حديث ما الفقر أخشى عليكم ولكني أَخشى أَن تبسط الدنيا عليكم

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

يقول اللهِ تعالى في مُحكمِ كتابِهِ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ سورة ءال عمران / 14ـ15.

وصَدَقَ الحبِيبُ الْمَحْبوبُ في قولِهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: “نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ للرَّجُلِ الصَّالِحِ” أوْرَدَهُ الْهَيْتَمِيُّ في زوائِدِ ابنِ حِبّانَ.

أيْ أنَّ المَالَ الحَلالَ الذِي يَصْرِفُهُ الرَّجُلُ المسلمُ على الوجْهِ الذِي يَرْضَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعالَى وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ تعالَى هوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ على عبدِهِ المؤمنِ.

ما الفقر أخشى عليكم

فقَدْ وَرَدَ عنْ عَمْرٍو بْنِ عَوْفٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا مَعْنَاهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ بعَثَ أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجرَّاحِ رضيَ اللهُ عنهُ إلى بِلادٍ لِيَجْلِبَ منها المالَ فلمَّا قَدِمَ وسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بقُدومِهِ وافَوْا صلاةَ الفَجْرِ معَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، فَلمَّا صلّى رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ انصَرَفَ وَقَفُوا أَمَامَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ حينَ رءاهُمْ ثُمَّ قالَ: “أظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أنّ أبا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بشىءٍ مِنَ البحرينِ؟ فقالُوا: أَجَلْ يا رَسُولَ اللهِ، فقالَ: أَبْشِرُوا وَأَمِّلوا ما يَسُرُّكُمْ (أيْ لِيَكُنْ لكُمْ أملٌ في هذا أيْ رجاءٌ). قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: “فوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُمْ ولكنِّي أَخْشَى أن تُبْسَطَ الدُّنْيا عليكُمْ كما بُسِطَتْ على مَنْ كَانَ قبلَكُم فَتَنافَسُوها كَما تَنافَسُوها فتُهْلِكَكُمْ كما أهلَكَتْهُم” متّفَقُ عَليهِ.

أيُّ فَصاحَةٍ وَأَيُّ بَلاغةٍ وَأَيُّ حِكَمٍ هذهِ التِي نَطَقَ بِها مُحَمّدٌ، فَواللهِ قدْ صَدَقَ محمّدٌ، وَوَاللهِ قدْ صَدَقَ مَنْ قالَ عنْ محمّدٍ: “إنْ سَكَتَ عَلاهُ الوَقارُ وإنْ نَطَقَ أخَذَ بِالقُلُوبِ وَالبَصَائِرِ والأَبْصَارِ”.

قالَ: “فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُمْ ولكنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدّنْيا عليكُمْ كما بُسِطَتْ على مَنْ كانَ قبلَكُم فَتَنافَسُوها كَما تَنافَسُوها فتُهْلِكَكُمْ كما أهلَكَتْهُم”.

فرَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يَخَافُ على أُمَّتِهِ مِنْ حُصُولِ الفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ المالِ فَيَتَنَافَسُوا فِي هذهِ الدنيا، وما كانَ يخشَى على أمَّتِهِ أن يَجْتَاحَهُمُ الفَقْرُ في المستقبلِ.

فتنة الفقر وفتنة الغنى

وقد استَعَاذَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ مِنْ فتنةِ الفَقْرِ ومِنْ فِتْنَةِ الغِنَى، فَقَالَ صَلَواتُ رَبِّي وَسَلامُهُ عليهِ: “وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ ومنْ فتنَةِ الغِنى”.

فَالفَقْرُ منهُ ما هُوَ مُفْسِدٌ لِصَاحبِهِ، والغِنَى منهُ ما هوَ مُفسِدٌ لصاحبِهِ. وَمِنَ الغِنَى مَا هُوَ مُصْلِحٌ لِصَاحبِهِ لكنَّ أكثرَ الأغنياءِ تَسُوءُ حَالتُهُمْ وَبَعْضُهُمْ يتكبَّرُونَ على النّاسِ وينْطلِقُونَ في الحَرامِ ويَفسُدونَ، وبَعْضُهُمْ يعمَلُونَ الخيراتِ لأَهْلِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَبَعْضُ الناسِ إذا أصابَهُمُ الفَقْرُ قدْ يَسْرِقونَ والعياذُ باللهِ، وبَعْضُ الناسِ يَصْبِرونَ على الفَقْرِ ولا يَعصُونَ اللهَ، فهَؤُلاءِ فقرُهُمْ يُصلِحُهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الأنبياءَ والأولِيَاءَ أكثرُهُمْ فُقَراءُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلّمَ يقولُ: “يَدْخُلُ فُقَرَاءُ المُهَاجِرينَ الجنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمائةِ عامٍ”.

فيا أخِي المؤمنُ إنْ كُنْتَ مِنَ الفُقَـرَاءِ فَلا تَعْتَرِضْ علَى اللهِ ولا تلجَأْ إلى الحرامِ واقْتَدِ بالفقراءِ منَ الصحابَةِ الكرامِ وبالفقراءِ منَ التابعينَ الكرامِ، اقتدِ بأبِي هُريْرَةَ الذي كانَ يُغْمَى عليهِ منْ شِدَّةِ ألَمِ الجـوعِ ومَعَ ذلكَ لازَمَ مجلِسَ رسـولِ اللهِ، فكانَ أكثرَ الصحابةِ رِوَايةً عنْ رسولِ اللهِ، اقتَدِ بِخَيْرِ التابعينَ أُوَيْسِ بنِ عامرٍ القَرَنِيِّ الذي شهِدَ لهُ رسولُ اللهِ منْ طريقِ الوحيِ لأنّهُ مِنْ شدّةِ الفَقْرِ لَمْ يُسافِرْ ليلتَقي برسولِ اللهِ، كانَ في اليمَنِ ورسولُ اللهِ في المدينةِ، فمِنْ شِدَّةِ فَقْرِهِ لَمْ يُسَافِرْ إلى المدينةِ، فرسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ شهِدَ لهُ منْ طريقِ الوَحيِ فقال: “إنّ خيرَ التابعينَ رجلٌ يُقالُ لهُ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ مِنْ مُرادٍ ثُمّ منْ قَرَنٍ”.

من أعطي الدنيا ولم يعط الإيمان

ثُمّ تذكّرْ يا أخي المؤمنُ أنّ مَنْ أعطِيَ الدّنيا ولَمْ يُعطَ الإيمانَ فكأنّمـا ما أُعْطِيَ شيئًا، وَمَنْ أُعْطِيَ الإيمانَ ولَمْ يُعطَ الدّنيا فكأنّما ما مُنِعَ شيئًا، وإنْ كنتَ مِمّنْ أنعَمَ اللهُ عليهِ، إنْ كُنتَ مِنَ الأغنياءِ فليكُنْ قُدْوَتَكَ الأغنياءُ مِنَ الصحابةِ الكرامِ كأفضلِ الصحابةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضيَ اللهُ عنهُ الذي أنْفَقَ الكثيرَ الكثيرَ مِنْ أموالِهِ في مرضاةِ اللهِ حتّى إنّهُ أتى عليهِ يومٌ دعا فيهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ إلى بَذْلِ المالِ في مصالِحِ المسلمينَ فأنفَقَ سيِّدُنا أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ جميعَ ما عنْدِهِ.

أخي المسلمَ ، الدّنيا ساعةٌ فاجعلْها طاعةً وتذكّرْ أنّكَ كراكِبٍ استظلّ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَها وأنَّ المالَ الممْدوحَ مُبارَكٌ فيهِ وَلَنِعْمَ المالُ هوَ، وأنَّ المالَ المذْمُومَ غَيْرُ مُبارَكٍ فِيهِ ولَبِئْسَ المالُ هوَ، فَاحْرِصْ على جَمْعِ المالِ مِنْ طريقِ الحلالِ وَصَرْفِهِ في الحلالِ، وإِيَّاكَ ثُمّ إيّاكَ أنْ تَغُرُّكَ الدّنيا ويُوَسْوِسَ لكَ الشيطانُ ويُزيِّنَ لكَ الحرامَ.

اللهمّ ارزُقْنا مالاً حلالاً طيِّبًا مباركًا فيه وبارِكْ لنا في حَلالٍ وَلَوْ كانَ قَليلاً واصرِفْ عنّا الحرامَ الكثيرَ عنّا يا قادرُ يا كريمُ. هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم

أضف تعليق