خَديجةُ بِنتُ خُوَيلِد رضي الله عنها القُرشيّةُ وأمُّها فاطمةُ بنتُ زائدَةَ بنِ جُندُب.
وهيَ أوّلُ امرأةٍ تزوّجَها النبي صلى الله عليه وسلم مِن غَيرِ خِلافٍ قبلَ المبعَثِ بخمسَ عَشْرَةَ سنةً، وكانت بِنتَ أربعينَ سَنةً وهو ابنُ خمسٍ وعِشرينَ سنةً. وكانت قَبله تحتَ أبي هالَةَ هندِ بنِ زَرارة بنِ النبّاش بنِ عَدِيّ أحد بني أُسيد بن عمرو بن تميم، وقَبله عندَ عَتيق بنِ عَابد.
وهي أمُّ أولادِه كلِّهم سِوى إبراهيم بنِ مارِيَةَ القِبطِيّة.
فولدَت له القاسمُ وبه كان يُكنَى، وعبدُ الله وهو الطّاهرُ والطّيبُ، سُمّي بذلك لأنّه وُلدَ في الإسلام. وقيلَ إنّ الطّاهرَ والطّيّبَ اسمانِ لابنينِ، وَولَدت له منَ النّساءِ زَينبَ ورُقيّةَ وأمَّ كُلثُوم وفاطمةَ رضي الله عنهم أجمعين.
تُوفِّيت بمكّةَ ودُفِنت فيها قَبلَ الهجرة إلى المدينةِ وقَبلَ فَرضِ الصّلاةِ بخمسٍ وقيلَ بثلاثِ سِنينَ، في السّنةِ التي ماتَ فيها أبو طالبِ بنُ عبد المطّلِب وفي كلّ ذلكَ خلافٌ، وكان عمُرُها وقت وفاتها خمسًا وستّينَ سَنةً، وقيلَ خمسًا وخمسينَ في شهرِ رمضانَ سنةَ عَشرٍ منَ النّبُوة، ولم يجتَمع معها أحدٌ من نِسائهِ صَلواتُ الله عَليهنَّ وقيل زوّجَها منه أبوها وقيلَ عَمُّها عمرو .
ذِكرُ مَا وَردَ في مَناقِب أمِّ المؤمنينَ خَديجةَ رضيَ الله عنها
وهيَ أمُّ هِندٍ تُكنى بوَلدٍ كَانَ لها.
قالَ يحيى بنُ أبي الأشعث الكِندي من أهلِ الكُوفة حدّثني إسماعيلُ بنُ إياس بنِ عفيفٍ عن أبيه عن جَدّه عفيف أنّه قال :كنتُ امْرَأً تاجِرًا فقَدِمتُ مِنى أيامَ الحجِّ وكانَ العبّاسُ بنُ عبد المطّلب امْرَأً تاجِرًا، فأَتَيتُه أَبْتاعُ مِنه وأَبِيعُه قال فَبَيْنا نحنُ إذ خَرج رجلٌ منْ خِباءٍ (خَيمةٍ) يُصَلّي فقَام تُجَاه الكعبةِ، ثم خَرجتِ امرأةٌ فقَامت تُصلّي وخَرج غُلامٌ فقَام يُصلّي مَعه، فقلتُ يا عبّاسُ ما هذا الدّينُ، إنّ هذا الدّينَ ما نَدرِي ما هو. فقَال: هذا محمدُ بنُ عبد الله يَزعُمُ أنّ الله تبارك وتعالى أنزَلَه، وأنّ كُنُوزَ كِسرى وقَيصَر ستُفتَحُ عَليه، وهذه امرَأتُه خَديجةُ بِنتُ خُويلدٍ ءامَنت به، وهذا الغُلامُ ابنُ عَمّه عليُّ بنُ أبي طالبٍ ءامنَ به.
قالَ عَفِيفٌ ولَيْتَني كنتُ ءامنتُ به يومَئذٍ فكُنتُ أكُونُ ثانيًا.
هذا حديثٌ صحيح من حديث إسماعيل بنِ إياسِ بنِِ عَفيف عن أبيه إياس عن جَدّه عفيف الكِنْدِي، أَسلَم بعدَ ذلكَ وحَسُن إسلامُه.
وقولُه ثانيًا يعني ثانيَ الرّجال.
تابَعَه إبراهيمُ بنُ سعيد عن محمد بنِ إسحاق وقالَ في الحديث :إذْ خَرجَ رَجلٌ مِن خِِباءٍ قَريبٍ منه، فنَظر إلى السّماء فلَمّا رءاها قد مَالت يعني الشّمسَ قامَ يُصلّي ثمّ ذكَر قيامَ خَديجة خَلفهُ.
وقَد صحّ أنّها أوّلُ مَن ءامن به صلى الله عليه وسلم، وقيلَ هيَ أوّل مَن ءامنَ مِنَ النّساء وأبو بكرٍ مِنَ الرِّجال وعليٌّ مِنَ الصِّبيانِ جَمعًا بَين الرِّواياتِ.
وقَد رُوي عن محمدِ بنِ إسحاقَ مِن قولهِ مُرسَلا إنها أوّلُ مَن ءامَن.
ولا شَكَّ أنّه لا يقُولُه إلا عن رِوايةٍ نُقِلَت إليه، قالَ: وكانَت خَديجةُ أوّلَ مَن ءامنَ باللهِ ورسولهِ صلى الله عليه وسلم وصَدّقَ بما جاءَ به .
قالَ: ثمّ إنّ جبريلَ عليه السلام أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ افتُرِِضتِ علَيه فَهَمَز (أي ضَرب) له بعَقِِبِِه في ناحِيةِ الوادي فانفَجرت له عينٌ من مَاءٍ مُزْنٍ فتَوضّأ جِبريل ومحمدٌ عليهما السلام، ثم صلّى ركعتَين وسَجد أربعَ سَجَدَاتٍ ثم رجَع النبيّ صلى الله عليه وسلم وقَد أَقرّ الله عَينَه وطَابَت نَفسُه وجاءَه ما يُحِبُّ مِنَ الله فأخَذ بِيَدِ خَديجة حتى أَتى بها العَين فتوَضّأ كما تَوضّأ جِبريل، ثمّ ركعَ ركعَتين وأربعَ سَجَدات هو وخَديجة، ثم كانَ هو وخديجةُ يُصَلّيان سِرّا .
هَكذا ذكَره ابنُ إسحاقَ وقال حينَ افتُرِضت يعني الصلاة.
ولا شَكّ أنّ هذا حِين فُرضَتِ الصلاة ابتداءً قبلَ مُهاجَره إلى المدينة، ثمّ زيدت، وإلا فخَديجة ماتت قبلَ أن تُفرَض الصلاةُ بخمسِ سنينَ يعني الصلوات الخمس لَيلة الإسراء، ليكُونَ جمعًا بينَ الحديثين والله أعلم.
ومن مَناقِب خَديجةَ رضيَ الله عَنها
عن أبي زُرعَة رضي الله عنه قال سمعتُ أبا هُريرة رضيَ الله عنه قالَ: أَتى جِبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ الله هذه خَديجةُ أَتتْكَ مَعَها إناءٌ فيهِ إدَامٌ (طَعامٌ وشَرابٌ) فإذَا هيَ أَتتْكَ فَاقْرأْ عَليها السّلامَ مِنْ رَبّهَا ومِنّي، وبَشّرْهَا ببَيتٍ في الجنّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَبَ.” هذا حديثٌ صَحيحٌ مُتّفَقٌ على صِحّتِه مِن حَديث أبي هُريرة عبدِ الرّحمنِ بنِ صَخْر الدَّوسِيّ، كانَ مِن أَحفَظِ أَصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكانَ مِن أَهلِ الصُّفَّةِ ، ودَعا لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحِفْظِ وقال: ” اللهُمَّ حَبِّبْهُ وأُمَّهُ إلى عِبادِكَ المؤمِنينَ ” رَوى عنه العَدَدُ الكَثيرُ كأبي سلَمَةَ الزُّهريّ وأَبي زُرعَةَ. رواهُ البُخاري ومسلم.
وأمّا قَولُه:” مِن قَصَبٍ” القَصَبُ في هذا الحديثِ اللؤلؤ المجَوَّفُ، واسِعٌ كالقَصرِ المُنِيف. وكُلُّ عَظْمٍ أَجْوَفُ فِيه مُخٌّ فَهُوَ قَصَبةٌ. هكذا قالَهُ أهلُ اللُّغَةِ.
وقالَ شُريك بنُ عبد الله في تفسير هذَا الحديثِ: إنَّه مِن ذَهبٍ فيَحتَمِلُ أنّه أرادَ أنّه بِناءٌ مجَوَّفٌ مِنَ الذّهَبِ كالقَصرِ.
وقولُه: “لا صَخَبَ” وقد رُوِي بالسّينِ أيضًا، “ولا نَصَبَ” الصَّخَبُ بالسِّينِ والصّادِ، اختِلاطُ الأصْوَاتِ وارتِفَاعُها، وقيلَ ليسَ فيهِ ما يؤذِي سَاكِنَه.
النَّصَب التَّعَبُ أي لا يَلحَقُها تَعَبٌ فِيه.
وهذَا لا يَقُولُه إلا عن النّبي صلى الله عليه وسلم، لأنّه إخْبارٌ عن جِبريلَ، ولا يَعلَمُه إلا مِن جِهَةِ النّبيِ صلى الله عليه وسلم، وهذا كحديثِ عائشَةَ رضي الله عنها في بَدْئ الوَحْيِ.
ومما جاءَ في مَناقِب أم المؤمِنينَ خَديجةَ
عن هِشَامِ بنِ عُروةَ عن أَبِيه عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفَر أنّ عليّ بنَ أبي طالِب عليه السّلام قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”خَيرُ نِسَائها مَريمُ بنتُ عِمرانَ وخَيرُ نِسائهَا خَديجةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ عَليهما السّلام”
هذَا حَديثٌ صَحِيحٌ مِن حَديث أبي جَعفرٍ عَبدِ الله بنِ أبي عبد الله جَعفر الطيّار عن عَمّه أميرِ المؤمنينَ أبي الحسنِ عَليّ بنِ أبي طَالِب رضِيَ اللهُ عنهُما. وصحيحٌ مِنْ رِوايةِ أبي المنذِر هِشامِ بنِ عُروةَ أبي عبد الله بنِ الزُّبَير بنِ العَوّام. اتفقَ الأئِمّةُ على إخراجِه في الصّحيحِ. رواه البخاري ومسلم.
قولُه: “خَيرُ نِسائها” يعني نِساءَ السّماءِ والأرض.
عن هِشام بنِ عُروةَ عن أَبيه عن عائشةَ رضِي الله عنها قالت: “مَا غِرتُ على امْرَأةٍ لرسولِ الله ما غِرتُ على خَديجةَ مما كنتُ أسمَعُ مِن ذِكرِه لها، وما تَزوَّجني إلا بعدَ مَوتها بثلاثِ سِنينَ، ولقَد أمرَهُ ربُّه أن يُبشّرَها ببَيتٍ في الجنّة مِن قَصَبٍ لا نَصَبَ فيه ولا صَخَبَ”
هذا حديثٌ صَحيحٌ مِن حَديثِ أبي المُنذِر هِشامِ بنِ عُروةَ، ويُقالُ أبو عُبَيد الله هِشام بنِ أبي عبدِ الله بنِ عُروةَ بنِ الزُّبير بنِ العوّام القُرشِي مِن عُلَماءِ التّابِعين وأَثبَاتِ المحَدّثينَ، رأى عبدَ اللهِ بنَ عُمر وجابرَ بنَ عبد اللهِ وزادَ البُخاريُّ في صَحيحِه:أنّه كانَ يَذبَحُ الشّاةَ ويُهدِي مِنها لِصَدائقِ خَدِيجةَ “ورواه مسلمٌ أيضًا في صَحيحِه مِن أَوجُهٍ عن هِشَام.
وفِيه منَ الفَوائدِ إخْبارُها بالمغفِرةِ لها، وأنّها مِن أهلِ الجنّةِ، وفيه دِلالةٌ على أنّ العَبدَ قَد يَعلَم مَوضِعَهُ منَ الجنّة إذا كانَ ذلكَ بشَهادةِ نَبي،كمَا أَخبر أنّ أبا بَكر الصّدّيقَ وعمرَ وعُثمانَ وعَلِيًّا شُهَداءَ، وكذلكَ شَهِدَ لهم بالجنّةِ ولِغَيرهِم منَ الصّحابة، وأمّا غَيرُ النّبي صلى الله علَيه وسلم فَلا يجُوز لهُ أنْ يَقطَع لأحدٍ بجنّةٍ أو نارٍ، سَواءٌ كانَ مُطِيعًا أو عاصِيًا. وأمّا إذا وعَد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عَملٍ دخُولَ الجنّةِ والمغفرةَ فعمِلَ عَاملٌ ذلكَ العَمَل فلا نَقطَعُ لهُ بالموعُودِ، لأنّا لا نَعرِفُ قَبُولَ عَمَلِه. نَعوذُ بالله منَ الحِرمانِ. والله أعلم.
ومن مناقِب خَديجةَ رَضيَ اللهُ عَنها
عن وائلِ بنِ داودَ عن عبدِ اللهِ البَهِيّ قالَ قالَت عائشةُ رضي الله عنها:”كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا ذكَرَ خَديجةَ لم يَكَد يَسأَمُ مِن ثَناءٍ عَلَيها واستِغفَارٍ، فذَكرَها ذاتَ يَومٍ فاحتَمَلتْني الغَيرةُ فقلتُ:لقَدْ عوَّضَكَ اللهُ مِنْ كَبِيرةِ السّنّ،قالت فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غَضِبَ غَضَبًا أُسْقِطْتُ مِنْ جِلدِي(أي نَدِمْتُ) وقلتُ في نَفسِي اللهُمّ إنّكَ إنْ أَذهَبْتَ غَضَبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَنّي لم أَعُد أَذكُرْها بِسُوءٍ ما بَقِيتُ. فلمّا رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما لقِيتُ قال:كَيفَ قُلْتِ، واللهِ لَقد ءامنَت بي إذْ كَفَر بيَ الناس، وءاوَتني إذْ رَفَضَني النّاسُ، وصَدّقَتني إذ كذَّبني النّاسُ، ورُزِقَت مِنّي الولَدَ إذ حُرِمتُمُوه” قال فغَدَا عَليَّ بها ورَاحَ شَهرًا. رواه أحمد.
ومن مناقب السيدة خديجة رضي الله عنها
عن هِشامِ بنِ عُروَةَ عن أَبيهِ عن عائشةَ قالت: مَا غِرْتُ على نِساءِ النّبي صلى الله عليه وسلم إلا على خَدِيجةَ وإنّي لم أُدرِكْهَا، قالت وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا ذَبحَ الشّاةَ فيقُولُ:” أَرسِلُوا بها إلى صَدائقِ خَدِيجةَ “، قالت فأَغضَبتُهُ يَومًا فقُلتُ خَدِيجة. فقال: إنّي رُزقتُ حُبّها “. هَكذَا رواه مسلم في صحِيحِه.
وقَد رَوى ابنُ رُزَين في مجمُوع الصَّحَاح عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:” كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ولم يَكمُل منَ النِّساءِ إلا أَربَعٌ مَريمُ بِنتُ عِمْرانَ وءاسِيَةُ امرَأةُ فِرعَونَ وخَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ وفَاطِمَةُ بِنتُ محمّدٍ، وفَضْلُ عَائشَةَ على النّساءِ كفَضْلِ الثّرِيدِ على سَائرِ الطّعَام”. ولا خَفَاءَ بمسَاعَدتها النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتَثبِيتِها لهُ عندَما بدَأَ الوَحيُ إليه وشَفقَتِها عَليه فصَلّى الله عليه ورضيَ عَنها.