وقصة ولي من حلب
رحمة بنت إبراهيم كانت في القرن الثالث الهجري مضى عليها منذ توفيت ألف ومائة وشيء هذه المرأة الصالحة عاشت نحو ثلاثين عاما لا تأكل ولا تشرب هي صحيحة الجسم صحيحة الفكر والأعصاب، ما منعها ترك الأكل والشرب من قوة المشي ولا منعها من صحة الفكر ولا منعها من الفهم ظلت طيلة هذه المدة بلا أكل ولا شرب وهي صحيحة الجسم ليكون هذا عبرة للمؤمنين حتى يعرفوا أن الله تعالى هو الذي يخلق الصحة وهو الذي يحفظ الصحة فيمن يشاء من عباده إلى الوقت الذي شاء على حسب علمه الأزلي فلو كانت الصحة يخلقها الأكل والشرب هذه المرأة ما عاشت هذه المدة الطويلة وهي صحيحة الفكر، صحيحة الجسم.
وقد جاء في قصتها: في سنة ثمان وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزاراسب وهي في غربي وادي جيحون ومنها إلى المدينة العظمى مسافة نصف يوم وخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤية كأنها أطعمت في منامها شيئا فهي لا تأكل شيئا ولا تشرب منذ عهد أبي العباس بن طاهر والي خراسان وكان توفي قبل ذلك بثمان سنين رضي الله عنه ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنتين وأربعين ومائتين فرأيتها وحدثتني بحديثها فلم أستقص عليها لحداثة سني ثم إني عدت إلى خوارزم في ءاخر سنة اثنتين وخمسين ومائتين فرأيتها باقية ووجدت حديثها شائعا مستفيضا .
وهذه المدينة على مدرجة القوافل وكان الكثير ممن ينزلها إذا بلغهم قصتها أحبوا أن ينظروا إليها فلا يسألون عنها رجلا ولا امرأة ولا غلاما إلا عرفها ودل عليها فلما وافيت الناحية طلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ فمضيت في أثرها من قرية إلى قرية فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية فإذا هي امرأة نصف جيدة القامة حسنة الثدية ظاهرة الدم متوردة الخدين ذكية الفؤاد فسايرتني وأنا راكب، فعرضت عليها مركبا فلم تركبه وأقبلت تمشي معي بقوة .
وكان حضر مجلسي قوم من التجار والدهاقين وفيهم فقيه يسمى محمد بن حمدويه الحارثي وقد كتب عنه موسى بن هارون البزار بمكة وكهل له عبادة ورواية للحديث، وشاب حسن يسمى عبد الله بن عبد الرحمن
وكان يحلف أصحاب المظالم بناحيته فسألتهم عنها فأحسنوا الثناء عليها وقالوا عنها خيرا وقالوا إن أمرها ظاهر عندنا فليس فينا من يختلف فيها
قال المسمى عبد الله بن عبد الرحمن: أنا أسمع حديثها منذ أيام الحداثة ونشأت والناس يتفاوضون في خبرها وقد فرغت بالي لها وشغلت نفسي بالاستقصاء عليها فلم أر إلا سترا وعفافا ولم أعثر لها على كذب في دعواها ولا حيلة في التلبيس، وذكر أن من كان يلي خوارزم من العمال كانوا فيما خلا يستحضرونها ويحصرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقون عليها ويوكلون من يراعيها فلا يرونها تأكل ولا تشرب، ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط فيبرونها ويكسونها ويخلون سبيلها
فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها قصصتها عن حديثها وسألتها عن اسمها وشأنها كله فذكرت أن اسمها رحمة بنت إبراهيم وأنه كان لها زوج نجار فقير معاشة من عمل يده، يأتيه رزقه يوما فيوما لا فضل في كسبه عن قوت أهله، وأنها ولدت له عدة أولاد، وجاء الأقطع ملك الكفار إلى القرية فعبر الوادي عند جموده إلينا في زهاء ثلاثة ءالف فارس وأهل خوارزم يدعونه كسرى. قال أبو العباس: والأقطع هذا كان كافرا غاشما شديد العداوة للمسلمين قد أثر على أهل الثغور وألح على أهل خوارزم بالسبي والقتل والغارات وكان ولاة خراسان يتألفونه وأشباهه من عظماء الأعاجم ليكفوا غاراتهم عن الرعية ويحقنوا دماء المسلمين فيبعثون إلى كل واحد منهم بأموال وألطاف كثيرة وأنواع من فاخر الثياب وإن هذا الكافر استاء في بعض السنين على السلطان، ولا أدري لم ذاك، هل استبطأ المبار عن وقتها أم استقل ما بعث إليه في جنب ما بعث إلى نظرائه من الملوك فأقبل في جنوده واستعرض الطرق فعاث وأفسد وقتل ومثل فعجز عن خيول خوارزم وبلغ خبره أبا العباس عبد الله بن طاهر رحمه الله، فأنهض إليه أربعة من القواد: طاهر بن إبراهيم بن مالك، ويعقوب بن منصور بن طلحة، وميكال مولى طاهر، وهارون العارض وشحن البلد بالعساكر والأسلحة ورتبهم في أرباع البلد كل في ربع ؛ فحموا الحريم بإذن الله تعالى، ثم إن وادي جيحون وهو الذي في أعلى نهر بلخ جمد لما اشتد البرد، وهو واد عظيم شديد الطغيان كثير الآفاق وإذا امتد كان عرضه نحوا من فرسخ وإذا جمد انطبق فلم يوصل منه إلى شيء حتى يحفر فيه كما تحفر الآبار في الصخور وقد رأيت كثف الجمد عشرة أشبار، وأخبرت أنه كان فيما مضى يزيد على عشرين شبرا وإذا هو انطبق صار الجمد جسرا لأهل البلد تسير عليه العساكر والعجل والقوافل فينتظم ما بين الشاطئين، وربما دام الجمد مائة وعشرين يوما، وإذا قل البرد في عام بقي سبعين يوما إلى نحو ثلاثة أشهر.
قالت المرأة: فعبر الكافر في خيلة إلى باب الحصن وقد تحصن الناس وضموا أمتعتهم وصحبوا المسلمين وأضروا بهم فحصر من ذلك أهل الناحية وأرادوا الخروج فمنعهم العامل دون أن تتوافى عساكر السلطان وتتلاحق المتطوعة، فشد طائفة من شبان الناس وأحداثهم فتقاربوا من السور بما أطاقوا حمله من السلاح فلما أصحروا كر الكفار عليهم وصار المسلمون في مثل الحرجة فتحصنوا واتخذوا دارة يحاربون من ورائها وانقطع ما بينهم وبين الحصن وبعدت المعونة عنهم فحاربوا كأشد حرب وثبتوا حتى تقطعت الأوتار والقسي وأدركهم التعب ومسهم الجوع والعطش وقتل معظمهم وأثخن الباقون بالجراحات .
ولما جن عليهم الليل تحاجز الفريقان قالت المرأة: ورفعت النار على المناظر ساعة عبور الكافر، فاتصل الخبر بالجرجانية وهي مدينة عظيمة في قاصية خوارزم ، وكان ميكال مولى طاهر بها في عسكر فخف في الطلب هيبة للأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر رحمه الله، وركض إلى هزاراسب في يوم وليلة أربعين فرسخا بفراسخ خورازم وفيها فضل كثير على فراسخ خراسان .
وغدا الكافر للفراغ من أمر أولئك النفر فبينما هم كذلك إذ ارتفعت لهم الأعلام السود وسمعوا أصوات الطبول فأفرجوا عن القوم ، ووافى ميكال موضع المعركة فوارى القتلى وحمل الجرحى .
قالت المرأة: وأدخل الحصن علينا عشية ذلك زهاء أربعمائة جنازة، فلم تبق دار إلا حمل إليها قتيل وعمت المصيبة وارتجت الناحية البكاء.
قالت: ووضع زوجي بين يدي قتيلا فأدركني من الجزع والهلع عليه ما يدرك المرأة الشابة على زوجها أبي الأولاد؛ وكانت لنا عيال.
قالت: فاجتمع النساء من قراباتي والجيران يسعدنني على البكاء ، وجاء الصبيان وهم أطفال لا يعقلون من الأمر شيئا يطلبون الخبز وليس عندي فضقت صدرا بأمري ثم إني سمع
ت أذان المغرب ففزعت إلى الصلاة (4) فصليت ما قضى لي ربي ثم سجدت أدعو وأتضرع إلى الله تعالى وأساله الصبر وأن يجبر يتم صبياني فذهب بي النوم في سجودي فرأيت في منامي كأني في أرض حسناء ذات حجارة وأنا أطلب زوجي، فناداني رجل: إلى أين أيتها الحرة؟ قلت: أطلب زوجي، فقال خذي ذات اليمين، فرفع لي أرض سهلة طيبة الري ظاهرة العشب وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها ولم أر مثلها وإذا أنهار تجري على وجه الأرض بغير أخاديد ليس لها حافات، فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا عليهم ثياب خضر قد علاهم النور، فإذا هم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم لألقى زوجي لكنه هو ينظرني، فناداني: يا رحمة!فيممت الصوت فإذا به في مثل حال من رأيت من الشهداء، وجهه مثل القمر ليلة البدر وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه، فقال لأصحابه: إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم أفتأذنون لي أن أناولها شيئا تأكله؟ فأذنوا له، فناولني كسرة خبز (2) قالت: وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ولكن لا أدري كيف يخبز، هو أشد بياضا من الثالج واللبن وأحلى من العسل والسكر وألين من الزبد والسمن فأكلته فلما استقر في جوفي قال: اذهبي كفاك الله مؤونة الطعام والشراب ما حييت في الدنيا، فانتبهت من نومي شبعى ريا لا أحتاج إلى طعام ولا شراب وما ذقتها منذ ذلك إلى يومي هذا ولا شيئا يأكله الناس.
قالت: أما تستحي مني تسألني عن مثل هذا
قلت: إني لعلي أحدث الناس عنك ولا بد أن أستقصي
قالت: لا أحتاج؛ قلت: فتنامين؟
قالت: نعم أطيب نوم،
قلت: فما ترين في منامك؟
قالت: مثلما ترون
قلت: فتجدين لفقد الطعام وهنا؟
قالت: ما أحسست بجوع منذ طعمت ذلك الطعام، وكانت تقبل الصدقة فقلت لها: ما تصنعين بها
قالت: أكتسي وأكسو ولدي
قلت: فهل تجدين البرد وتتأذين بالحر؟
قالت: نعم، قلت: يدركك اللغوب إذا مشيت؟
قالت: نعم ألست من البشر،
قلت: فتتوضئين للصلاة؟
قالت: نعم، قلت: لم؟
قالت: أمرني الفقهاء بذلك
قلت: إنهم أفتوها على حديث:
“لا وضوء إلا من حدث أو نوم”، ذكرت لي أن بطنها لاصق بظهرها، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت “أي إلى غير العورة” فإذا بطنها كما وصفت وإذا قد اتخذت كيسا فضمت القطن وشدته على بطنها كي لا ينقصف ظهرها إذا مشت، ثم لم أزل أختلف إلى هزاراسب بين السنتين والثلاث فتحضرني فأعيد مسألتها فلا تزيد ولا تنقص، وعرضت كلامها على عبد الله بن عبد الرحمن الفقيه، فقال: أنا أسمع هذا الكلام منذ نشأت فلا أجد من يدفعه أو يزعم أنه سمع انها تأكل او تشرب او تتغوط. انتهى.
فهذه القصة فيها أن لا تلازم عقلي بين فقدان الأكل وبين المرض وذهاب الصحة وانهدام البنية وكذلك سائر السباب العادية يصح عقلا أن تتحلف مفعولاتها وأن الأشياء بمشيئة الله تعالى، وأن الشهداء لهم حياة برزخية فسبحان القدير على كل شيء. كذلك أناس غيرها، منذ خمسة عشر عاما أحد مشايخ حلب قال رجل من أهل الجزيرة وهو شيخ من أهل العلم منذ أربع عشرة عاما لم يأكل ولم يشرب وهو يتجول يسافر من بلد إلى بلد، قال نزل عندي ضيفا فلم يأكل ولم يشرب، كل هذا دليل لنا على أن نعتبر لنزداد يقينا بأن الله تعالى هو خالق كل شئيء هو خالق الجوع والعطش هو خالق الخبز وهو خالق الشبع عند تناول الخبز وهو خالق الري عند شرب الماء ليس الماء يخلق الري وليس الخبز يخلق الشبع وليس الطعام يحفظ الصحة بطبعه إنما الله تعالى جعله سببا.