بيان شبه المانعين من الإشتغال بعلم الكلام

بيان شبه المانعين من الإشتغال بعلم الكلام

ذهب بعض الناس إلى تحريم الاشتغال بعلم الكلام مستدلين بأن الصحابة لم يتعلموا ولا علَّموا هذا ‏العلم، ‏وأن جماعة من السلف ذموه إلى غير ذلك من الشبهات، وجواباً على ذلك نقول:‏ إن قولهم لم ينقل أنه علّم أحداً من أصحابه هذا العلم، ولا عن أحد من أصحابه ‏أنه ‏تعلم أو علّم غيره، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان .، فلو كان هذا العلم مهمّاً في ‏الدين لكان ‏أولى به الصحابة والتابعون.‏ قلنا: إن عُني بهذا المقال أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحقية رسوله وصحة ‏معجزاته ‏بدلالة العقل بل أقروا بذلك تقليداً فهو بعيد من القول شنيع من الكلام، وقد ردَّ الله عز ‏وجلَّ في كتابه ‏على من قلَّد أباه في عبادة الأصنام بقوله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم ‏مُّقْتَدُونَ{23}) ‏سورة الزخرف، أي أن أولئك اقتدوا بآبائهم في إشراكهم بغير دليل يقوم على ‏صحة ذلك الدين، وهذا ‏يفهم منه أن علم الدليل مطلوب، قال أبو حنيفة  جواباً على ‏القائلين: لِمَ تتكلمون بعلم ‏الكلام والصحابة لم يتكلموا فيه “إنما مثلهم كأناس ليس بحضرتهم من ‏يقاتلهم فلم يحتاجوا إلى إبراز ‏السلاح، ومثلنا كأناس بحضرتهم من يقاتلهم فاحتاجوا إلى إبرأز السلاح‏‏” أهـ.‏

وإن أريد أن الصحابة لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو: الجوهر ‏والعرض، ‏والجائز والمحال، والحدث والقِدم، فهذا مُسَلَّمٌ به، لكننا نعارض هذا بمثله في سائر العلوم، ‏فإنه لم ينقل عن ‏النبي  ولا عن أصحابه التلفّظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل ‏والمتشابه، وغيرها كما هو ‏المستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة ‏والمناقضة، والطرد والشرط، والسبب ‏والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح ‏والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر ‏والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل ‏الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض ‏هذه العلوم لهذه العلة، على أنه في عصر النبي  لم تظهر الأهواء والبدع فلم تمسّ ‏الحاجة إلى الدخول في التفاصيل والاصطلاحات.‏ فإن قيل: روى البيهقي(1) بإسناد صحيح عن ابن عباس  أنه قال “تفكَّروا في كل شىء ولا تفكروا ‏في ‏ذات الله” فهو منهي عنه.‏ فالجواب: أن النهي ورد عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر وإعمال ‏الفكر ‏والتأمل في ملكوت السماوات والأرض ليستدل بذلك على وجود الصانع، وعلى أنه لا يشبه ‏شيئاً من ‏خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر الصحيح. وقد أمر القرءان ‏بتعلّم الأدلة ‏على العقائد الإسلامية على وجوده تعالى وعلى ثبوت العلم له والقدرة والمشيئة ‏والوحدانية إلى غير ذلك، ‏ولم يطعن إمام معتبر في هذا العلم الذي هو مقصد أهل السنّة والجماعة من ‏السلف والخلف.‏

وما يروى عن الشافعي  أنه قال “لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه ‏بعلم ‏الكلام” بهذا اللفظ فهو غير ثابت عنه، واللفظ الثابت عنه هو “لأن يلقى الله عز وجل العبدُ ‏بكل ذنب ‏ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء” (2). والأهواء جمع هوى وهو ‏ما مالت إليه ‏نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف، أي ما تعلق به البدعيون في الاعتقاد ‏كالخوارج والمعتزلة ‏والمرجئة والنجارية وغيرهم، وهم الاثنتان والسبعون فرقة كما ورد في الحديث ‏المشهور “وان هذه الملة ‏ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي ‏الجماعة” رواه أبو داود(3). ‏فليس كلام الشافعي  على إطلاقه إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم ‏الذين جانبوا نصوص الشريعة كتاباً ‏وسنّةً، وتعمقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب ‏والسنّة الموضح لحقائق الشريعة عند ‏ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة لم يذمّه الشافعي، وقد ‏كان الشافعي  يحسنه ‏ويفهمه وقد ناظر بِشْراً المريسي وحفصاً الفرد فقطعهما.‏

فإن قيل: قد ذمَّ علم الكلام جماعةٌ من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: من طلب الدين بالكلام ‏‏تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب، وروي مثله عن الإمام ‏مالك ‏والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.‏ قلنا: أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله (4)إنما يريد والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع، ‏فإن ‏في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام ‏حتى ‏اضطروا إليه بعد” اهـ، قال ابن عساكر (5) “فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك ‏بقائله ‏أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية. وتحتمل وجهاً ءاخر وهو أن يكون المراد بها ‏أن يقتصر ‏على علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض ‏العمل بما أُمر بفعله ‏من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل مـا أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من ‏الأحكام. وقد بلغني عن ‏حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل ‏الدين، والفقه فرعه، والعمل ثمره، ‏فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل ‏دون الكلام والفقه ابتدع، ومن ‏اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسَّق، ومن تفنَّن في الأبواب كلها ‏تخلص” اهـ، وقد روي مثل كلام ‏حاتم عن أبي بكر الورَّاق.‏

ويضاف جواباً عما تمسك به المانعون مما يذكرونه عن مالك  بأن شيخه ابن هرمز أحد فقهاء المدينة ‏‏المنورة كان بصيراً بعلم الكلام يرد على أهل الأهواء، وقد جالسه مالك كثيراً وأخذ عنه (6) كما ‏تقدم، ‏فبطل بذلك ما تمسك به هؤلاء.‏ فإن قيل: إن الإمام أحمد  كان ينكر على مَن يتكلم في علم الكلام فلذلك أمر بهجر ‏الحارث ‏المحاسبي.‏ فالجواب: أن الإمام أحمد لم يحرم الاشتغال بعلم الكلام بدليل ثنائه على المحاسبي، فقد قال تاج الدين ‏‏السبكي في طبقاته (7) ما نصه “ذكر الحاكم أبو عبد الله أن أبا بكر أحمد بن إسحاق الصَّبْغِيَّ ‏أخبره ‏قال: سمعت إسماعيل بن إسحاق السرَّاج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا ‏يُكثر الكون ‏عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأسمع كلامه. فقصدت الحارث ‏وسألته أن ‏يحضرنا تلك الليلة وأن يحضر أصحابه، فقال: فيهم كثرة، فلا تَزِدْهم على الكُسْب (8) ‏والتمر، فأتيت أبا ‏عبد الله فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في وِرده وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ‏ثم صلّوا العَتَمة ولم ‏يصلّوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث ينطقون إلى قريب نصف الليل، ثم ابتدأ ‏رجل منهم فسأل عن ‏مسئلة، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير، ‏فمنهم من يبكى ومنهم ‏من يَحِنُّ، ومنهم من يزعق وهو في كلامه، فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي ‏عبد الله فوجدته قد بكى ‏حتى غُشي عليه، فانصرفت إليهم، ولم تزل تلك حالهم حتى اصبحوا ‏وذهبوا، فصعدت إلى أبي عبد الله ‏فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم ‏الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ومع هذا فلا ‏أرى لك صحبتهم، ثم قام وخرج، وفي رواية أخرى أن ‏أحمد قال: لا أُنكر من هذا شيئا.‏ قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة، واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم ‏لقصوره ‏عن مقامهم، فإنهم في مقامٍ ضيّق لا يسلكه كل أحد فيُخاف على سلكه، وإلا فأحمد قد ‏بكى وشكر ‏الحارث هذا الشكر، ولكلّ رأي واجتهاد حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين ‏صلى الله عليه ‏وعلى ءاله وأصحابه وسلَّم” اهـ.‏ قال الحافظ أبو بكر البيهقي  في “مناقب الشافعي” (9) ما نصه ‏”باب ما جاء عن الشافعي  في مجانبة أهل الأهواء وبغضه إياهم وذمه كلامهم وإزرائه بهم ‏ودقه ‏عليهم ومناظرته إياهم.‏ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن عبدان قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يقول: ‏سمعت ‏الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك ‏بالله خير ‏من أن يلقاه بشيء من الهوى. وفي رواية بشيء من الأهواء.‏ زاد فيه غير الربيع: وذلك أنه رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه فقال الشافعي: في كتاب الله ‏المشيئة ‏له دون خلقه، والمشيئة إثبات إرادة الله يقول الله عز وجل (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ‏‏{30}) ‏‏[سورة الإنسان]، فأعلم خلقه أن المشيئة له.، وكان يثبت القدر.‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا عبد الله بن محمد القاضي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ‏‏زياد، قال: حدثنا أبو يحيى الساجي -أو فيما أجاز لي مشافهة- قال: أخبرنا الربيع فذكره وقال: ‏بشيء ‏من هذه الأهواء.‏ أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا أبو الوليد يقول: سمعت إبراهيم بن محمود يقول:‏ ح وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الوليد الفقيه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود قال: ‏‏حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو ‏رأيت ‏صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته، فقال الشافعي: أما إنه قصَّر، لو رأيته يمشي في الهواء ما ‏قبلته.‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله ابن محمد العمري قال: حدثنا أبو ‏بكر ‏محمد بن إسحاق قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أتيت الشافعي بعدما كلم حفصاً ‏الفرد فقال: ‏غبت عنا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شىء والله ما توهمنه قط، ولأن ‏يُبْتَلى المرء بجميع ‏ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام.‏ قلت: إنما أراد الشافعي  بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي ‏‏عنه في ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على ‏‏مراده.‏‎ ‎ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حيان، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن ‏بن ‏زياد، قال: سمعت أبا الوليد بن الجارود يقول: دخل حفص الفرد على الشافعي فكلمه، ثم خرج ‏إلينا ‏الشافعي فقال لنا: لأن يلقى الله العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف ‏مما عليه ‏هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول -أي حفص- بخلق القرءان، وهذه الروايات تدل على ‏مراده بما أطلق ‏عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا.‏ وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه، وكشف ‏عن ‏تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه. أخبرنا بصحة ذلك أبو ‏عبد الله ‏الحافظ ، قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن محمد- ‏قال: في كتابي ‏عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه ‏حضر عبد الله بن عبد ‏الحكم ويوسف ابن عمرو بن يزيد وحفص الفرد -وكان الشافعي يسميه ‏المنفرد- فسأل حفص عبد الله ‏بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف ‏بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار ‏إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج الشافعي وطالت المناظرة، ‏وغلب الشافعيُّ بالحجة عليه بأن القرءان ‏كلام الله تعالى غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد. قال الربيع: ‏فلقيت حفصاً الفرد فقال: أراد الشافعي ‏قتلي.‏ وقرأت في كتاب أبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي فيما رواه الشيخ أبو الفضل الجارودي الحافظ، عن ‏أبي ‏إسحاق القرّاب قال: حدثنا زكريا، قال: سمعت أبا شعيب المصري- شيخ من أصحاب الحديث- ‏يقول: ‏حضرت الشافعي محمد بن إدريس وعنده يوسف بن عمرو بن يزيد وعبد الله بن عبد الحكم ‏في منزله، ‏فدخل عليهم حفص الفرد وكان متكلماً مناظراً، فقال ليوسف: ما تقول في القرءان؟ فقال: ‏كلام الله ‏ليس عندي غير هذا، وجعلوا يحيلون على الشافعي فأقبل حفص الفرد على الشافعي فقال: ‏إنهم يحيلون ‏عليك، فقال له الشافعي: دع هذا عنك، فلم يزل به، فقال له الشافعي. ما تقول أنت في ‏القرءان؟ قال: ‏أقول: إنه مخلوق، قال: من أين قلت؟ قال: فلم يزل يحتج عليه حفص الفرد بأنه مخلوق ‏ويحتج الشافعي ‏ بأنه كلام الله غير مخلوق حتى كفَّره الشافعي وقطعه، قال أبو شعيب: ‏وحججهما عندي في ‏كتاب. قال أبو شعيب: فلما كان من الغد لقيني حفص الفرد في سوق الزجاج ‏فقال: أما رأيت ما صنع ‏بي الشافعي؟ أحب أن يريهم أنه عالم، ثم أقبل عليَّ فقال: مع أنه ما تكلم ‏أحد في هذا مثله ولا أقدر منه ‏على هذا.‏ وقد ذكرنا قبل هذا مناظرته مع حفص في زيادة الإيمان ونقصانه، وذكر الحميدي أحسن ما يحتج به ‏على ‏أهل الأرجاء فذكر لابن هَرِم ما يحتج به على من أنكر الرؤية.‏ وقرأت في كتاب الساجي عن أحمد بن مدرك الرازي قال: سمعت عبد الله بن صالح كاتب الليث ‏يقول: ‏كنا عند الشافعي في مجلسه فجعل يتكلم في تثبيت خبر الواحد عن النبي ، ‏فكتبناه ‏وذهبنا به إلى إبراهيم ابن إسماعيل ابن عُلَيَّة وكان من غلمان أبي بكر الأصم، وكان مجلسه ‏بمصر عند باب ‏الضوال، فلما قرأناه عليه جعل يحتج بإبطاله، فكتبنا ما قال ابن عليّة، وذهبنا به إلى ‏الشافعي، فنقضه ‏الشافعي وتكلم بإبطال ما قاله ابن عليَّة وقال: ابن علية ضال قد جلس عند باب ‏الضَّوال يضل الناس. ‏وبلغني عن يعقوب بن سفيان أنه حكى عن إبراهيم ابن عُلَيَّة هذا أنه تكلم في ‏القرءان بما لا أستجيز ‏حكايته.‏ وقرأت في كتاب أبى نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن ‏إسحاق ‏أنه قال: قال لي أبي. كلم الشافعي يوماً بعض الفقهاء، فدقَّق عليه وحقَّق وطالب وضيَّق، ‏فقلت له: يا أبا ‏عبد الله هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا.‏ وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني نصر بن محمد الصوفي قال: سمعت عبد الرحمن بن حفص ‏الصوفي ‏يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت ابن بحر يقول: سمعت المزني يقول: دار بيني ‏وبين رجل ‏مناظرة فسألني عن كلام كاد أن يشككني في ديني، فجئت إلى الشافعي فقلت له: كان ‏من الأمر كيت ‏وكيت، قال: فقال لي: أين أنت؟ فقلت: أنا في المسجد، فقال لي: أنت في مثل تاران ‏‏(10) تلطمك ‏أمواجه، هذه مسئلة الملحدين والجواب فيها كيت وكيت، ولأن يبتلى العبد بكل ما ‏خلق الله من مضاره ‏خير له من أن يبتلى بالكلام.‏ قلت: تاران في بحر القلزم، يقال فيها غرق فرعون وقومه، فشبه الشافعي المزني فيما أورد عليه بعض ‏أهل ‏الإلحاد ولم يكن عنده جواب بمن ركب البحر في الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه ‏وأشرف على ‏الهلاك.، ثم علمه جواب ما أورد عليه حتى زالت عنه تلك الشبهة، وفي ذلك دلالة على ‏حسن معرفته ‏بذلك، وأنه يجب الكشف عن تمويهات أهل الإلحاد عند الحاجة إليه، وأراد بالكلام ما ‏وقع فيه أهل ‏الإلحاد من الإلحاد وأهل البدع من البدع. والله أعلم.‏ فأما استحبابه ترك الخوض فيه والإعراض عن المناظرة فيه عند الاستغناء عنها فقد كان رحمه الله يميل ‏إليه ‏مع معرفته به.‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو احمد بن أبي الحسن قال: أخبرنا عبد الرحمن- يعني ابن ‏محمد- ‏أخبرنا الربيع قال: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون في شىء ‏من الكلام ‏فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا.‏ وأخبرنا أبو عبد الله قال: سمعت أبا الفضل الحسن بن يعقوب العدل يقول: سمعت أبا أحمد محمد بن ‏رَوْح ‏يقول: سمعت المزني يقول: كنا على باب الشافعي نتناظر في الكلام، فخرج إلينا الشافعي وسمع ‏بعض ما ‏كنا فيه فرجع عنا فما خرج إلينا إلا بعد سبعة أيام، ثم خرج فقال: ما منعني من الخروج ‏إليكم علة ‏عرضت ولكن لما سمعتكم تتناظرون فيه أتظنون أني لا أحسنه؟ لقد دخلت فيه حتى بلغت ‏منه مبلغاً، وما ‏تعاطيت شيئاً إلا وبلغت فيه مبلغاً حتى الرمي كنت أرمي بين الغرضين فأصيب من ‏العشرة تسعة ولكن ‏الكلام لا غاية له.، تناظَرُوا في شىء إن أخطأتم فيه يقال لكم: أخطأتم، لا ‏تناظروا في شىء إن أخطأتم فيه ‏يقال لكم: كفرتم.‏ أخبرنا أبو عبد الله قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، عن أبي العباس محمد بن عبد ‏الرحمن ‏يعني الدغولي قال: سمعت زكريا ابن يحيى يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ‏يقول: قال ‏الشافعي: يا محمد، إن سألك رجل عن شىء من الكلام فلا تجبه، فإنه إن سألك عن دية ‏فقلت: درهماً أو ‏دانقاً قال لك: أخطأت، وإن سألك عن شىء من الكلام فزللت قال: كفرت.‏ وفي حكاية المزني عن الشافعي رحمه الله دلالة على أنه كان قد تعلم الكلام وبالغ فيه، ثم استحب ترك ‏‏المناظرة فيه عند الاستغناء عنها.‏ وفي رواية زكريا بن يحيى الساجي عن الربيع في هذه الحكاية بعينها قال: انحدر علينا الشافعي من ‏درجته ‏يوماً وهم يتجادلون في القدر فقال: إما أن تقوموا عنا أو تجاورونا بخير، فلأن يلقى الله العبد ‏بكل ذنب ما ‏خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشىء من هذه الأهواء. فإنما أراد ذم مذهب القدرية، ‏ألا تراه قال ‏بشىء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه.‏ وكأنه تبع فيه ما رويناه عن عمر بن الخطاب  عن النبي  أنه قال “‏لا ‏تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم الحديث” وغير ذلك من الأخبار الواردة في معناه.‏ وعلى مثل هذا جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما ‏في ‏كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله عز ‏وجل، ‏وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شىء إلا بحكم الله وتقديره وإرادته، وكذلك في ‏سائر ‏مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم، حتى حدثت طائفة سمّوا ما في كتاب ‏الله عز ‏وجل من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا يترك القول بالأخبار أصلاً وزعموا أن الأخبار التي ‏حملت إليهم لا ‏تصح في عقولهم، فقام جماعة من أئمتنا رحمهم الله بهذا العلم وبَيَّنُوا لمن وُفّق للصواب ‏ورُزق الفهم أنَّ ‏جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في العقول، وما ادعوه في الكتاب من التَّشابه ‏باطل في المعقول.‏ وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم وكشفوا عنها بما هو ‏حجة ‏عليهم عندهم، كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ‏وما في ترك ‏إنكار المنكر والسكوت عليه من الفساد والتعدي. وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام ‏أهل الأهواء.، ‏فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يتسمون ‏بتسميتهم، ولهذا قال ‏الشافعي ما أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو نصر محمد بن علي ‏بن طلحة المروروذي قال: ‏حدثنا أبو سعيد أحمد بن علي الأصبهاني قال: حدثنا زكريا ابن يحيى ‏الساجي قال: حدثني محمد بن ‏إسماعيل قال: سمعت أبا ثور وحسيناً يقولان: سمعنا الشافعي يقول: ‏حكمي في أهل الكلام أن يضربوا ‏بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ‏وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب ‏والسنة وأقبل على الكلام.‏ وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الدّينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي ‏قال: ‏حدثنا زكريا بن يحيى السَّاجي. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الطيب الفقيه قال: ‏حدثنا أبو ‏جعفر الأصبهاني قال: حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى قال: حدثنا أبو داود- يعني ‏السّجستاني – قال: ‏حدثنا أبو ثور قال: سمعت الشافعي يقول: من ارتدى بالكلام لم يفلح. وإنما ‏يعني- والله أعلم- كلام أهل ‏الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معوَّلهم عقولهم، وأخذوا ‏في تسوية الكتاب عليها، وحين ‏حُمِلت إليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا ‏عنها. فأما أهل السنة فمذهبهم في ‏الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في ‏العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير ‏مستقيم على العقل، وبالله التوفيق.‏ ولاستحباب الشافعي ومن كان في عصره من أئمتنا ترك الخوض في الكلام وترك الاشتهار به عند ‏‏الاستغناء عنه معنى ءاخر، وهو أن الشافعي حين قدم العراق في خلافة الرشيد كان قد دخل على ‏المأمون ‏باستدعائه دخوله عليه ورأى تقريبه بشراً المريسي وأمثاله من أهل البدع، وحين عاد إلى ‏العراق في خلافة ‏المأمون شاهد غلبة أهل الأهواء على مجلسه، وأحس ببعض ما رأى أهل السنة من ‏غلبة أهل الأهواء في ‏عصره، ثم بما أصابهم من المحنة في أيام المعتصم والواثق ” انتهى كلام البيهقي.‏ ثم قال البيهقي(11) “وفي كل ذلك دلالة على أن استحباب من استحب من أئمتنا ترك الخوض ‏في ‏الكلام إنما هو للمعنى الذي أشرنا إليه، وأن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف ‏الكتاب ‏والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة وبُيّنَ بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه ‏عند الحاجة، ‏تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم عند الحاجة كما سبق ذكرنا له” ‏اهـ.‏ وقال العلامة البياضي الحنفي في “إشارات المرام” ما نصه (12) “وما روي عن أبي يوسف أن ‏الجهل ‏بالكلام هو العلم، ولا يشمل الوصية للعلماء لأهل الكلام فهو في كلام المخالفين من أهل ‏الأهواء كما في ‏الكردرية وشرح المنهاج للسبكي وشرح جمع الجوامع، وما روي عنه أنه زندقة وأنه ‏ألف الرسالة في المنع ‏عنه ففي كلام أهل الأهواء المكفرة كما في التبصرة البغدادية، ومن حمله على ‏إطلاقه فقد جهل أصولهم ‏المقررة، وسيأتي تفصيله في الباب الثالث إن شاء الله تعالى، وما روي عنه ‏وعن محمد من عدم تجويزهما ‏الاقتداء بمن يناظر فيه وَرَدَ مفسراً بكراهته فيمن يناظر فيه للغلبة والإيراد ‏دون إظهار الحق والإرشاد كما ‏في الخانية والملتقط فإنهما كانا يناظران فيه كما مر، وفي الخانية ومجمع ‏الفتاوى أن المنهي عنه هو كلام ‏الفلاسفة وكلام الخصومة، فأما المناظرة فيه على وجه إظهار الحق فلا ‏كراهة فيها بل هي المأمور بها في ‏قوله تعالى (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {125}) [سورة ‏النحل]، وكذا ما روي عن مالك  أن أهل ‏الكلام أهل البدعة محمول على كلام المخالفين كما تدل ‏عليه التسمية، فإنه كان خاصّاً بكلامهم في عصر ‏السلف كما صرح به البيهقي، وكذا ما روي عن ‏الشافعي  أنه قال: لو علم الناس ما في الكلام من ‏الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد، ولأن يلقى ‏الله تعالى العبدُ بكل ذنب سوى الإشراك خير له من ‏أن يلقاه بشىء من الكلام، ورأى في أهله بأن ‏يضربوا بالجريد وأن يطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء ‏من ترك الكتاب والسنة، فقد قال ‏البيهقي: إنما أراد به كلام أهل الأهواء كحفص الفرد وأمثاله، فبعض ‏الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي ‏تقييد من قيده دليل على مراده” اهـ.‏ ثم قال البياضي (13) “وكذا ما روي عن أحمد بن حنبل  أنه بدعة وأنه لا يفلح صاحب الكلام أبداً ‏فإن ‏المراد منه كلام أهل الأهواء” اهـ.‏ وأما تمسك البعض بما يروي عن ابن خويزمنداد من ذمه لعلم الكلام فالجواب ما قاله الشيخ ابن حجر ‏‏الهيتمي في كتابه “الفتاوى الحديثية” ونص عبارته (14) “قلت: قال ابن برزة شارح إرشاد إمام ‏الحرمين: ‏هذا النقل عنه باطل، فإن صح عنه فالحق حجة عليه، وإذا تصفحت قواعد الأشعرية ‏ومذاهبهم ومبادئهم ‏وجدتها راجعة لعلم الكلام بل من أنكر علم التوحيد أنكر القرءان وذلك عين ‏الكفران والخسران، وكيف ‏يرجع لابن خويزمنداد ويترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة من ‏الصحابة ومن بعدهم كالأشعري ‏والباهلي والقلانسي والمحاسبي وابن فورك والإسفراييني والباقلاني ‏وغيرهم من أهل السنة، وأنشدوا في ‏تفضيله:‏ أيها المقتدي ليطلب علما…. كلّ علم عبد لعلم الكلام ‏

وقال الحافظ ابن عساكر (15) “أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي قال: قال لنا ‏‏الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: إن الأشعري لا يشرط في صحة الإيمان ما قالوه ‏يعني ‏من شنع عليه أن أغمار العوام عنده غير مؤمنين لأنهم خليون عن علم الكلام بل هو وجميع أهل ‏التحصيل ‏من أهل القبلة يقولون يجب على المكلف أن يعرف الصانع المعبود بدلائله التي نصبها على ‏توحيده ‏واستحقاقه نعوت الربوبية، وليس المقصود استعمال ألفاظ المتكلمين من لفظ الجوهر والعرض ‏وإنما ‏المقصود حصول النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله، وإنما استعمل المتكلمون هذه الألفاظ ‏على سبيل ‏التقريب والتسهيل على المتعلمين، والسلف الصالح وإن لم يستعملوا هذه الألفاظ فلم يكن ‏في معارفهم ‏خلل، والخلف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مباينة ولا في ‏الدين بدعة كما ‏أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء من ‏لفظ العلة والمعلول ‏والقياس وغيره، ثم لم يكن استعمالهم بذلك بدعة ولا خُلُو السلف عن ذلك كان ‏لهم نقصاً وكذلك شأن ‏النحويين والتصريفيين ونقلة الأخبار في ألفاظ تختص بها كل فرقة منهم.‏ فإن قالوا: إن الاشتغال بعلم الكلام بدعة ومخالفة لطريقة السلف، لا يختص بهذا السؤال الأشعري ‏دون ‏غيره من متكلمي أهل القبلة، ثم الاسترواح إلى مثل هذا الكلام صفة الحشوية الذين لا تحصيل ‏لهم، ‏وكيف يظن بسلف الأمة أنهم لم يسلكوا سبيل النظر وأنهم اتصفوا بالتقليد، حاش لله أن يكون ‏ذلك ‏وصفهم ولقد كان السلف من الصحابة مستقلين بما عرفوا من الحق وسمعوا من لرسول  ‏من أوصاف المعبود وتأملوه من الأدلة المنصوبة في القرءان وإخبار الرسول  في ‏مسائل التوحيد، ‏وكذلك التابعون وأتباع التابعين لقرب عهدهم من الرسول ، فلما ظهر ‏أهل الأهواء وكثر ‏أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية وأوردوا الشبه انتدب أئمة أهل ‏السنة لمخالفتهم ‏والإيصاء للمسلمين بمباينة طريقتهم، فلما أشفقوا على القلوب أن يخامرها شبههم ‏شرعوا في الرد عليهم ‏وكشف شبههم وأجابوهم عن أسئلتهم وحاموا عن دين الله بإيضاح الحجج، ‏ولم يقولوا في مسائل ‏التوحيد إلا بما نبههم الله سبحانه عليه في محكم التنزيل، والعجب ممن يقول ليس ‏في القرءان علم الكلام ‏والآيات التي هي في‎ ‎الأحكام الشرعية نجدها محصورة والآيات المنبهة على علم ‏الأصول نجدها توفي على ‏ذلك وتربي بكثير.‏ وفي الجملة لا يجحد علم الكلام إلا أحد رجلين: جاهل ركن إلى التقليد وشق عليه سلوك طرق أهل ‏‏التحصيل وخلا عن طرق أهل النظر والناس أعداء ما جهلوا، فلما انتهى عن التحقق بهذا العلم نهى ‏الناس ‏ليضل كما ضل، أو رجل يعتقد مذاهب فاسدة فينطوي على بدع خفية يلبس على الناس عوار ‏مذهبه ‏ويعمي عليهم فضائح عقيدته ويعلم أن أهل التحصيل من أهل النظر هم الذين يهتكون الستر ‏عن بدعهم ‏ويظهرون للناس قبح مقالاتهم، والقَلاّب لا يحب من يميز النقود والخلل فيما في يده من ‏النقود الفاسدة ‏كالصراف ذي التمييز والبصيرة، وقد قال الله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ‏وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ‏‏{9}) [سورة الزمر]،. فهذا ما حضرني من مدح الكلام والمتكلمين وذكر بعض ‏من كان نعلمه من ‏علماء المسلمين.‏

فإن قال بعض الجهال من المبتدعة: لسنا نعرف غير المذاهب الأربعة فمن أين أتى هذا المذهب الخامس ‏‏الذي اخترعتموه ولمَ رضيتم لأنفسكم بالانتساب إلى الأشعري الذي اتبعتموه، وهلا اقتنعتم ‏بالانتساب ‏إلى الإمام الألمعي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فإنه أولى بالانتساب إليه ممن سواه ‏وأحق بالانتماء ‏إلى مذهبه ممن عداه؟ قلنا: هذا قول عري عن الصدق وقائله بعيد عن الحق فمن ذا الذي حصر المذاهب بالعدد الذي ‏حصرتم ‏ومن يصحح لكم من قولكم ما ذكرتم، بل المذاهب أكثرها لا ينحصر بهذا العدد الذي عددتم ‏ولو كانت ‏منحصرة به لم يحصل لكم بذلك ما قصدتم، وكأنكم لم تسمعوا بمذهب الليث بن سعد ‏المصري وعثمان ‏بن سليمان البتي البصري وإسحاق بن راهويه الخراساني وداود بن علي الأصبهاني ‏وغيرهم من علماء ‏الإسلام الذين اختلفوا في الفتاوى والأحكام لا في أصول الدين المبنية على القطع ‏واليقين، وليس انقراض ‏أرباب هذه المذاهب التي سمينا يصحح لهذا الجاهل هذه المقالة التي عنه حكينا. ‏ولسنا نسلَّم أن أبا الحسن ‏اخترع مذهباً خامساً وإنما أقام من مذاهب أهل السنة ما صار عند المبتدعة ‏دارساً، وأوضح من أقوال من ‏تقدمه من الأربعة وغيرهم ما غدا ملتبساً، وجدد من معالم الشريعة ما ‏أصبح بتكذيب من اعتدى ‏منطمساً، ولسنا ننتسب بمذهبنا في التوحيد إليه على معنى أنَّا نقلده فيه ‏ونعتمد عليه ولكنا نوافقه على ما ‏صار إليه من التوحيد لقيام الأدلة على صحته لا لمجرد التقليد، وإنما ‏ينتسب منا من انتسب إلى مذهبه ‏ليتميز عن المبتدعة الذين لا يقولون به من أصناف المعتزلة والجهمية ‏المعطلة والمجسمة والكرامية والمشبهة ‏السالمية وغيرهم من سائر طوائف المبتدعة وأصحاب المقالات ‏الفاسدة المخترعة، لأن الأشعري هو الذي ‏انتدب للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمن لم يعرف البدع ‏بدعهم، ولسنا نرى الأئمة الأربعة الذين عنيتم ‏في أصول الدين مختلفين بل نراهم في القول بتوحيد الله ‏وتنزيهه في ذاته مؤتلفين، وعلى نفي التشبيه عن ‏القديم سبحانه وتعالى مجتمعين، والأشعري رحمه الله ‏في الأصول على منهاجهم أجمعين، فما على من ‏انتسب إليه على هذا الوجه جناح ولا يرجى لمن تبرأ ‏من عقيدته الصحيحة فلاح، فإن عددتم القول ‏بالتنزيه وترك التشبيه تمشعراً فالموحدون بأسرهم ‏أشعرية، ولا يضر عصابة انتمت إلى موحد مجرد التشنيع ‏عليها بما هي منه برية، وهذا كقول إمامنا ‏الشافعي المطلبي ابن عم المصطفى النبي ‏فيما أخبرنا الشيخ أبو القاسم هبة الله بن ‏عبد الله ابن أحمد الواسطي ببغداد قال: أنا أبو بكر أحمد بن علي ‏بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو سعد ‏إسماعيل بن علي بن الحسن بن بندار ابن المثنى الأستراباذي ببيت ‏المقدس قال: أخبرنا علي بن الحسن ‏بن حيويه الدامغاني قال: أنا محمد بن محمد بن الأشعث، ثنا الربيع هو ‏ابن سليمان، قال: أنشدنا ‏الشافعي :

يا راكباً قف بالمحصب من منى**** واهتف بقاطن خيفها والناهض‎ ‎

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب ءال محمد ***** فليشهد الثقلان إني رافضي ‏

انتهى كلام الحافظ ابن عساكر.

…………………………………………………………………………………..

(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص/ 420).‏ ‏
(2) أخرج طرقه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص/337).‏ ‏
(3) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب: رح السنّة.‏
(4) و (5) تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 334).‏
(6) سير أعلام النبلاء (6/ 379- 0 38).‏ ‏
(7) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 279).‏ ‏
(8) الكسب بالضم: عصارة الدهن
(9) مناقب الشافعي(1/452-464).‏ ‏
(10) “تاران ” جزيرة في بحر القلزم بين القلزم وأيلة وهو أخبث مكان في هذا البحر، فيه دوران ماء ‏في ‏سفح جبل إذا وقع الريح على ذروته أنقطع الريح قسمين فيلقى المركب بين شعبتين من هذا الجبل ‏‏متقابلتين فتخرج الريح من كليهما فيثور البحر على كل سفينة تقع في ذلك الدوران. راجع معجم ‏‏البلدان (2/ 352- 353).‏ ‏
(11) مناقب الشافعي (1/ 467).‏ ‏
(12) إشارات المرام (ص/ 36).‏ ‏
(13) المصدر السابق (ص/ 37).‏
(14) الفتاوى الحديثية (ص/ 207- 208).‏
(15) تبيين كذب المفتري (ص/ 357 وما بعدها)، وطبقات الشافعية (3/ 420 وما بعدها).‏

أضف تعليق