ألف الرسالة في المنع ‏عنه ففي كلام أهل الأهواء المكفرة كما في التبصرة البغدادية، ومن حمله على ‏إطلاقه فقد جهل أصولهم ‏المقررة، وسيأتي تفصيله في الباب الثالث إن شاء الله تعالى، وما روي عنه ‏وعن محمد من عدم تجويزهما ‏الاقتداء بمن يناظر فيه وَرَدَ مفسراً بكراهته فيمن يناظر فيه للغلبة والإيراد ‏دون إظهار الحق والإرشاد كما ‏في الخانية والملتقط فإنهما كانا يناظران فيه كما مر، وفي الخانية ومجمع ‏الفتاوى أن المنهي عنه هو كلام ‏الفلاسفة وكلام الخصومة، فأما المناظرة فيه على وجه إظهار الحق فلا ‏كراهة فيها بل هي المأمور بها في ‏قوله تعالى (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {125}) [سورة ‏النحل]،وكذا ما روي عن مالك أن أهل ‏الكلام أهل البدعة محمول على كلام المخالفين كما تدل ‏عليه التسمية، فإنه كان خاصّاً بكلامهم في عصر ‏السلف كما صرح به البيهقي، وكذا ما روي عن ‏الشافعي أنه قال: لو علم الناس ما في الكلام من ‏الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد، ولأن يلقى ‏الله تعالى العبدُ بكل ذنب سوى الإشراك خير له من ‏أن يلقاه بشىء من الكلام، ورأى في أهله بأن ‏يضربوا بالجريد وأن يطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء ‏من ترك الكتاب والسنة، فقد قال ‏البيهقي: إنما أراد به كلام أهل الأهواء كحفص الفرد وأمثاله، فبعض ‏الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي ‏تقييد من قيده دليل على مراده” اهـ.‏ ثم قال البياضي (13)وكذا ما روي عن أحمد بن حنبل أنه بدعة وأنه لا يفلح صاحب الكلام أبداً ‏فإن ‏المراد منه كلام أهل الأهواء” اهـ.‏ وأما تمسك البعض بما يروي عن ابن خويزمنداد من ذمه لعلم الكلام فالجواب ما قاله الشيخ ابن حجر ‏‏الهيتمي في كتابه “الفتاوى الحديثية” ونص عبارته (14) “قلت: قال ابن برزة شارح إرشاد إمام ‏الحرمين: ‏هذا النقل عنه باطل، فإن صح عنه فالحق حجة عليه، وإذا تصفحت قواعد الأشعرية ‏ومذاهبهم ومبادئهم ‏وجدتها راجعة لعلم الكلام بل من أنكر علم التوحيد أنكر القرءان وذلك عين ‏الكفران والخسران، وكيف ‏يرجع لابن خويزمنداد ويترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة من ‏الصحابة ومن بعدهم كالأشعري ‏والباهلي والقلانسي والمحاسبي وابن فورك والإسفراييني والباقلاني ‏وغيرهم من أهل السنة، وأنشدوا في ‏تفضيله:‏ أيها المقتدي ليطلب علما…. كلّ علم عبد لعلم الكلام ‏
 
وقيل للقاضي أبي الطيب: إن قوماً يذمون علم الكلام فأنشد:‏
عاب الكلام أناس لا خلاق لهم
وما عليه إذا عابوه من ضرر ‏
ما عاب شمس الضحى في الأفق طالعة
أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر” اهـ ‏
 
وقال الحافظ ابن عساكر (15) “أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي قال: قال لنا ‏‏الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: إن الأشعري لا يشرط في صحة الإيمان ما قالوه ‏يعني ‏من شنع عليه أن أغمار العوام عنده غير مؤمنين لأنهم خليون عن علم الكلام بل هو وجميع أهل ‏التحصيل ‏من أهل القبلة يقولون يجب على المكلف أن يعرف الصانع المعبود بدلائله التي نصبها على ‏توحيده ‏واستحقاقه نعوت الربوبية، وليس المقصود استعمال ألفاظ المتكلمين من لفظ الجوهر والعرض ‏وإنما ‏المقصود حصول النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله، وإنما استعمل المتكلمون هذه الألفاظ ‏على سبيل ‏التقريب والتسهيل على المتعلمين، والسلف الصالح وإن لم يستعملوا هذه الألفاظ فلم يكن ‏في معارفهم ‏خلل، والخلف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مباينة ولا في ‏الدين بدعة كما ‏أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء من ‏لفظ العلة والمعلول ‏والقياس وغيره، ثم لم يكن استعمالهم بذلك بدعة ولا خُلُو السلف عن ذلك كان ‏لهم نقصاً وكذلك شأن ‏النحويين والتصريفيين ونقلة الأخبار في ألفاظ تختص بها كل فرقة منهم.‏ فإن قالوا: إن الاشتغال بعلم الكلام بدعة ومخالفة لطريقة السلف، لا يختص بهذا السؤال الأشعري ‏دون ‏غيره من متكلمي أهل القبلة، ثم الاسترواح إلى مثل هذا الكلام صفة الحشوية الذين لا تحصيل ‏لهم، ‏وكيف يظن بسلف الأمة أنهم لم يسلكوا سبيل النظر وأنهم اتصفوا بالتقليد، حاش لله أن يكون ‏ذلك ‏وصفهم ولقد كان السلف من الصحابة مستقلين بما عرفوا من الحق وسمعوا من لرسول صلوات ‏الله عليه ‏من أوصاف المعبود وتأملوه من الأدلة المنصوبة في القرءان وإخبار الرسول عليه السلام في ‏مسائل التوحيد، ‏وكذلك التابعون وأتباع التابعين لقرب عهدهم من الرسول ، فلما ظهر ‏أهل الأهواء وكثر ‏أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية وأوردوا الشبه انتدب أئمة أهل ‏السنة لمخالفتهم ‏والإيصاء للمسلمين بمباينة طريقتهم، فلما أشفقوا على القلوب أن يخامرها شبههم ‏شرعوا في الرد عليهم ‏وكشف شبههم وأجابوهم عن أسئلتهم وحاموا عن دين الله بإيضاح الحجج، ‏ولم يقولوا في مسائل ‏التوحيد إلا بما نبههم الله سبحانه عليه في محكم التنزيل، والعجب ممن يقول ليس ‏في القرءان علم الكلام ‏والآيات التي هي في‎ ‎الأحكام الشرعية نجدها محصورة والآيات المنبهة على علم ‏الأصول نجدها توفي على ‏ذلك وتربي بكثير.‏ وفي الجملة لا يجحد علم الكلام إلا أحد رجلين: جاهل ركن إلى التقليد وشق عليه سلوك طرق أهل ‏‏التحصيل وخلا عن طرق أهل النظر والناس أعداء ما جهلوا، فلما انتهى عن التحقق بهذا العلم نهى ‏الناس ‏ليضل كما ضل، أو رجل يعتقد مذاهب فاسدة فينطوي على بدع خفية يلبس على الناس عوار ‏مذهبه ‏ويعمي عليهم فضائح عقيدته ويعلم أن أهل التحصيل من أهل النظر هم الذين يهتكون الستر ‏عن بدعهم ‏ويظهرون للناس قبح مقالاتهم، والقَلاّب لا يحب من يميز النقود والخلل فيما في يده من ‏النقود الفاسدة ‏كالصراف ذي التمييز والبصيرة، وقد قال الله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ‏وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ‏‏{9}) [سورة الزمر]،. فهذا ما حضرني من مدح الكلام والمتكلمين وذكر بعض ‏من كان نعلمه من ‏علماء المسلمين.‏
 
فإن قال بعض الجهال من المبتدعة: لسنا نعرف غير المذاهب الأربعة فمن أين أتى هذا المذهب الخامس ‏‏الذي اخترعتموه ولمَ رضيتم لأنفسكم بالانتساب إلى الأشعري الذي اتبعتموه، وهلا اقتنعتم ‏بالانتساب ‏إلى الإمام الألمعي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فإنه أولى بالانتساب إليه ممن سواه ‏وأحق بالانتماء ‏إلى مذهبه ممن عداه؟ قلنا: هذا قول عري عن الصدق وقائله بعيد عن الحق فمن ذا الذي حصر المذاهب بالعدد الذي ‏حصرتم ‏ومن يصحح لكم من قولكم ما ذكرتم، بل المذاهب أكثرها لا ينحصر بهذا العدد الذي عددتم ‏ولو كانت ‏منحصرة به لم يحصل لكم بذلك ما قصدتم، وكأنكم لم تسمعوا بمذهب الليث بن سعد ‏المصري وعثمان ‏بن سليمان البتي البصري وإسحاق بن راهويه الخراساني وداود بن علي الأصبهاني ‏وغيرهم من علماء ‏الإسلام الذين اختلفوا في الفتاوى والأحكام لا في أصول الدين المبنية على القطع ‏واليقين، وليس انقراض ‏أرباب هذه المذاهب التي سمينا يصحح لهذا الجاهل هذه المقالة التي عنه حكينا. ‏ولسنا نسلَّم أن أبا الحسن ‏اخترع مذهباً خامساً وإنما أقام من مذاهب أهل السنة ما صار عند المبتدعة ‏دارساً، وأوضح من أقوال من ‏تقدمه من الأربعة وغيرهم ما غدا ملتبساً، وجدد من معالم الشريعة ما ‏أصبح بتكذيب من اعتدى ‏منطمساً، ولسنا ننتسب بمذهبنا في التوحيد إليه على معنى أنَّا نقلده فيه ‏ونعتمد عليه ولكنا نوافقه على ما ‏صار إليه من التوحيد لقيام الأدلة على صحته لا لمجرد التقليد، وإنما ‏ينتسب منا من انتسب إلى مذهبه ‏ليتميز عن المبتدعة الذين لا يقولون به من أصناف المعتزلة والجهمية ‏المعطلة والمجسمة والكرامية والمشبهة ‏السالمية وغيرهم من سائر طوائف المبتدعة وأصحاب المقالات ‏الفاسدة المخترعة، لأن الأشعري هو الذي ‏انتدب للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمن لم يعرف البدع ‏بدعهم، ولسنا نرى الأئمة الأربعة الذين عنيتم ‏في أصول الدين مختلفين بل نراهم في القول بتوحيد الله ‏وتنزيهه في ذاته مؤتلفين، وعلى نفي التشبيه عن ‏القديم سبحانه وتعالى مجتمعين، والأشعري رحمه الله ‏في الأصول على منهاجهم أجمعين، فما على من ‏انتسب إليه على هذا الوجه جناح ولا يرجى لمن تبرأ ‏من عقيدته الصحيحة فلاح، فإن عددتم القول ‏بالتنزيه وترك التشبيه تمشعراً فالموحدون بأسرهم ‏أشعرية، ولا يضر عصابة انتمت إلى موحد مجرد التشنيع ‏عليها بما هي منه برية، وهذا كقول إمامنا ‏الشافعي المطلبي ابن عم المصطفى النبي ‏فيما أخبرنا الشيخ أبو القاسم هبة الله بن ‏عبد الله ابن أحمد الواسطي ببغداد قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي ‏بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو سعد ‏إسماعيل بن علي بن الحسن بن بندار ابن المثنى الأستراباذي ببيت ‏المقدس قال: أخبرنا علي بن الحسن ‏بن حيويه الدامغاني قال: أنا محمد بن محمد بن الأشعث، ثنا الربيع هو ‏ابن سليمان، قال: أنشدنا ‏الشافعي رحمه الله:
 
يا راكباً قف بالمحصب من منى**** واهتف بقاطن خيفها والناهض‎ ‎
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب ءال محمد ***** فليشهد الثقلان إني رافضي ‏
 
وأنشدت لبعضهم في المعنى المتقدم:‏ ‏
 
إن اعتقاد الأشعري مسدد **** لا يمتري في الحق إلا ممتري‏ ‏
وبه يقول العالمون بأسرهم *** من بين ذي قلم وصاحب منبر‏‎ ‎ ‏
والمدعون عليه غير مقاله *** ما فيهم إلا جهول مفتري‏ ‏
فذر التعامي واعتصم بمقاله ** واعلم يقيناً أنه القول السري‏
وارفض ملامة من نهاك بجهله ** عما يراه لأنه لم يشعر ‏
وإذا لحاك العاذلون فقل لهم **** قول امرىء في دينه مستبصر‏
إن كان من ينفي النقائص كلها *** عن ربه ترمونه بتمشعر
وترونه ذا بدعة في عقله ****** فليشهد الثقلان أني أشعري”
انتهى كلام الحافظ ابن عساكر.
__________________________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص/ 420).‏ ‏
(2) أخرج طرقه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص/337).‏ ‏
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب: رح السنّة.‏
(4) و (5) تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 334).‏
(6) سير أعلام النبلاء (6/ 379- 0 38).‏ ‏
(7) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 279).‏
(8) الكسب بالضم: عصارة الدهن
(9) مناقب الشافعي(1/452-464).‏
(10) “تاران ” جزيرة في بحر القلزم بين القلزم وأيلة وهو أخبث مكان في هذا البحر، فيه دوران ماء ‏في ‏سفح جبل إذا وقع الريح على ذروته أنقطع الريح قسمين فيلقى المركب بين شعبتين من هذا الجبل ‏‏متقابلتين فتخرج الريح من كليهما فيثور البحر على كل سفينة تقع في ذلك الدوران. راجع معجم ‏‏البلدان (2/ 352- 353).‏ ‏
(11) مناقب الشافعي (1/ 467).‏ ‏
(12) إشارات المرام (ص/ 36).‏ ‏
(13) المصدر السابق (ص/ 37).‏
(14) الفتاوى الحديثية (ص/ 207- 208).‏
(15) تبيين كذب المفتري (ص/ 357 وما بعدها)، وطبقات الشافعية (3/ 420 وما بعدها).‏

 

بيان كذب ما يروى عن إمام الحرمين من رجوعه عن علم الكلام‏
قال تاج الدين السبكي في  طبقات الشافعية الكبرى (5/186-187) “وذكر ابن السمعاني أيضاً أنه سمع أبا العلاء أحمد بن ‏‏محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يذكر عن محمد بن طاهر المقدسي الحافظ قال: سمعت أبا الحسن ‏‏القيرواني الأديب بنيسابور وكان ممن يختلف إلى درس إمام الحرمين أنه قال: سمعت أبا المعالي يقول: ‏لا ‏تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.‏ قلت أنا: يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة، وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين، والقيرواني ‏‏المشار إليه رجل مجهول، ثم هذا الإمام العظيم الذي ملأت تلامذته الأرض لا ينقل هذه الحكاية عنه ‏غير ‏رجل مجهول، ولا تعرف من غير طريق ابن طاهر، إن هذا لعجيب! وأغلب ظني أنها كذبة افتعلها ‏من لا ‏يستحي، وما الذي بلغ به رضي الله تعالى عنه علم الكلام؟ أليس قد أعزَّ الله به الحق وأظهر به ‏السنة ‏وأمات به البدعة ؟” انتهى كلام السبكي.
بيان أقوال العلماء في تعريف المكان والجهة
عَرَّف المكان جمعٌ من اللغويين وأهل العلم، ونقتصر على ذكر البعض، فقد قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ) ما نصه “المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشىء” اهـ. وقال اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزءابادي صاحب القاموس (817هـ) ما نصه “المكان: الموضع، ج: أمكنة وأماكن” اهـ. وقال العلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضي الحنفي (1098هـ) ما نصه “المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم” اهـ.

 

 
وقال الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي (1193هـ) ما نصه “قال أهل السُّنة: المكان هو الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم” اهـ. وقال الحافظ المحدّث الفقيه اللغوي الحنفي السيد مرتضى الزبيدي (1205هـ) ما نصه “المكان: الموضع الحاوي للشىء” اهـ. وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (1376هـ) ما نصه “المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان” اهـ. وقال الشيخ المحدث الفقيه العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحَبشي حفظه الله ما نصه “المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ” اهـ.

 

 
فهذا النقل عن اللغويين وأهل العلم لبيان معنى المكان دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى موجودٌ بلا مكان، وأن الله لا يسكن العرش ولا يسكن السماء، لأن القرءان نزل بلغة العرب كما قال الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم {بلسان عربيّ مبين} [سورة الشعراء/195] والنبي أعلم الناس بلغة العرب، فبطل بذلك تمسك المشبهة المجسمة بظواهر بعض الآيات والأحاديث المتشابهة التي ظاهرها يوهم أن لله مكانًا، فمثل هذه النصوص لا تُحمل على الظاهر باتفاق علماء السلف والخلف لاعتقادهم بأن الله تبارك وتعالى يستحيل عليه المكان كما هو ثابت بالقرءان والحديث والإجماع وكلام اللغويين وغيرهم. وبعد هذا البيان يتبيَّن لك أن الله تعالى ليس في مكان من الأماكن العلوية والسفلية وإلا لكان المكان حاويًا لله تعالى، ومن كان المكانُ حاويًا له كان ذا مقدار وحجم، وهذا من صفات الأجسام والمخلوقين، واتصاف الله تعالى بصفة من صفات البشر محال على الله، وما أدى إلى المحال فهو محال، فثبت صحة معتقد أهل السُّنة الذين ينزّهون اللهَ عن المكان والجهة. أما موضوع الجهة فإن مجسمة هذا العصر يعمدون إلى التمويه على الناس فيقولون “الله موجود في جهة ما وراء العالم”، فلبيان الحق من الباطل نبيّن معنى الجهة من أقوال العلماء من فقهاء ومحدثين ولغويين وغيرهم.

 

 

 

قال اللغوي الشيخ محمد بن مكرّم الإفريقي المصري المعروف بابن منظور، كان عارفًا بالنحو واللغة والأدب (711هـ) ما نصه “والجِهةُ والوِجْهةُ جميعًا: الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده” اهـ. وقال الشيخ مصطفى بن محمد الرومي الحنفي المعروف بالكستلي (901هـ) ما نصه “قد يطلق الجهة ويراد بها منتهى الإشارات الحِسيّة أو الحركات المستقيمة فيكون عبارة عن نهاية البُعد الذي هو المكان، ومعنى كون الجسم في جهة أنه متمكّن في مكان يلي تلك الجهة، وقد يُسمى المكان الذي يلي جهة ما باسمها كما يقال فوق الأرض وتحتها، فيكون الجهة عبارة عن نفس المكان باعتبار إضافة ما” اهـ. وقال اللغويُّ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزءابادي (817هـ) ما نصه “والجهة: الناحية، ج: جهات” انتهى باختصار.

 

 

 

وقال العلاّمة كمال الدين أحمد بن حسن المعروف بالبياضي، وكان وَلِيَ قضاء حلب (1098هـ) ما نصه “والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسمانيّ، وكل ذلك مستحيل ـ أي على الله ـ” اهـ. وقال الشيخ عبد الغني النابلسي (1143هـ) ما نصه “والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم ءاخر إليه” اهـ. وقال الشيخ سلامة القضاعي الشافعي (1376هـ) ما نصه “واعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزومًا بَيّنًا، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان لكن بقيد نسبته إلى جزء خاص من شىء ءاخر” اهـ. وقال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري الشافعي الأشعري المعروف بالحَبَشي ما نصه “وإذا لم يكن ـ الله ـ في مكان لم يكن في جهة، لا عُلْوٍ ولا سُفلٍ ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء” اهـ.

 

 

 

 
الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *