اللهُ فَعّالٌ لما يُريد، الله تَعالى ركَّب فيهم عَقلا فأَضَاعُوا هذَا العَقلَ، لم يَجعَلْهُم كالجَماد الذي لا عَقلَ له، هذَا العقلُ آلةٌ لإدراكِ الصّحِيح مِنَ الفَاسد، لكن مِنَ النَّاس مَن يَستَعمِلُونَه لإدراكِ ما يَنفَعُهم للنّجاةِ الحقِيقيّة الأبديّة،
ومِن النَّاس مَن يَستَعمِلُونَه لأمورٍ هيَ نَيلُ مَلذّات ثم تَنتَهِي، ويَنتَهُون منها فهم مَهما كانوا متَوسّعِينَ في مَلَذّاتِ الدُّنيا لَيسُوا سُعَداءَ
إنما السّعيدُ مَن فَهِمَ المعَاني الإيمانيّةَ فأطَاعَ خَالقَه أدّى ما أمرَهُ به واجتَنبَ ما نَهاه عنه، هذَا السّعيدُ الحقيقيُّ الذي سعَادتُه أبديّةٌ دائمةٌ لا انقِطاعَ لها في الحياةِ الثانيةِ التي هيَ دائمةٌ لا انقِطاعَ لها،
لذلكَ أنبياءُ الله وأولياؤه لا يَهتَمُّونَ للتّنعّم وذلكَ لأنّ تعَلّقَ قلُوبهم بالأمر المهمّ وهو السّعادة الأبدية وهيَ السّعادَةُ الأُخرَويّة شغَلهُم مِن أن يتَنعَّموا،
هؤلاء الأنبياءُ عليهم السلام مَهما أوتي أحدُهم منَ الْمُلْكِ كسُلَيمانَ لم يكُونُوا مُتنَعّمِينَ، كانوا يتَجنَّبُونَ التّنعّمَ ،أمّا بعضُ المظَاهِر التي هُم كانوا يَفعَلُونها مِن تَكثِيرِ الزّواج كسُليمانَ عليهِ السَّلام رُويَ عنهُ أنّهُ كانَ عندَه ثَلاثُمائةِ مَهريّة وتِسعُمائةِ سُرِّيّة أي مِلْكُ اليَمِين، هذَا ليسَ معناهُ أنّه كانَ مُتَعَلّقَ القَلب مَشغُولَ البالِ بهؤلاء مُنصَرفَ الهِمَّة إلَيهِنَّ، لا، بل كانَ لهُ مَقصِدٌ حسَنٌ كأن تَخرُج منهُ ذُرّيّةٌ مؤمنَةٌ باللهِ تَبارك وتَعالى تَعمَلُ بطَاعَتِه وتَنشُر دينَهُ وتُجاهِد في سبيلِ الله أي تُقاتلُ أعداءَ الله،
هذَا سليمانُ عليه السَّلام كانَ مع الْمُلك الذي أعطاهُ اللهُ يتَقوَّتُ بالشّعِير مَا كانَ يتَقَوَّتُ بخُبز القُمح، كانَ يتَقوَّتُ بالشّعِير والشّعِير الذي هو غيرُ مَنخُول، رَدِيء، النّفسُ يَصعُب علَيها أن تتَقَوَّتَهُ، تتّخِذَه قُوتًا إلا لضَرُورة، فهو مع ما أعطاهُ اللهُ مِن المُلك كانَ قوتُه الشّعِير لأنّ أهلَ اللهِ لا يُعوّدون أنفسهم على التّنعّم مع أنّ التّنعُّمَ حَلال، لكنّ نفُوسَهُم كانت تَترفَّع عن ذلك، قلُوبُهم كانت تَترفّع عن ذلك لما هو الأَسْمَى، للعَمل الذي هو أسمَى وأرَقى،
وكذلك سيّدُنا محمَّد كانَ أغلَبُ قُوتِه التّمر والماء، مَن اليومَ مِنّا نفسُه تَطمئنُّ للاكتفاء والاقتصار على التّمر والماء مِن دونِ أن يكونَ هناكَ شَىءٌ ساخِنٌ مَسَّتْهُ النّارُ مِن طَبِيخ ونحوِ ذلك، أغلَبُ أيّامِه كانَ يتَقوّتُ مِنَ التّمر والماء، وتَكثيرُ الزّواج الذي أحَلَّ اللهُ لهُ ففَعَلَهُ لم يكن عن تَعلُّقِ قَلبٍ بالتّلَذُّذِ بالنّساء، لا ،بل هو أسمَى مِن ذلكَ مَقامُه، أرقَى مِن ذلكَ مَقامُه.
كذلكَ في أُمَم الأنبياءِ الماضِينَ كانَ أُناسٌ صَالحونَ أولياء للهِ يَلتَزمُونَ التَّقشُّفَ مَع أنّ التَّنعُّم ليسَ حَرامًا في الأمور الْمُحَلَّلَة غيرِ المحَرَّمة، فلو أكَلَ الواحِدُ كُلَّ يَوم عشَرةَ ألوانٍ مِنَ الطّعام ليسَ حَرامًا مَا لم تَكُن نِيَّتُه الفَخرُ والتّعَاظُمُ على النّاس،
وكذلكَ التّنَعُّمُ بالملابِس الفاخِرَة ليسَ حَرامًا، لكنّ أهلَ اللهِ أولياءَ اللهِ يُعَوّدُونَ أَنفُسَهُم خُشُونَة العَيشِ بدَلَ أن يُعَوّدُوا أنفُسَهُم التّنعّم، كانَ في أمّة موسى أناسٌ مُتَقَشّفُونَ عُبّاد أولياء الله كذلكَ في أُمّةِ المسيح عيسَى كانَ هناك أناسٌ انقَطَعُوا عن التّنعُّم وصاروا يبنُونَ أكواخًا على أماكنَ مُرتَفِعَة ثم يتَقوَّتُونَ مِن نَباتِ الأرض، يَتركُون المباني العَاليَة الفاخِرَة ويَلجؤون إلى هذه الأكواخ كذا الذي كانَ يُقَال له جُرَيْج هوَ مِن أُمّةِ عيسَى عليهِ السَّلام كانَ مؤمنًا وليًّا عابِدًا أرادَ أن يتَجَرّدَ للعبادة، أرادَ أن يبتَعِدَ مِنَ التَّنعُّم فبَنى خَارج المدينةِ كُوْخًا على مَكانٍ، صَومَعَةً على مَكانٍ عالي مُرتَفع، فعُرِف بأنّه تَجرَّد للعبادَة وأنّه زاهِدٌ، عُرف بأنّهُ متَعبّدٌ متَجَرِّدٌ للتّعَبُّد، ثم في بعضِ المجَالِس التي فيها أُناسٌ أَخْلاَطٌ جَرى ذِكْرُه فمَدَحَهُ بعضُ النَّاس مُعجَبِينَ به، قالوا هذَا جُرَيجٌ تَركَ التّنعُّم وانْزَوى إلى هذه الصَّومَعة ليتَعبَّد اللهَ، وكانَت هناكَ امرأةٌ بَغِيٌّ قالت أنَا أَفتِنُه لكم، فذهَبَت إلى صَومَعتِه فتَعرّضَت لهُ، فلم يَلتَفِت إليها فأَعرَضَت عنه لمّا لم تَجِدْ مِنهُ إقْبالا نَحوَها، ثم صَادَفَت راعِيًا فجَمَعَ الشّيطَانُ بَينَهُما فحَصَلَ ما حَصَلَ، زَنى بها فحَمَلَت مِنهُ ثم لما وضَعَت قالت هذَا مِن جُرَيج فصَدَّقُوها فجَاؤوا فهَدَمُوا لهُ صَومَعَتَهُ وصَارُوا يَجرُّونَه ويَسُبُّونَه ويَضربُونَه، فقال لهم دَعُوني أُصَلّي فتَوضّأ وصلَّى، ثم جاءَ إلى هذَا المولود فوضَع إصبَعَهُ في بَطْنِه وقالَ لهُ مَن أبُوكَ يا غُلام، فقال الـرّاعِـي، فهُنا أَقبَلُوا إليهِ يتَمسَّحُونَ بهِ ويُقَبّلُونَهُ فقالوا لهُ نَبني لكَ صَومعَتَك مِن ذهَب، يَعنونَ الصّومَعةَ التي هَدمُوها، نَبنِيْها لكَ مِن ذهَب، قالَ لا أعِيدُوها كما كانَت، هنا مَحَلُّ الشّاهِد، ما رضِيَ أن تكونَ عِيشَتُه عِيشَة متَنعِّم، ما رضِيَ أن يُبنى لهُ بِناءٌ فاخِر، بَل ءاثَر خُشُونَةَ العَيشِ، هذه حَالَةُ الأولياءِ كُلّهم لا يُحبُّونَ التّنَعُّم مع أنّه حَلال.