القاعدة الخامسة: القيام بالنفس .
قيامه تعالى بنفسه ومعنى ذلك أنه تعالى غنيٌ عن موجِدٍ يوجدُه ويُخصّصُه، هو رب كل شيء وخالق كل شيء. فهو الغني بذاته عن كل شيء لأنه لو كان له موجِدٌ لاحتاج موجدُه لمن يوجده وهكذا حتى يدور الأمر ويتسلسل وكلاهما محال. قال تعالى: { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } الآية. فهو الغني عن كل
شيء وإليه يفتقر كل شيء. ومن جملة استغنائه أنه تعالى ليس صفة يقوم بغيره (27) كما أن البياض والحركة والسكون قائمات بالأجسام فليس هو بجسم يملأ الفراغ ولا عرَض يقوم بغيره كقيام الصفة بموصوفها، بل هو الغني عن كل شيء الذي لا يحتاج لشيء ولا يتكمل بشيء، فهو فاعل مختار لا يجب عليه لخلقه شيء، بل كل ما يفعله من أفعاله
بالعباد فهو بالاختيار. وما يلائم العبدَ فهو من فضله عليه وما لا يلائمه فهو من عدله به. لا يُسئَلُ عما يفعل وهم يُسئلون، لا معقبَ لحكمه ولا رادّ لما يقضيه في الخلق.
أحكامه في خلقه كلها مقرونة بالحكمة، منها ما يدركه الخلقُ أو بعضُهم ومنها ما لا يعلم سرَه إلا هو، فيكون أمراً تعبدياً كالطهارة بالماء دون غيره والوقوفِ بعرفة وأمثال ذلك.
وبالجملة فالعبد تحت قهره تعالى وهو القاهر فوق عباده. فصفة العبد العجزُ والجهلُ والفقر والضعف، وصفة الحق تضادُّ صفة العبد، فصفته تعالى الغنى والقدرة والعلم وغيرها من صفات الكمال. قال (28) أبو سعيد الخراز: “مَن عرف نفسه عرف ربَه” وليس هذا حديثا ومعناه أنك إذا عرفت نفسك بالجهل عرفت ربك بالعلم، وهكذا
بقية الصفات. وقول العارفين: “إذا أراد قُربَك منه سلبَ عنك وصفَك وكساك مِن وصفِهِ لتكون أهلاً لخطابه”.
ليس المراد منه أن صفة الحق تقوم بالعبد لأن هذا عين الحلول الذي نطق به النصارى، وقد حكم اللهُ بكفرهم، وإنما معناه أنه تعالى يطهّرُ العبدَ من الوصف الذميم كالغضب والبخل ويجمّلُهُ بآثار صفاته العلية كالحلم والعفو والكرم فافهم ذلك.
وقول السيدة عائشة في صفة خلقه: “كان خُلُقهُ صلى الله عليه وسلم القرءانَ يحلل حلالَه ويحرّم حرامه” (29) أي كان متخلقاً بأوامر القرءان ونواهيه. وقول بعض العارفين أنها تحاشت أن تقول كان متخلقاً بأخلاق الله تعالى فقالت ذلك، فهذا التعبير غير جميل وإن كان يؤول بما تقدم لكن فيه إيهام لفَهْمِ مَن لم يفهم.
القاعدة السادسة: الوحدانية .
وهي عبارة عن نفي التعدد في الذات والصفات والأفعال فتنفي هذه الصفة الكمَ المتصلَ في الذات والصفات والمنفصلَ فيهما وفي الأفعال، وهي غير صفة الأحدية (30) فإن الأحدية تدل على تفرد الذات فقط ولا ينظر معها إلى الصفات، وأما الوحدانية فتدل على تفرد الذات مع وصفها بما يليق. والكم عندهم هو التعدد والمقدار فينتفي بالوحدانية
التركيبُ والشريكُ وهما كمٌ متصل ومنفصل، وينتفي تعدد الصفة واتصافُ غيره بصفته وهما كم متصل ومنفصل. وينتفي فعلُ غيره بمعنى أنه لا تأثير لشيء في شيء من الأكوان. وفي هذه المسئلة قد اختلف الناس على مذاهب فمذهب الفلاسفة أن الأشياء تؤثر في بعضها بطبعها وقتها كالنار في الحطب والسكين في الحبل وهذا كفر صريح.
ومذهب المعتزلة أنها تؤثر بقدرة وقوة أوجدها الله فيها ولولا ذلك لم تؤثر وهو فاسد لأنه يلزم منه أن قدرة الله تعالى لا تنفذ في ايجاد شيء إلا بالسبب فيكون مقهوراً محصوراً وهو باطل، ويلزم منه تعدد المؤثر ولا يؤثر إلا الإله القادر – فتكون الآلهة متعددة، وعلى هذه العقيدة قالوا: العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية.
وذلك باطل (31) لقوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون } وقوله تعالى: { وخلق كل شيء فقدّره تقديرا } (32) .
ومذهب البعض أن الأسباب مخلوقة بخلق الله تعالى وهو المؤثر وحده، لكن الربط بينها وبين ما قارنها عقليٌ لازم لا ينفك أبداً بمعنى أنه متى وجِدَتِ النارُ مع حطب حصل الإحراق بقدَر الله تعالى، وهؤلاء ينكرون معجزاتِ الرسل بلازم مذهبهم وخرقَ العادات، وهو جهل بما ثبت بالنصوص القطعية كإخماد النار على إبراهيم وفلق البحر لموسى وإحياء الموتى
لعيسى. وإن أنكروا هذا كفروا لتكذيب كتاب الله تعالى.
ومذهب أهل السنة متوسط بين هذه المذاهب (33) وهو أن الحق تعالى هو المؤثر ولا يحتاج لسبب، وله خرق العادات فهو الفاعل المختار (34) ويوجِدُ المسبَبات عند وجود الأسباب. فهو المتصرف في السبب والمسَبَبِ، وما يقع على أيدي العباد من الأفعال فهي مخلوقة له تعالى وليس للعبد فيها إيجاد ولا تأثير إلا الكسب (35) وهو
المَيلُ الاختياري كما قال تعالى: { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } فأثبت للعبد كسباً لا خلقاً ورتب عليهم الحكم ثواباً وعقابا. وإدراك سر الكسب وحقيقته أمر غامض ولذا ضرب به المثل فقيل: “أخفى مِن كسب الأشعري” (36) .
والكسبُ وإن كان فهمُه خفيا إلا أنه تسمية ربانية فيجب الوقوف عندها وذلك من الأمور التعبدية التي لا تدرك. ولم يرد نص في تسميته فعل العباد خلقا، فقول المعتزلة مردود لأنهم قد سموه برأيهم فيُرَدُ عليهم بعد أن سماه الله تعالى كسباً. كما يُرَدُ قولُ الجبرية بأن العبد لا كسب له أصلاً ولا اختيار له في فعلٍ بل هو كريشة في الهواء تقلبها الرياح، وهو
باطل (37) بعد أن خاطب اللهُ الخلقَ بأفعالهم ومدح منها ما وافق حكمَه وذم منها ما خالفه، ورتب الثواب والعقاب على فعل العبد دون الأقدار.
فظهر توسط مذهب الأشعري وغيره من أهل السنة. وكتاب الله حجة لهم قال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .
وكذا يرد قول القائلين بتصرف بعض الناس بطريق الباطن بعد قوله تعالى لأكمل خلقه: { ليس لك من الأمر شيء } { إنك لا تهدي من أحببت } والعجب كل العجب كيف خصوا بالتصرف وقد نفى عن أكمل الرسل، وأعجب مِن هذا مَن نبذ كتابَ الله وراء ظهره وتمسك بأقوال هؤلاء وهو يسمع قوله تعالى: { كتاب الله عليكم } فإن
الميلَ عن كتاب الله تعالى قبيح، لكنه مِن أهل العلم أقبح إذ هم النور الذي يستضاء به فإذا دخلوا في الظلام أظلم بهم الكون. فعُلِمَ مما تقرر أن التصرف لله وحده وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً ولا من أمر غيره بالأولى وقد قال تعالى لنبيه ليخبر قومه (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مسني
السوء) الآية. فالتوحيد ردَّ كلَ الأمر لله تعالى لكن لا بد من النظر للأسباب التي نصبها فافهم. ولا يخفى عليك أن سيد الخلق أعرف بربه مِن كل أحد ومع ذلك حفر الخندق عام الأحزاب وظاهر بين درعين يوم أحد وكان يهيء الطعام لعياله ويتزود لأسفاره فافهم ذلك ولا تظن أن التوحيد الكامل في رفض الأسباب بل هو مع مباشرتها حسب إذن الشارع
مع العلم بأنه هو نصبها لنا وأنه المتصرف فينا وفيها، هذا أكمل وأتم لأنه مقام الرسل الكرام.
ولا نظر لقول المخالفين [ان كل فرقة ممن تقدم ذكره تقول نحن على السنة والجماعة ولا تعلم المحق من المبطل] لأنا نقول السنة والجماعة ليست مجرد اللفظ وإنما هي سلوك طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب والسنة يعلمهما أهلهما فمن أخذ بهما بدون تأويل فاسد يخرجهما عن قانون العربية فهو مِن أهل السنة، ومَن أوّلَ النصوصَ برأيه على
خلاف ما قاله المفسرون فقد أخطأ طريق الحق.
واعلم أن هذه الصفات الخمسة يسمونها صفات السلب لأن كل صفة منها تدل على نفي نقيضها، والسلبُ هو النفي.
القاعدة السابعة في صفات الذات.
وهي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام وهي سبعة وتسمى صفات المعاني لأنها تدل على أمور تدرَك في المخلوق. فقدرة زيد ظاهرة للناس وكذا علمه ومشيئته، ولما كانت ظاهرة في الحادث لا تنفك عنه سموها صفات الذات وصفات المعاني. وإضافتها بيانية أي صفاتٌ هي صفات المعاني. وهذه الصفات السبع نفاها المعتزلة
فراراً من تعداد القدماء وقالوا لو ثبتت لزم أن يكون الإله مركباً من ثمانية أشياء وقد كفر النصارى بالتثليث فكيف بثمانية. وقالوا هو قادر بذاته ومريد بذاته وعالم بذاته وحي بذاته وسميع بذاته وبصير بذاته ومتكلم بذاته وليس له هذه الصفات.
وجوابه أن المحال إنما هو تعداد الذات، لا ذات واحد اتصف بصفات. ومن المعلوم عند كل أحد أنه لا يقال لزيد عالم إلا إذا اتصف بصفة العلم وهكذا. وقد دلت النصوص على ثبوت قدرته وعلمه. وهذه الصفات الذاتية ليست عين الذات حتى يحصل تركيب، ولا غير الذات حتى يحصل تعدد القدماء. وذلك كالواحد من العشرة لا عينها والأحسن
في تمثيله أن علم زيد لا عينه ولا غيره وكذا الباقي فافهم لأن التمثيل بواحد من عشرة يوهم التركيب كما قال به النصارى أنه مركب من ثلاثة أقانيم -جمع أقنوم بمعنى الصفة- وهي العلم والحياة والكلمة، وجعلوا عيسى هو الكلمة. قال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي واحد منها وهذا هو قولهم بالتثليث لعنة الله عليهم.
وهؤلاء فرقة منهم.
واعلم أن الصفة الذاتية هي التي لا تقع خبراً عن الاسم فلا يقال زيد عِلمٌ ولا قدرة، والصفة المعبَر عنها بالحال من حيث اللفظ كالقادر والعالم فهي وصف للاسم، تقول: زيد عالم.
وأول صفات الذات في العدد:
القدرة وهي صفة وجودية قديمة أزلية يؤثر الله بها في الإيجاد والإعدام يُخرِجُ بها مِن العدم إلى الوجود ومن الوجود إلى العدم. ولا تتعلق إلا بالممكنات الجائزات وهي جميع الخلق (38) . فلا تتعلق بالواجب تعالى ولا بالمستحيل كالشريك لأنه يلزم على ذلك تحصيل الحاصل أو قلب الحقائق. فإيجاد واجب الوجود وإعدام واجب العدم تحصيل
حاصل، وإعدام الواجب وإيجاد المستحيل يوجب قلبَ حقيقتهما لصيرورتهما حينئذ من جملة الممكن، وكلُ ذلك مستحيل عقلاً. فبناءً على ما تقرر تعلم منعَ قولِ مَن لا يستحيي: [هل يقدر على خلق الولد] -بزعمهم هل يستطيع أن يجعل له ولدا- فمثل هذا لا يقال (39) فإن القدرة لا تتعلق بمستحيل ولا بواجب. وأما قوله تعالى:
{ لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا ان كنا فاعلين } فهي جملة شرطية ونتيجتها: لكنا لم نرِدْ فلا يقع ذلك لأنه محال.
وأما قوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } معناه كما قيل: لو فرض ذلك كنت أول مَن يؤمَر به أو أول عالم بذلك لأنه أول الأمة علماً وعملاً، لكن هذا العلم لم يكن فليس لله ولد سبحانه عما يقولون.
واعلم أن القدرة لها تعلق قديم بمعنى أنه في الأزل صالحة لكل ممكن أن تتعلق به، فكل ما أراد الله إيجاده أوجده وكل ما أراد الله إعدامه أعدمه، فلا يخرج عن قدرته ممكن ما، إذ لو خرج فرد من الممكنات لكان مستغنياً عن الواحد القهار وذلك محال. فالممكن يجوز عليه الوجود والعدم على حدٍ سواء فترجيحُ أحد الطرفين على الآخر لا بد له من فاعل
مختار: { والله خلقكم وما تعملون } .
واعلم أن حقيقة صفاته تعالى لا تدرك كما أن ذاته لا يُدرَك. وقول العامة: “أنظر لقدرة الله تعالى” فذلك إشارة لآثارها من الأكوان كالسماء وما فيها والأرض وما عليها وما بينهما، وليس المراد حقيقة القدرة فافهم ذلك. وكذا يقال في مثل قول الجزولي: “وبما حمل كرسيُك من قدرتك” أي من ءاثارها. وقد أرشدنا سبحانه وتعالى
إلى هذا بقوله تعالى: { فانظر إلى ءاثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها } الآية.
واعلم أنه وقع في عباراتهم في مسئلة الحساب أنه يحاسب الخلق محاسبة واحدة في وقت واحد وتتسع قدرته تعالى لحساب الخلق، وهذه العبارة غير جميلة لأن فيها إيهاماً أن قدرته تعالى زاد تأثيرها في وقت الحساب، والقصد بذلك أنه يُظهِر للخلق سعةَ قدرته تعالى ويكشف لهم الغطاء عن قلوبهم فإن تصرفه تعالى في الكون واحد في الدنيا والآخرة وحال حياتهم
وحال موتهم وقبل إيجادهم وبعده، إذ هو الحافظ لهم والممد لهم في كل حال والحافظُ للنُطَفِ في الأصلاب وللتراب في القبور وللرزق والنمو وجميع التصاريف. فالكون المقدَرُ على حاله يتقلب من قدر إلى قدر كما قال عمر رضي الله عنه عمّن له غنم وأمامه واديان: “إن هبط الخصب كان بقدر الله وإن هبط غيرَه كان بقدره” وقال: “نفرّ مِن
قدَرِ الله إلى قدرِ الله” فكيف ما تقلب العبدُ فهو في قدرٍ فالأمر منه تعالى ورجوعُه إليه.
الصفة الثانية من المعاني: الإرادة (40) وهي المشيئة (41) وهي صفة أزلية قديمة يخصص بها تعالى الممكنَ ببعض ما يجوز عليه. ويجوز على كل ممكن الوجودُ والعدمُ والمقادير والألوان والهيئات والجهات والأزمنة والأمكنة. فكَوْنُ الممكن مخصوصاً ببعض أفراد هذه الأشياء دون بعض من ءاثار مشيئته يعالى، لأنه فاعل
مختار. قال تعالى: { وربك يخلق ما يشاء ويختار } { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } { ولو شئنا لرفعناه بها } فكل شيء ينشأ عن إرادته من دون تغيير ولا تبديل، والإرادة مرتبَة عقلاً على العلم (42) .
واعلم أن الإرادة غير الأمر (43) وغير الرضى فليس بينهما تلازم لأنه يأمر ويريد كإيمان الرسل، ولا يريد ولا يأمر كالكفر منهم، ويريد ولا يأمر كالمعاصي، ويأمر ولا يريد كالكفر ممن حتم كفره: أمره بالإيمان ولم يرده منه فلم يقع. ولا يقال كيف طلب منه الإيمان ولم يُرِدْهُ وحتم عليه الكفر؟ (44) لأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون
وقد سبق وعدُه: { لأملأنّ جهنم من الجِنة والناس أجمعين } .
وقول المعتزلة بالتلازم بين الأمر والإرادة والرضى مستدلين بقوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر } وقوله تعالى: { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } فهو في غير محله لأنه لا يرضى لهم الكفر مذهباً وشرعاً ولولا أنه أراد لهم الكفر والمعاصي ما وقع ذلك منهم. والأمر يتعلق بفعل المكلف، والإرادةُ ترجع له تعالى لا دخل للمكلف في
إرادة الله تعالى.
واعلم أنه تعالى يفعل بالاختيار لا بإكراه ولا بالطبع