تعريف بإمامي أهل السـنة والجماعة

تعريف بإمامي أهل السـنة والجماعة

الأشاعرةُ هم فِرقة من أهلِ السُّـنَّةِ والجماعةِ وافقوا إمامَ الهدى أبا الحسنِ الأشعريَّ في عقيدتهِ وتمسَّكوا بكلِّ ما أقرَّ به في علم الكلامِ ولم يشِذُّوا عنها.. أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ إسماعيلَ بنِ إسحاقَ الأشعريُّ البَصْرِيُّ، إمامُ المتكلِّمين، وناصرُ سُنَّةِ سَيِّدِ المرسَلين، والذَّابُّ عن الدين، والمصحِّح لعقائدِ المسلمين، القامعُ للمعتزلةِ والخوارجِ والجَهْمِيَّةِ وسائرِ أصنافِ المبتدِعةِ بلسانه وقلمهِ.. وهو من نسلِ الصحابيِّ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.. وكان قد تعمَّق في مذهبِ المعتزلةِ ثمَّ جاهر بخِلافِهم، ورَدَّ عليهم، وبيَّن فساد معتقدِهم، وتغلَّب على رؤسائهم بالأدلّةِ الباهرة، في مناظراتٍ كثيرة، في مناسباتٍ عديدة، ودافع عن عقائدِ أهلِ السُّـنَّة، وأقام الأدلّةَ على حَقِّيَّتِهَا وبطلانِ ما يخالفُها، وأكثرَ من التأليفِ في نصرةِ مذهبِ أهلِ السُّـنَّةِ والجماعة، حتَّى قيل [بَلَغَتْ مُصَنَّفاتُهُ ثلاثَمِائةِ كتاب]..

كان يقنع في عيشهِ باليسير.. وكان عَجَبًا في الذكاءِ وقوَّة الفَهْمِ.. وشهِد بفضلهِ الأكابرُ، ووافقه وانتسَب إليه ما لا يُحْصَى من العلماءِ والفقهاءِ والمحدِّثينَ.. وقد اتَّفَقَ أصحابُ الحديثِ وغيرُهم من العلماء على أنَّ أبا الحَسَنِ الأشعريَّ إمامُ هدًى، وأنَّه إمامٌ من أئمَّة أصحابِ الحديثِ، وأنَّ مذهبَه في أصولِ الدينِ مذهبُهم، وهو مذهبُ أهلِ السُّـنَّة، وأنَّه أحسنَ الرَّدَّ على المخالفينَ من أهلِ الزَّيْغِ والبدعة، وأنَّه كان سيفًا مسلولًا عليهم، وأنَّ كلَّ مَنْ طَعَنَ فيه فقد بسَط لسانَ السُّوءِ في جميعِ أهلِ السُّـنَّة.. ويُعَدُّ أشهَر من بيَّن عقائدَ أهلِ السُّـنَّةِ ودافع عنها وأفحم مخالفيها وأظهر فسادَهم.. وقد عَدَّ بعضُ أهلِ العلمِ الإمامَ الأشعريَّ مُجَدِّدَ الْمِائَةِ الثالثة.. وليس صحيحًا ما يحاولُ بعضُ الوهّابيِّينَ ترويجَه من أنَّ الإمامَ الأشعريَّ نفسَه تبرَّأ من مذهبهِ في الاعتقادِ في ءاخِر حياتهِ واعتنق مذهبَهم.. فهذه كَذْبَةٌ وَقِحَةٌ لا يقومُ عليها دليل ولا شُبْهَةُ دليل.. والذي حَمَلَهُمْ عليها أنَّهم رَأَوْا ما لا يُحْصَى من كُتُبِ كبارِ العالماءِ ومشاهيرِهم على مَرِّ العصورِ مشحونةً بمدحِ الإمامِ الأشعريِّ وعقيدتهِ ووَصْفهِ بإمامِ أهلِ السُّـنَّةِ ووَصْفِ عقيدتهِ بأنَّها عقيدةُ أهلِ السُّـنَّة مِمَّا لا يمكنُهم إنكارُه ولا تغييرُه لاستفاضتهِ وتواترِه، فعمدوا إلى هذه الكَذْبَةِ الباردةِ التي اختلقوها من عندِ أنفسِهم، فتمسَّكوا بها وحاولوا ترويجَها دفاعًا عن مذهبهم الركيكِ الباطلِ المخالفِ في الحقيقةِ لأصولِ مذهبِ أهلِ السُّـنَّةِ والجماعة… قال أبو بكر الصَّيْرَفِيُّ وهو مِنْ نظراءِ الشيخِ أبي الحسن [كانت المعتزلةُ قد رفعوا رؤوسَهم حتَّى أظهر اللهُ الأشعريَّ فحَجَرَهم في أقماعِ السِّمْسِم].

كان الأشعريُّ شافعيَّ المذهب.. وحُكِيَ عن أبي إسحاقَ الإسفرايينيِّ أنَّ أبا الحَسَنِ الأشعريَّ كان يقرأ على أبي إسحاقَ الْمَرْوَزِيِّ الفِقْهَ وهو يقرأ على أبي الحَسَنِ علمَ الكلام.. وقد جمَع الحافظُ ابنُ عساكرَ لأبي الحَسَنِ ترجمةً حَسَنَةً ورَدَّ على من تعرَّض له بالطعن في كتابٍ سمَّاه (تبيينُ كذِب المفتري فيما نُسِبَ إلى الشيخ الأشعريِّ).

صرَّح أبو الحَسَنِ الأشعريُّ في كتابه (النوادر) بتكفير المشبِّهة والمجسِّمة.. وأمَّا هذا الكتابُ المنسوبُ إليه المعروفُ بـ(مقالات الإسلاميِّين) فلا يَصِحُّ نسبتُه إليه.. هذا الكتاب المسمَّى (مقالاتُ الإسلاميِّين) يقولُ بترك تكفير كلِّ الفِرَقِ المنتسبةِ إلى الإسلام من مشبِّهة ومُرْجِئَةٍ وجبريَّة ومعتزلةٍ وغيرِهم.. وهذا الكلامُ لا يوافق عليه الإمامُ أبو الحسن.. وهكذا كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) للغزاليِّ.. فاحذروا هذين الكتابين.. وكتابُ (الإبانة) من تأليفِ أبي الحسن، لكن أكثرُ نسخهِ سقيمة.. وكلُّ النسخِ التي تَنْقُلُ منها المجسِّمة القدماءُ وغيرُهم غيرُ صحيحةٍ لأنها لم تكن مُقَابَلَةً بيدِ ثقةٍ على نسخةٍ قابلَها ثقةٌ وهكذا إلى أصلِ المؤلِّف الذي كَتَبَهُ بخَطِّهِ أو كَتَبَهُ ثقةٌ بإملاءِ المؤلِّف فقابلَه على المؤلِّف.. مات أبو الحسن في بغدادَ سنةَ أربعٍ وعشرينَ وثلاثِمِائةٍ للهجرة.. وقيل سنةَ عشرين، وقيل سنةَ ثلاثين.. رحم الله أبا الحسن ونفعنا بعلمه..

وأمَّا الماتُريدِيَّةُ فهم الفِرقة الثانيةُ من أهل السُّـنَّةِ والجماعة، وافقوا إمامَ الهدى أبا منصورٍ الماتُريدِيَّ في عقيدته وتمسَّكوا في كلِّ ما أقرَّ به في علمِ الكلامِ ولم يشِذُّوا عنها.. هو أبو منصورٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ محمودٍ الماتُريدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ.. والماتُريدِيُّ نسبةً إلى ماتُريدَ، وهي مَحَلَّةٌ بسَمَرْقَنْدَ فيما وراء النهر.. وكان الإمامُ الماتُريدِيُّ والإمامُ أبو الحسن الأشعريُّ الإمامَين الجليلَين اللذَين حَرَّرَا عقيدةَ أهلِ السُّـنَّةِ والجماعةِ بالأدلّةِ النقليَّةِ والعقليَّةِ.. وقد لُقِّبَ الماتُريدِيُّ بـ[إمام الهدى] و[إمام المتكلِّمين] و[إمام أهلِ السُّـنَّة]، وهي ألقابٌ تُظْهِرُ مكانتَه في نفوس مسلمي عصره ومحبِّيه… وعلى رَغْمِ ذيوع اسمهِ واشتهارِه واشتهارِ فِرقة الماتُريدِيَّةِ المنسوبةِ إليه فقد كان المؤرِّخون الذين كتبوا عنه قِلَّةٌ… ولم تَذْكُرِ المراجعُ سَنَةَ ميلادِه بالتحديد، ولكنْ يُمْكِنُ القولُ إنَّه وُلِدَ في عهد المتوكِّل الخليفةِ العباسيِّ، وإنَّه يتقدَّم بمولدِه على الإمام أبي الحسن الأشعريِّ ببضعٍ وعشرينَ سنة…

وُلِدَ أبو منصور في بيتٍ شُغِفَ بالعلوم الدينيَّةِ.. فنشأ وتعلَّم علومَ الدين منذ صغره.. ولم يتقاعس لحظةً في الدعوة إلى مذهب أهل السُّـنَّةِ والدفاعِ عنه والتمسُّكِ به.. ولم يفتُر عزمُه عن الاشتغال بعلم الكلام والتأليفِ فيه ونَصْبِ الأدلّةِ والحججِ والبراهين.. ولم تَذْكُرِ المراجعُ إلّا القليلَ من مشايخهِ الذين تلقَّى علومَه عنهم، إلّا أنَّهم جميعًا يصِل سنَدُهم في العلم إلى الإمامِ الجليل أبي حنيفةَ النعمان.. تلقَّى أبو منصورٍ العلمَ والحديثَ على يدِ نصيرِ بنِ يحيى البَلْخِيِّ، وأبي نصرٍ أحمدَ بنِ العِيَاضِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ مقاتلٍ الرَّازِيِّ، وجميعُهم من كبارِ علماءِ المذهبِ الحنفيِّ.. والعقيدةُ الماتُريدِيَّة تتَّفق تمامَ الاتِّفاقِ مَعَ ما قرَّره أبو حنيفةَ في العقائدِ.. كما تتَّفق في الأصولِ مَعَ عقيدةِ الأشعريِّ.. وإليها ينتسبُ ما لا يُحْصَى من العلماء.. وللمنتسبينَ إلى الماتُريدِيِّ دور مهمٌّ في نصرةِ عقيدةِ التنزيهِ السُّنِّيَّةِ ونشرِها.. وقد بَرَزَ من علمائهم كثيرونَ في هذا المجالِ، كأبي اليُسْرِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ البَزْدَوِيِّ، وأبي الْمُعِينِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ النَّسَفِيِّ، ونجمِ الدينِ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدٍ النَّسَفِيِّ.. وقد شاركوا الأشاعرةَ على مرِّ التاريخِ في مكافحةِ ما ظهَر من فِرَقِ المبتدِعةِ كالمجسِّمةِ والمعتزلة..

ومن أشهر الماتُريدِيَّةِ في القرنِ المنصرمِ المحدِّث الشيخُ مُحَمَّدُ زاهدٍ بنُ الحَسَنِ الكوثريُّ الحنفيُّ الذي كان سيفًا مُسَلَّطًا على الوهّابيَّةِ وغيرِهم من المجسِّمة… وكان للإمام أبي منصورٍ الماتُريدِيِّ العديدُ من المؤلَّفات، منها ما كان في علمِ الكلام والعقيدة، ومنها ما كان في أصول الفِقْهِ، ومنها ما كان في تأويل القرءان… أمَّا في علمِ الكلام فله عِدَّةُ مصنَّفات، منها : كتاب (التوحيد)، وكتاب (المقالات)، وكتاب (الرَّدِّ على القرامطة)، وكتاب (بيان وَهْمِ المعتزلة)، وغيرُها.. وأمَّا في علم أصول الفِقه فله كتاب (الجَدَل) وكتاب (مأخذ الشرائع في أصول الفِقه).. وأمَّا مؤلَّفات الإمام الماتُريدِيِّ في تأويل القرءان فمنها كتاب (تأويلات أهلِ السُّـنَّة) ويقال له (تأويلاتُ الماتُريدِيِّ في التفسير) أو (تأويلاتُ القرءان).. ومن تصانيف الإمامِ أبي منصورٍ الماتُريدِيِّ كتابُ (شرح الفِقه الأكبر)، وهو كتاب يُعْرَفُ محتواه من عنوانه.. فقد تناول كتابَ (الفِقه الأكبر) لأبي حنيفةَ بالشرح والإيضاح والتفسير.. مات الإمامُ أبو منصور سنةَ ثلاثِمِائةٍ وثلاثٍ وثلاثينَ للهجرة ودُفِنَ بسَمَرْقَنْدَ..ا رحم الله أبا منصورٍ ونفعنا بعلمه.

وخلاصةُ القولِ أنَّ هذينِ الإمامَينِ العظيمَينِ مُتَّبِعَانِ لا مبتدِعانِ في اعتقادِهما.. أي أنَّهما موافقانِ في معتقَدِهما للقرءانِ الكريمِ والسُّـنَّةِ النبويَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ، لا يخرُجانِ عنها، وإنَّما يشرحانِ ما أجْمَلَتْ، ويُظْهِرَانِ حَقِّيَّتَهَا وموافقَتَها للعقلِ فيما قَرَّرَتْ من العقائد.. فهما ما زادا على أن بيَّنا عقائدَ أهلِ الحقِّ ونَصَبَا عليها الأدلّةَ والبراهينَ ونَفَيَا عنها تشويشَ المشوِّشينَ وانحرافَ المنحرفينَ وشرحاها للطالبينَ وفصَّلاها للمسترشدينَ، فنُسِبَتْ عقيدةُ أهلِ الحقِّ إليهما، لا على معنى أنَّهما جاءا بها من عندِ نَفْسَيْهِمَا، ولا على معنى أنَّهما انفردا بخدمتِها دون غيرِهما، بل بمعنى أنَّهما نقلاها وخدَماها صافيةً نقيَّة فيمن نقلَها وخدَمها من أهلِ العلم، فشرَّفهما اللهُ بانتسابِ أهلِ الحقِّ بعدَهما إليهما في علمِ العقيدةِ، وذلك مشابهٌ لِمَا حصَل في علمِ القراءاتِ، إذ أصبحَت كلُّ واحدةٍ من قراءاتِ القرءانِ المتواتِرةِ عن رسولِ الله  تُعْرَفُ باسمِ إمامٍ من أئمَّة الإقراءِ، فيقالُ مثلًا [هذه قراءةُ عاصِم] و[هذه قراءةُ نافِع]، مَعَ أنَّ الإمامَ نافعًا والإمامَ عاصمًا لم يَزيدا على أن نقَل كلٌّ منهما قراءتَه المتواتِرةَ فيمن نقلَها من القرَّاء وعلَّمها للطلّابِ فيمن علَّمها وخدَمها فيمن خدَمها، فشرَّفه اللهُ بأن عُرِفَتْ بعدَه باسمهِ دون غيرِه من الأئمَّة القرَّاءِ.. والله يفعلُ ما يشاء.. والحمد للهِ رَبِّ العالَمين..

أضف تعليق