بيان أهمية علم التوحيد وأنه أفضل العلوم
أما بعد، فإن الله اختار محمداً من عباده فبعثه إلى خلقه بالحق بشيراً ومن النار لمن زاغ عن سبيله نذيراً، ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته، قال الله تعالى في كتابه المبين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56}) سورة الذاريات، أي خلقهم ليأمرهم بعبادته، وكان أول مـا دعاهم إليه رسول الله هو عبادة الله تعالى وتوحيده وأن لا يشرك به شىء، فلذلك كان علم التوحيد أجلّ العلوم وأولاها تحصيلاً، وكان اهتمام علماء السلف والخلف -أي الذين جاؤوا بعد السلف- بهذا العلم كبيراً.، وكلا الفريقين من السلف والخلف كانت بحوزتهم الأدلة العقلية للرد عنى المبتدعة المخالفين لأهل الحق، واشتهر عن الخلف إبراز الدلائل النيرة والحجج الباهرة لإثبات وجوده تعالى وحدوث كل ما سواه والذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها، وسبب ذلك انتشار المبتدعة المنتسبين إلى الإسلام والفلاسفة والملاحدة من غير المسلمين، فنشر هؤلاء المخالفون ءاراءهم الفاسدة التي لم تكن موجودة في عهد الصحابة ومن جاء بعدهم بزمان وألقوها على مسامع المسلمين، فقام أهل الحق الذين عُرفوا باسم علماء الكلام في رد تلك الشبه باستحداث اصطلاحات وطرق جديدة لمقارعة المخالفين إما لكون المخالفين لا يأخذون بالقرءان كالفلاسفة والملاحدة، وإما لكونهم من أهل الأهواء الذين اعتنقوا البدعة وصاروا ينافحون عنها بما زعموه أدلة عقلية.
واستمر أهل الحق في نصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة حتى ظهر في النصف الثاني من القرن السابع الهجري رجل زعم أنه على مذهب الإمام أحمد مع مخالفته له في الأصول والفروع، وقد تمكن هذا الرجل وهو ابن تيمية من اجتلاب ثقة بعض شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه، وكان طلق اللسان، فإذا هو يجري على خطة مدبرة في إحلال المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف محل مذهب أهل السنة، ولم يعلم أن مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية بلغ من التمحيص العلمي على تعاقب القرون بأيدي نوابغ أهل النظر والفقه في الدين ممن لا يعد هذا الحشوي -أي ابن تيميه- من صغار تلامذتهم إلى مستوى من قوة الحجج بحيث إذا حاول مثله أن يصطدم بها لا يقع إلا على أم رأسه، وكان له أتباع ينعقون ولا يعون، وخلفهم أتباع وهكذا إلى أن وصل النعيق إلى رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب النجدي إمام الوهابية. الذي كان ابتداء ظهور أمره في الشرق سنة 1143هـ، واشتهر أمره بعد 1170 هـ بنجد وقراها، وقد ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة ، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها وابتدع من عند نفسه بدعا أخرى، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما شاهدوا أفعاله وسمعوا من أقواله التي خالف في الشرع، حتى قال فيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار ما نصّه (1) “مطلب في أتباع ابن عبد الوهاب الخوارج في زماننا: قوله: “ويكفرون أصحاب نبينا ” علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي ، والا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع محمد بن عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنّة قتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكرالمسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف“. ا.هـ.
وقال الشيخ أحمد الصاوي المالكي ما نصه (2) ”وقيل هذه الآية -يعني قوله تعالى (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{6}) سورة فاطر- نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد الآن في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية يحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم” انتهى كلام الصاوي.
ومن شؤم الطائفة الوهابية أنها تذم علم الكلام الممدوح وأهله، وما ذاك إلا لأن الحجج العقلية والبراهين القطعية تهدم على الوهابية عقيدتهم التي هي عقيدة التشبيه والتجسيم كقولهم في حق الله- بالجهة والجلوس والحركة والكيفية وغير ذلك من انحرافهم، وتمسكوا بشبه لا تنهض دليلاً لما ذهبوا إليه كقولهم إن الصحابة لم يشتغلوا به وإن بعض العلماء ذم المشتغلين بهذا العلم وما إلى ذلك من الشبه التي سيُجاب عنها في هذا الكتاب إن شاء الله. ولما كثر الخوض في هذا الموضوع والتبس الأمر على بعض الناس، ولما كان الكلام منه ممدوح ومنه مذموم أردنا تبيان الحق وجلاء الأمر ليكون المؤمن على بينه من أمره.
علم التوحيد هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به وما لا يجوز عليه وما يجب له من أن ُيعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال الإمام الجنيد البغدادي سيد الطائفة الصوفية “التوحيد إفراد القديم من المُحدث“(3). وقال الشيخ أبو علي الرُّوذباري (4) تلميذ الجنيد “التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11}) سورة الشورى”اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري (5) “أهل السنة فسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل“ـ واعلم أن شرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقا بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين أي معرفة الله ورسوله . والعلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، وقد خصّ النبي نفسه بالترقي في هذا العلم فقال “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له” (6)فكان هذا العلم أهمّ العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيماً قال تعالى “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ” سورة محمد/19، قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار لعلم الفروع. وروى البخاري في صحيحه (7) عن أبي هريرة أن رسول الله سُئِلَ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله“. وصح عن جُندُب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي ونحن فتيان حَزاوِرَة (8)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانا، رواه ابن ماجه (9).
فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط (10) “الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها” اهـ. وقال أيضاً (11) “أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر” اهـ. وفي فتاوى قاضيخان (12) على مذهب أبي حنيفة ما يدلى على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعليمه للناس، فقد ورد فيه ما نصه ”تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك، قال الله تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55}) سورة الذاريات، وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن يعلّوا جماعتهم شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق، وإذا علموا في جماعتهم مبتدعاً أرشدوه وإن كان داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن البلدة إن لم يمتنع، وعلى العالم إذا علم من قاض أو من ءاخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوامّ حقّاً ويعسر إزالته!” اهـ.
قال الحافظ ابن عساكر (13) “أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ فقال: إن فرقت بين مصل ومصل وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات وذاك يصلي وقلبه حاضر ففرق بين عالم وعالم، هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها وهذا يقاوم كل عدو للإسلام ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام معينين وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين وهو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في البلد قانون معروف إذا أشكل خراج بقعة رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب العارفين به، فرواة الأخبار خزان الشرع والقراء من الخواص والفقهاء حفظة الشرع وعلماء الأصول هم الذين يعرفون ما يجب ويستحيل و يجوز في حق الصانع وهم الأقلون اليوم. رمى الدهر بالفتيان حتى كأنهم بأكناف أطراف السماء نجوم وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل قلت: عناية الناس بعلم الأصول إذ ليس فيه وقف ورفق يأكلونه فميلهم إلى ما يقربهم من الدنيا ويوليهم الأوقاف والقضاء والطريق أيضاً مشكل فهو علم عزيز والطريق إلى الأعزة عزيز وقد يرى بعض الجواهر أثبت له درة من العز فلا توجد إلا عند الخواص فهو وإن كان حجراً غير مبتذل فما الظن بجوهر المعرفة. أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي وأبو الحسن علي ابن أحمد الغساني قالا: ثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه الزهري قال: ثنا الحسن بن الحسين الشافعي الهمذاني قال: أنشدني أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم لبعضهم: أيها المقتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ثم اغفلت منزل الأحكام” اهـ
فظهر من ذلك أن صرف الهمّة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن العبادة لا تصح إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي، وذلك لأنه من يشبّه الله تعالى بشئ ما لم تصح عبادته لأنه يعبد شيئاً تخيّله وتوهمه في مخيلته وأوهامه، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6}) (سورة التحريم) قال سيدنا علي في تفسير هذه الآية “علّموا أنفسكم وأهليكم الخير” رواه الحاكم في ”المستدرك (14)، يعني أن حفظ النفس والأهل من النار التي عظَّم الله أمرها يكون بتعلم الأمور الدينية أي معرفة ما فرض الله فعله أو اجتنابه أي الواجبات والمحرمات وذلك كي لا يقع في عبادة فاسدةٍ، وبتعلم ما يجوز اعتقاده وما لا يجوز وذلك كي لا يقع في التشبيه والتمثيل والكفر والضلال. فلأهمية هذا الأمر العظيم كان لنا الاعتناء الشديد بهذا العلم، وقد لاقينا من جرَّاء ذلك معارضة من الذين لا ينزلون الأمور بمراتبها لا سيما من مشبهة هذا العصر وهم الوهابية الذين ينشرون عقيدة المجسمة التي أخذوها من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ويحاربون عقيدة أهل السنة متسترين بستار السلفية والسلف براء منهم، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن ينصرون عقيدة أهل الحق المؤيَّدة بالكتاب والسنة والأدلة العقلية، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.
………………………………………………………………………………………………