حدث في شهر ربيع الأول
ولادةُ النبيّ المصطفى عليه صلوات اللهِ وسلامُه في مكةَ المكرمةِ في محلةٍ تُدعى سوقَ الليل.
ولد رسول الله عليه الصلاة والسلام يتيمَ الأبِ فكفلَه جدُّه عبدُ المطلب الذي كان قد بُشّرَ من أهلِ العلم بالكتب القديمةِ بأنّ حفيدَه محمدًا سيكونُ نبيَّ ءاخرِ الزمان، ثم بعدَ موتِ عبدِ المطلبِ كفِله عمُّه أبو طالب الذي كان له سندًا بعدما بُعثَ بالنبوة.
أُوحي إلى النبيّ صلى اللهُ عليه وسلمَ وهوَ في الأربعينَ من عمره، وهاجر بعدَ ثلاثةَ عشرةَ سنة إلى المدينةِ المنورة ليؤسسَ دولةَ الإسلامِ عاد بعدها ليدخل مكة فاتحًا مكسرًا لأصنامها، رافعًا لرايةِ التوحيد فيها، فصار الناسُ يدخلونَ في دين اللهِ أفواجًا.
توفّي النبيُّ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في سنّ الثالثة والستين وله العديدُ من الزوجاتِ من أمهاتِ المؤمنينَ، وتوفي أبناؤُه الذكور والإناثُ في حياته إلا السيدةَ فاطمةَ الزهراء توفيت بعدَه بستة أشهر.
* وفي شهر ربيع الأول من عام تسعةٍ وأربعين للهجرةِ توفي أميرُ المؤمنينَ ريحانةُ رسولِ الله عليه الصلاةُ والسلام سيدُنا الحسنُ بنُ عليّ رضي اللهُ عنهما، وهو ابنُ فاطمةَ بنتِ النبيّ الأعظم صلى اللهُ عليه وسلم، بُويع له يومَ مات أبوه، وكان من أشبهِ الناس بجدّه المصطفى عليهِ السلام. ثم تنازل عن الخلافة حقنًا لدماءِ المسلمين. مات رضي الله عنه ودُفن إلى جنب أمّه الزهراء رضي الله عنها في البقيع.
* في شهر ربيعٍ الأولِ من عامِ مائةٍ وسبعة عشرَ للهجرةِ المشرفةِ توفيت السيدةُ سُكينة بنتُ الحسين بن عليّ رضي الله عنهما عن عمر يقارب السبعين عامًا، وقد وُلدت بعد سنوات من مقتلِ جدّها الخليفةِ الراشد سيدنا عليّ رضي اللهُ عنه.
هي أختُ زين العابدين عليِ بنِ الحسين رضي الله عنهم، كانتْ نبيلةً كريمةً شاعرةً وقد تفوّقتْ على نساء عصرها بالتُّقى والصلاح والعفة، وصحبتْ والدَها الحسين رضي الله عنهُ إلى كربلاء برفقةِ أمّها الرباب وعمتِها السيدة زينب بنت عليّ رضي الله عنهما.
وقد شهدت تلك المأساة وسيقتْ إلى الشامِ حيث عادت إلى المدينةِ المنورة، وتقول بعض الأخبار إنها صحبتْ عمتَها زينب إلى مصر وإنها عادت إلى الحجاز بعد وفاة عمتِها في رجب عام اثنين وستين للهجرة.
تزوجها مصعبُ بن الزبير وقتل، فتزوجها عبدُ الله بن عثمان بن عبد الله، فمات عنها، أخبارُها كثيرة، وكانت إقامتها ووفاتها بالمدينة المنورة رضي الله عنها.
* وفي شهر ربيعٍ الأول من عامِ مائةٍ وثمانيةٍ وأربعينَ توفي أبو محمد سليمانُ بن مِهران المعروف بالأعمش الكوفيّ الإمامُ المشهور، كان ثقةً عالمًا فاضلاً، رأى سيدَنا أنسَ بن مالك رضي الله عنه، ولم يتسنّ له الأخذُ منه بل أخذَ من تلامذتِه، لقيَ كبارَ التابعين وروى عنه سفيانُ الثوريُّ وشُعبةُ بنُ الحجاجِ وخلقٌ كثيرٌ من أجلاّء العلماء.
وكان يواظب على صلاة الجماعةِ في المسجد فلم تفُتْه التكبيرةُ الأولى طيلة سبعين عامًا.
وكتب يومًا إلى أحدِ إخوانه يُعزّيه:
إنّا نعزّيكَ لا أنَّا على ثقةٍ * من البقاءِ ولكن سنّةُ الدينِ
فلا المعزَّى بباقٍ بعد ميّتِهِ * ولا المعزّي وإن عاشا إلى حينِ
قيل إنه وُلد يومَ مقتلِ سيدنا الحسين رضي الله عنه، وذلك يوم عاشوراء سنة إحدى وستينَ للهجرة.
* وفي شهرِ ربيع الأول من عام مائةٍ وسبعةٍ وخمسين للهجرة وقيل في صفر توفّي الإمامُ عبدُ الرحمنِ بنُ عمرٍو الأوزاعيّ إمامُ أهل الشامِ رضي الله عنه، لم يكن بالشامِ أعلمُ منه، قيل إنه أجاب عن سبعينَ ألفَ مسئلة، وكان يسكن بيروت، سمع من الزهريّ وعطاءٍ وروى عنه الثوريُّ وأخذ عنه عبدُ اللهِ بنُ المباركِ وجماعةٌ كبيرة.
كانت ولادتُه ببعلبكَ سنة ثمانٍ وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثلاثٍ وسبعين، ومنشؤه بالبقاع، ثم نقلته أمُّه إلى بيروت.
كان أمرُه في الشام أعزَّ من السلطان، وله كتاب السننِ في الفقه، وكانت الفتيا تدور بالأندلس على مذهبِه إلى زمن الحَكَم بنِ هشام، وقد عُمل به لمدة مائتي سنة.
ومن أقواله رضي الله عنه التي أوردها أبو نُعيم في الحلية: قفْ حيثُ وقف القومُ (أي الأكابر من الزُّهاد والأتقياء) وقُل بما قالوا، وكفَّ عما كفُّوا عنه، واسلُك سبيلَ سلفِكَ الصالح، فإنّه يسعُكَ ما وسِعَهُم، ولا يستقيمُ الإيمانُ إلا بالقول، ولا يستقيمُ القولُ إلاَّ بالعملِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقولُ والعملُ إلا بالنيّةِ الموافقةِ للشريعةِ.
توفي الإمامُ الأوزاعيُّ رضي الله عنهُ ودُفن في قريةٍ على باب بيروت الجنوبيّ كان يقال لها حَنْتوس، وفي الزمانِ القديمِ كان بعض الناس يجهلون من هو المدفونُ في ذاك القبر ولكنهم كانوا يقولون ها هنا رجل صالح ينـزلُ عليه النور، ولم يكن يعرفه إلا الخواصُّ من الناس رضي الله عنه ونفعنا به ءامين.
* في شهر ربيع الأول من عام مائةٍ واثنتينِ وثمانينَ للهجرة توفّي القاضي أبو يوسفَ يعقوبُ بنُ إبراهيم الأنصاري. كان القاضي أبو يوسف من أهل الكوفةِ، وهوَ صاحبُ أبي حنيفة رضي الله عنه وتلميذُه، كان فقيهًا علامةً حافظًا، وروى عنه أبو عبد اللهِ محمدُ بنُ الحسن الشيبانيّ الحنفيّ والإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ ويحيى بنُ مُعينٍ وءاخرون.
كان القاضي أبو يوسفَ أولَ من دُعي بقاضي القضاة، تولّى القضاء ببغدادَ لثلاثةٍ من الخلفاءِ وهم: المهديُّ وأبيه الهادي ثم هارونُ الرشيد، وكان الرشيدُ رحمه الله يكرمُه ويُجلّه ويقال إنّه أولُ من غيّر لباسَ العلماءِ إلى هذه الهيئة التي هُم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوسُ الناس قبل ذلك شيئًا واحدًا.
وكان القاضي أبو يوسفَ رحمهُ اللهُ أفقهَ أهلِ عصرِه ولم يتقدمْهُ أحدٌ في زمانهِ، وكان أولَ من وضعَ الكتبَ في أصولِ الفقهِ على مذهبِ أبي حنيفة، وبثّ علمَ أبي حنيفةَ في أقطارِ الأرضِ.
دُفنَ القاضي أبو يوسفَ ببغداد وماتَ وهو على القضاءِ في خلافة الرشيدِ رحمه الله، وتولّى ولدُه يوسف القضاءَ في حياته، وبعدَ وفاتِه أنشد أبو يعقوب الخزيميُّ وكان صديقًا لأبي يوسفَ ولابنه يوسف:
يا ناعيَ الفقهِ إلى أهلهِ * إن ماتَ يعقوبُ ولا أدري
لم يمتِ الفقهُ ولكنهُ * حُوّلَ من صدرٍ إلى صدرِ
ألقاهُ يعقوبُ إلى يوسفٍ * فزالَ من طيبٍ إلى طُهرِ
رحمهم اللهُ تعالى.
* وفي شهر ربيع الأول من عام مائتين وخمسة وثلاثين للهجرةِ توفّي مجدّدُ القرن الثالث الهجري أبو العباسِ أحمدُ بن عُمرَ بنِ سُريجٍ البغداديُّ الذي كان من عظماءِ الشافعيين وأئمةِ المسلمين، وكان يُقالُ لهُ الباز الأشهب، ووليَ القضاءَ بشيراز، له نحو أربعمائة مصنَّف، قام بنصرةِ المذهبِ الشافعيّ فنشرهُ في الآفاق.
وكان يقالُ في عصره: إن الله بعثَ عمرَ بن عبد العزيز على رأس المائةِ من الهجرةِ فأظهر كلّ سُنّة وأماتَ كلّ بدعةٍ، ومنَّ اللهُ تعالى على رأس المائتين بالإمام الشافعي حتى أظهر السنّة وأخفى البدعة، ومنَّ اللهُ على رأس الثلاثمائة بابن سُريج فنصر السننَ وخذل البِدع.
قال الإمامُ السبكيُّ في طبقات الشافعيةِ الكبرى: إن ابنَ سُريج رضي اللهُ عنه كان أبرعَ أصحابِ الشافعيّ في علم الكلامِ كما هو أبرعهُم في الفقه.
توفي الإمامُ ابنُ سُريج ودُفن ببغدادَ رحمه اللهُ تعالى وأمدّنا بأمداده. ءامين.
* في شهر ربيعٍ الأول من عام ثلاثمائةٍ وستةٍ وسبعين للهجرةِ وُلد الإمامُ أبو القاسم عبد الكريم بن هَوازنَ القشيري، صاحب الرسالة الصوفية التي سارت مغربًا ومشرقًا، والبسالةِ القوية التي أصبحَ بها نجمُ سعادتِه مشرقًا، أحدُ أئمة المسلمين عِلمًا وعمَلاً، وأركانِ الملةِ فعلاً وقولاً، شيخُ المشايخ ومقدَّمُ الجماعة، أخذ الفقهَ عن محمد ابنِ بكرٍ الطوسيّ، وعِلمَ الكلام عن الأستاذ أبي بكر بن فورك، وأخذ التصوفَ عن أستاذه أبي عليّ الدقاق، وكان فقيهًا أصوليًّا متكلمًا حافظًا مفسّرًا لغويًّا شاعرًا شجاعًا بطلاً، أجمعَ أهلُ عصرهِ على أنه قدوة وقتِه وبركةُ المسلمين في ذلك العصر، كان يعرفُ الأصولَ على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي، زوّجه الإمامُ أبو عليّ الدقاقُ ابنتَه، وبعد وفاة أبي عليّ سلك مسلكَ المجاهدةِ وأخذ في التصنيفِ فصنَّف التفسيرَ الكبيرَ وسماهُ التيسير في علم التفسير، وهو من أجودِ التفاسير، وصنَّف الرسالةَ في رجالِ الطريقة، وخرجَ إلى الحجّ في رفقةٍ منها الشيخُ أبو محمد الجوينيُّ والدُ إمام الحرمينِ وأحمدُ بن الحسين البيهقيّ وجماعةٌ من المشاهيرِ، فسمعَ معهم الحديث ببغدادَ والحجاز.
ومن أشعاره في التوحيد والتنـزيه قوله:
يا من تقاصرَ شُكري عن أياديهِ (أي نَعمائه) * وكَلَّ كلُّ لساني عن معاليهِ
وجودُه لم يزلْ فردًا بلا شبهٍ * علاَ عن الوقتِ ماضيهِ وءاتيهِ
لا عدَّ يجمعُه، لا ضِدّ يمنعُهُ * لا حدّ يقطعُه، لا قُطرَ يحويهِ
لا كونَ يحصرُه، لا عينَ تُبصرهُ * وليسَ في الوهمِ معلومٌ يضاهيهِ
جلالُه أزليٌّ لا زوالَ لهُ * وملكُه دائمٌ لا شىءَ يُفنيهِ
توفي رحمه الله سنة أربعمائة وخمسٍ وستين ودُفن إلى جانب أستاذِه أبي عليّ الدقاق رضي الله عنهُ وذلك يوم السادس عشرَ من شهر ربيع الآخر وكانت له فرسٌ يركبها فلما مات امتنعتْ عن العلفِ ولم تأكل شيئًا ولم تُمكّنْ راكبًا من ركوبها، ومكثت أيامًا قلائل على هذا بعده إلى أن ماتت.
نفعنا الله تعالى ببركات الإمام القشيري، ءامين.
* وفي شهر ربيع الأول من عام ثلاثمائةٍ وثمانيةٍ وثمانين توفّي الإمامُ أبو سليمان الخطابيّ البُستيُّ رحمه اللهُ تعالى واسمُه حمدُ بن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الخطاب، كان إمامًا في التوحيدِ والفقهِ والحديث واللغة. ومن أقواله في تنـزيهِ الله تعالى عن الشبيهِ والكيفيةِ ما رواهُ عنه البيهقيّ أن الإمامَ أبا سليمانَ الخطابيّ قال: إنَّ الذي علينا وعلى كلّ مسلمٍ أن يعلمَهُ أنَّ ربَّنا ليس بذي صورةٍ ولا هيئة فإنَّ الصورةَ تقتضي الكيفية، والكيفيةُ منفيةٌ عن اللهِ وعن صفاتهِ، وكذلك روى البيهقيّ عنه أنّه قال في تنـزيه اللهِ عزّ وجل: واللهُ تعالى لا يوصفُ بالحركةِ لأن الحركةَ والسكونَ يتعاقبانِ في محلٍ واحد، وإنما يوصفُ بالحركةِ من يجوزُ أن يوصفَ بالسكونِ، وكِلاهما من أعراضِ الأجسام وأوصافِ المخلوقين، واللهُ تبارك وتعالى متعالٍ عنهما {ليس كمثلِهِ شىء}.
وللإمامِ أبي سليمانَ الخطابي مصنفاتٌ عديدةٌ منها “معالمُ السنن في شرحِ سنن أبي داود” و “أعلام السُّنن في شرح البخاري” وغيرُهما.
روى عنه الحاكمُ النيسابوريّ وغيرُه. وتوفي ودفن بمدينتهِ “بُست” من مدنِ كابُل بين هَراةَ وغَزْنة.
* في شهر ربيعٍ الأول من عام أربعمائةٍ وخمسينَ للهجرةِ توفي الإمامُ أبو الحسنِ عليُّ بن محمدٍ المعروفُ بالماورديّ، كان من وُجهاءِ الفقهاءِ الشافعيةِ ومن كبارِهم، تلقّى العلمَ عن الشيخِ أبي حامد الأسفرايني، وكان حافظًا للمذهبِ وله فيه كتابُ “الحاوي” الذي لم يطالعهُ أحدٌ إلا وشهدَ له بالتبحُّر والمعرفةِ التامةِ بالمذهبِ، فُوض إليهِ القضاءُ ببلدانٍ كثيرة، وله من التصانيفِ غيرِ الحاوي تفسيرُ القرءانِ الكريمِ وأدبُ الدّينِ والدنيا.
* وفي شهرِ ربيع الأول كذلك من عامِ أربعمائةٍ وخمسةٍ وستين للهجرة توفي الملك عضدُ الدولةِ ألْب أرسلان، وهو ابن أخي السلطان طُغرلبَك الذي كان حليمًا كريمًا محافظًا على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، وكان يصومُ الاثنين والخميس ويُكثر الصدقات ويبني المساجدَ.
وكان الملكُ ألبَ أرسلان من التركِ وله جيشٌ قوامه أكثرُ من مائتي ألفِ فارس أو يزيدون، فتحَ الممالكَ به.
وهو الذي بنى مشهدًا فوق قبرِ الإمامِ أبي حنيفة النعمان رضي الله عنهُ، وبنى ببغدادَ مدرسةً أنفق عليها أموالاً طائلة.
مات على أثر جراحٍ أصيبَ بها أثناء إحدى معاركه، ونُقل إلى مرْوَ ودفن عند قبر أبيه داود وعمّه طُغْرُلبَك.
* وفي شهر ربيع الأول من عام خمسمائةٍ واثنينِ وستين للهجرة توفي تاجُ الإسلام أبو سعدٍ عبدُ الكريم بنُ أبي بكرٍ المعروف بابنِ السمعانيّ، ذكره علماءُ التاريخِ فقالوا :”كان أبو سعدٍ واسطةَ البيتِ السمعاني، وعينَهم الباصرة، ويدهم الناصرة، وإليه انتهت رياستُهم، وبه كمُلت سيادتهم، رحل في طلب العلم والحديث إلى شرقِ الأرضِ وغربها وشمالِها وجنوبهاِ، وسافر إلى ما وراءَ النهر وسائر بلادِ خُراسان عدة دفعات، وإلى العراق والحجاز والمُوصل والجزيرة والشام وغيرِها من البلاد التي يطول ذِكرها ويتعذّر حصرُها، ولقي العلماءَ وأخذ عنهم وجالسهم وروى عنهم واقتدى بأفعالهم الجميلة وءاثارهم الحميدة، وكانت عدةُ شيوخه تزيد على أربعةِ ءالاف شيخ. ومن تصانيفه “تذييل تاريخِ بغداد” الذي صنفه الحافظ أبو بكر الخطيب، وهو نحو خمسةَ عشرَ مجلدًا، وكذلك الأنساب وهو نحو ثماني مجلدات.
ولد بمرو في شعبانَ من عام خمسمائةٍ وستةٍ للهجرةِ وتوفي فيها في ليلة غرة شهر ربيع الأول رحمه الله تعالى وأسكنه فسيحَ جناته.
* وفي شهر ربيعٍ الأول من عامِ خمسمائةٍ وستةٍ وسبعين للهجرةِ ولدَ الملك الكامل الأيوبي وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ملَك القاهرة وشرع في عمارة البلادِ واستخراج الأموالِ من جهاتها، وكان سلطانًا عظيمَ القدْرِ جميلَ الذكرِ مُحبًّا للعلماءِ متمسكًا بالسنةِ النبوية، حسنَ الاعتقادٍ، معاشرًا لأهلِ الفضائل حازمًا في أمورهِ، لا يضعُ الشىءَ إلا في موضعه من غير إسرافٍ ولا إقتارٍ وكانت تبيتُ عنده كل ليلة جمعة جماعةٌ من الفضلاءِ، ويشاركُهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضعِ المُشكلة في كل فنٍ، وهو معهم كواحدٍ منهم، وبنى القاهرةَ دار حديثٍ ورتّبَ لها وقفًا جيدًا، وكان قد بنى على ضريح الإمامِ الشافعي رضي الله عنه قبةً عظيمةً ودفن أمَّه عنده، وأجرى إليها من ماء النيل، ومدَدُه بعيد.
توفي رحمه الله في رجب من عام ستمائة وخمسةٍ وثلاثين للهجرة، ودفن في دمشقَ قرب الجامع رحمهُ الله تعالى.
* في شهرِ ربيعٍ الأول وبالتحديد في ليلة التاسع والعشرينَ منه، من عام خمسمائةٍ وأربعةٍ وثمانينَ للهجرةِ توفي بدمشقَ أبو سعيد محمدُ بن أبي السعادات عبد الرحمن المسعوديّ الملقب بتاج الدين الفقيهُ الشافعي الصوفي، كان أديبًا فاضلاً، اعتنى بمقامات العلامة الحريريّ فشرحها وأطال وأسهبَ في شرحها، واستوعب فيه ما لم يستوعبْه غيرُه، وقد جمعه في خمسِ مجلداتٍ كبارٍ لم يبلغْ أحدٌ من شُرّاح هذا الكتاب إلى هذا القدْرِ ولا إلى نصفه، وكان معلّمًا للملِك الأفضلِ أبي الحسن عليِ ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
توفي المسعوديّ الأديب ودُفن بدمشق بسفح جبل قاسيون عليه رحمة الله تعالى.
وكما بدأنا موضوعنا “حدث في شهر ربيع الأول” بذكر مولد رسول الله عليه الصلاة والسلام فإننا نختمه بذكر أحدِ أعيانِ العلماءِ ومشاهيرِ الفضلاءِ ممن ألّف في مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو الخطابِ عمرُ بنُ الحسنِ الذي يُعرف بالحافظ ابن دِحية.
كانَ معروفًا بذي النسبينِ دحيةَ والحسين رضي الله عنهما، لأن أمّه يصل نسبها إلى سيدنا الحسين عليه رضوان الله، ووالده يُنسبُ إلى سيدنا دِحيةَ بنِ خليفة الكلبي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان متقنًا لعلم الحديثِ النبوي الشريف وما يتعلقُ بهِ، عارفًا بالنحوِ واللغةِ وأيام العرب وأشعارِها، واشتغل بطلبِ الحديثِ في أكثرِ بلادِ الأندلسِ الإسلاميةِ، ولقيَ بها علماءَها ومشايخَها ثم ارتحلَ إلى شمال إفريقيا ومنها إلى الديار المصرية ثم إلى الشامِ والشرقِ والعراق، ودخل بغدادَ وسمعَ منها، ودخل إلى خراسان وما والاها، كل ذلك في طلبِ الحديثِ والاجتماعِ بأئمتهِ والأخذِ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه، ويستفاد منه وقدِم مدينةَ إربل في سنةِ ستمائةٍ وأربعٍ للهجرةِ وهو متوجّه إلى خراسان، فرأى صاحبها الملكَ المعظّم مظفّرَ الدين كوكبري رحمه الله مولعًا بعمل مولد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فعمِل له كتابًا سماهُ “كتابَ التنوير في مولد السراج المنير” وقرأه عليه بنفسِه، وقد كان للملك كوكبري في فعل الخيراتِ غرائبُ لم يسمع أن أحدًا فعلَ في ذلك فعله، كان متعلقًا جدًّا بالصدقةِ، وفي كل يومٍ كان له قناطير مقنطرة من الخُبز يفرّقها على المحتاجينَ في عدةِِ مواضع من البلدِ يجتمع في كل موضعٍ خلقٌ كثير يفرّق عليهم في أولّ النهار، وكان إذا نزل من الرَّكوبِ يكونُ قد اجتمعَ عند الدار خلقٌ كثيرٌ فيدخِلهم إليهِ ويدفعُ لكل منهُم كسوةً على قدرِ الفصل من الشتاءِ والصيفِ أو غير ذلك، ومع الكسوةِ شىء من الذهبِ من الدينارِ والاثنين والثلاثةِ وأقلّ وأكثر، وأما احتفالُه بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوصفَ يقصرُ عن الإحاطةِ بهِ، ومنهُ أن أهل البلادِ كانوا قد سمعوا بحُسن اعتقادِه في عمل المولد وبإقرارِ علماءِ أهلِ الحقّ له على فعلِه وجوازِه، فكان في كلّ سنةٍ يصلُ إليه من البلادِ القريبةِ من إربل مثلَ بغداد والموصل والجزيرةِ وسِنجار ونصيبين وبلادِ العجمِ خلقٌ كثيرٌ من الفقهاء والصوفيةِ والوعاظِ والقراءِ والشعراءِ، ولا يزالونَ يتواصلون من المحرمِ إلى أوائل شهرِ ربيع الأول.
وقد قُرأ كتاب التنوير في مولد السراج المنير مراتٍ عديدةً لابنِ دحية وقد أكرمه الملكُ كوكبري فأعطاه ألفَ دينارٍ زيادةً على الضيافة والإكرامِ اللذين حظي بهما.
مات ابنُ دحيةَ رحمه الله يوم الثلاثاءِ الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ستمائة وثلاثٍ وثلاثينَ بالقاهرة ودُفن بسفح المقطّم رحمه الله.