أبو بكر الصديق رضي الله عنه اول الخلفاء الراشدين
ترجمته
هو أبو بكر الصديق واسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي، وقيل كان اسمه في الجاهلية “عبد الكعبة” فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم “عبد الله”، يلتقي نسبه هو ورسول الله في مرة بن كعب، وأمه أم الخير سلمى (وقيل ليلى) بنت صخر بن عامر وهي بنت عم أبي قحافة.
وُلد بعد عام الفيل بنحو ثلاث سنين، كان أبيض اللون نحيف الجسم خفيف العارضين معروق الوجه (أي قليل اللحم) ناتىء الجبهة، وعن أنس أنه قال: “كان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم” (نبت يصبغ به).
وكان من رؤساء قريش وعلمائهم، حليمًا وقورًا مقدامًا شجاعًا صابرًا كريمًا رؤوفًا، هو أجود الصحابة وأول من أسلم من الرجال وعمره سبع وثلاثون سنة عاش في الإسلام ستًّا وعشرين سنة. وبويع له بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من الهجرة وأجمعت الصحابة كلهم على خلافته.
وقد أورد ابن الجوزي في كتاب “صفة الصفوة” في تسميته بعتيق ثلاثة أقوال: أحدها روي عن عائشة أنها سئلت لم سمي أبو بكر عتيقًا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “هذا عتيق الله من النار”، والثاني أنه اسم سمته به أمه قاله موسى بن طلحة، والثالث أنه سمي به لجمال وجهه قاله الليث بن سعد.
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صِدّيقًا وقال: “يكون بعدي اثنا عشر خليفة أبو بكر الصدّيق لا يلبث إلا قليلاً”، وكان علي بن أبي طالب يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء صديق.ا.هـ.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة، فلذلك سمي الصديق. ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء.
قصة إسلامه
وقد أورد ابن الجوزي في كتاب “صفة الصفوة” قال حسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر وإبراهيم النخعي: أول من أسلم أبو بكر، وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكّون أن أول القوم إسلامًا أبو بكر.
وعن ابن عباس قال: أول من صلى أبو بكر رحمه الله ثم تمثل بأبيات حسان:
إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها * إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس حقًّا صدَّقَ الرسلا
وورد في قصة إسلامه رضي الله عنه أنه رأى يومًا في منامه وهو في الشام أن الشمس والقمر نزلا في حِجره فأخذهما بيده وضمهما إلى صدره وأسبل عليهما رداءه، ثم انتبه من نومه فذهب إلى راهب يسأله عن الرؤيا. فقال الراهب: من أين أنت؟ قال: من مكة. فقال: وما شأنك؟ قال: التجارة. فقال له الراهب: “يخرج في زمانك رجلٌ يقال له محمد الأمين تتبعه ويكون من قبيلة بني هاشم وهو نبي ءاخر الزمان، وأنت تدخل في دينه وتكون وزيره وخليفته من بعده، قد وجدتُ نعته وصفته في التوراة والزبور”. فلما سمع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه صفة النبي ونعته صلى الله عليه وسلم رقّ قلبه واشتاق إلى رؤيته.
وما لبث أبو بكر رضي الله عنه أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فكان أول من أسلم من الرجال.
مناقبه وفضائله
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاء الصريخ إلى أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، قال: فلهوا عن رسول الله وأقبلوا إلى أبي بكر فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة.
وذكر أهل العلم والتواريخ والسير أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وجميع المشاهد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تبوك، وأنه كان يملك يوم أسلم أربعين ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين ولم يشرب الخمرة لا في الجاهلية ولا في الإسلام وهو أول من جمع القرءان.
وذكر محمد بن إسحاق أنه أسلم على يده من العشرة المبشرين خمسة هم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرءان، وكان أفضل الصحابة وأذكاهم. ومن فضائله رضي الله عنه ما شهد به عمر بن الخطاب حيث قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدّق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: “لا أسابقك إلى شىء أبدًا” أخرجه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر”، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله. وعن أنس قال “لما كان ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله دعني أدخل قبلك فإن كان حية أو شىء كانت لي قبلك. قال: “ادخل” فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه كلما رأى جحرًا قال بثوبه (أخذ بثوبه) فشقه ثم ألقمه الجحر. حتى فعل ذلك بثوبه أجمع قال: فبقي جحر فوضع عَقِبه عليه، ثم أدخلَ رسول الله فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: “فأين ثوبك يا أبا بكر”؟ فأخبره بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: “اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة”. فأوحى الله إليه أن الله تعالى قد استجاب لك. أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/33).
وعن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: هل قلت في أبي بكر شيئًا؟ فقال: نعم، فقال: قل وأنا أسمع فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ أصعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: “صدقت يا حسان هو كما قلت”، أورده ابن الجوزي في “صفة الصفوة”.
وعن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالاً وهو مدفون في الحجارة بخمس أوراق ذهبًا فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناك، فقال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته.
ورعه رضي الله عنه
وقد أورد ابن الجوزي في “صفة الصفوة” قال: عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر الصديق مملوك فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك: مالك كنت تسألني كل ليلة لم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني فقال: أف لك كدت تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بعس من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به” فخشيت أن ينبت شىء من جسدي من هذه اللقمة، وهذا من ورعه رضي الله عنه.
توليه الخلافة
بُويع رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك حين ذهب هو وعمر وبعض الصحابة ليتشاوروا في أمر الخلافة حتى قال عمر لأبي بكر: أبسط يدك. فبسط يده فبايعه ثم بايعه المهاجرون ثم الأنصار ثم كانت البيعة العامة في اليوم التالي.
عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما وُلي أبو بكر الخلافة خطب الناس فحَمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: “أما بعد أيها الناس قد وُليتُ أمركم ولستُ بخيركم، ولكن الله أنزل القرءان وسنَّ النبيُ صلى الله عليه وسلم السنن فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور. إن أقواكم عندي الضعيف حتى ءاخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى ءاخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنتُ فأعينوني وإن زغتُ فقوِّموني”.
والمعلوم أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عظمت مصيبة المسلمين حيث كثر النفاق وارتدت بعض القبائل والبعض امتنع عن أداء الزكاة، فأسرع أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمداركة هذا الأمر العظيم فأمر بتجهيز الجيوش لقتال أهل الردة ومن منع الزكاة وقُتل مسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة، وهرب طليحة بن خويلد إلى أرض الشام وكان ادعى النبوة أيضًا ثم أسلم في عهد عمر بن الخطاب، واستشهد من الصحابة نحو سبعمائة رجل أكثرهم من القرّاء، كما جهز رضي الله عنه الجيوش لفتح بلاد الشام.
استخلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
أخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود قال: افرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: استأجره، والعزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه.
وروي أن أبا بكر لما ثقل دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن بن عوف: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، فقال: على ذلك. فقال اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، وشاور معهما سعيد بن زيد وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار.
وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدًا، أفترضون به، فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليٌّ فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر، ذكر ذلك السيوطي في “تاريخ الخلفاء”.
وفاته
مرض رضي الله عنه ثم توفي في السنة الثالثة عشرة عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا. ودفن في بيت عائشة ورأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أوصى بذلك، وارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم.
ولما توفي جاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه باكيًا مسرعًا مسترجعًا حتى وقف بالباب وقال: يرحمك الله أبا بكر لقد كنت والله أول القوم إسلامًا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسمَّاك الله في كتابه صديقًا فقال: {والذي جاء بالصدق وصدّق به} (سورة الزمر/33).
قال أهل السير: توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة وأوصى أن تغسله زوجته وأن يدفن إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصلى عليه عمر بين القبر والمنبر ونزل في حفرته ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة بن عبيد الله.
توفي الصدّيق وله من الولد: عبد الله وأسماء ذات النطاقين وعبد الرحمن وعائشة ومحمد وأم كلثوم.
اللهم احشرنا مع زمرة الصدّيقين وثبتنا على اتباعهم وأمِتْنا على محبتهم.