يمكنك إما القراءة على الموقع أو تحميل الرسالة بصيغة PDF في أسفل المقالة
لفتةُ الكَبدِ إِلى نصيحةِ الولَد(1)
للحافظِ الفقيهِ المفسّرالإمامِ العالمِ جمالِ الدينِ أبي الفرَجِ ابنِ الجَوزي(2)
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
وَبهِ نستعينُ
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ الأبَ الأكبرَ(3) منْ ترابٍ، وأخرجَ ذريتَهُ مِنْ الترائبِ والأصلابِ، وعَضَدَ العشائرَ بالقرابةِ والأنسابِ، وأنعمَ عليَّ بالعلمِ وعِرْفانِ الصوابِ، وأحسنَ تربيتِي في الصِّبَى وحفظَني في الشبابِ ورزقَني ذريةً أرجُو بوجودِهِمْ وُفورَ الثوابِ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ}[سورة إبراهيم 40-41].
أمَّا بعدُ فإنِّي لمـَّا عرَفتُ شرفَ النكاحِ وطلبِ الأولادِ ختمْتُ ختمةً وسألْتُ اللـهَ تعالى أن يرزقَني عشرةَ أولادٍ فرزقنيهمْ فكانُوا خمسةَ ذكورٍ وخمسَ إناثٍ فماتَ من الإناثِ اثنتانِ ومِنَ الذكورِ أربعةٌ فلمْ يبقَ منَ الذكورِ سِوَى ولدِي أبي القاسِمِ فسألْتُ اللـهَ تعالى أنْ يجعلَ فيه الخلفَ الصالحَ وأن يُبَلِّغَ بهِ الـمُنَى والمناجحَ (4) ثمَّ رأيتُ منهُ نوعَ توانٍ (5) عنِ الجدِ في طلبِ العِلمِ فكتبْتُ لهُ هذهِ الرسالةَ أحثُّهُ بها وأُحركُهُ على سلوكِ طريقي في كسْبِ العِلمِ وأدلُّهُ على الالتجاءِ إلى الموفِّقِ سبحانَهُ وَتعالى معَ علمِي بأنَّهُ لا خاذِلَ لمنْ وَفّقَ (6) ولا مُرشدَ لمنْ أضلَّ (7) لكنْ قدْ قالَ تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[سورة العصر 3] وقالَ:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[سورة الأعلى] ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
فصل
اعلمْ يا بنيَّ وفَّقَكَ اللهُ للصوابِ أنّهُ لمْ يتميَّز الآدميُّ (8) بالعقلِ إلا ليعملَ بمقتضاهُ، فاستحضرْ عقلَكَ وأَعمِلْ فكرَكَ واخلُ بنفسِكَ تعلمْ بالدليلِ أنّكَ مخلوقٌ مُكلّفٌ (9) وأنَّ عليكَ فرائضَ أنتَ مطالَبٌ بها وأنَّ الملَكينِ يُحصيانِ ألفاظَكَ ونظراتِكَ (10) وأنَّ أنفاسَ الحيِّ خُطاهُ إلى أجلِهِ، ومقدارُ اللبثِ في الدنيا قليلٌ، والحبسُ في القبورِ طويلٌ والعذابُ على موافقةِ الهوَى وَبِيلٌ فأينَ لذةُ أمسِ(11)؟ رَحلَتْ (12) وأبقَتْ ندَمًا وأينَ شهْوةُ النفْسِ؟ كم نكَّسَتْ رأْسًا وأزلَّت قدَمًا وما سعِدَ منْ سعِدَ إلا بخلافِ (13) هواهُ فإن من تبع الهوى هوى، ولا شقِيَ منْ شقيَ إلا بإيثارِ دنياهُ، فاعتبرْ بمنْ مضى مِنَ الملوكِ والزهادِ، أينَ لذةُ هؤلاء؟ وأينَ تعبُ أولئك؟ بقيَ الثوابُ الجزيلُ والذكْرُ الجميلُ للصالحينَ، والقَالَةُ القبيحةُ والعقابُ الوبيلُ للعاصِينَ، وكأنهُ ما جاعَ منْ جاعَ ولا شبِعَ منْ شبِعَ. والكسلُ عنِ الفضائلِ بئسَ الرفيقُ وحبُّ الراحةِ يورِثُ مِنَ الندم ما يُرْبي على كلِ لذةٍ فانتبهْ واتعبْ لنفسِكَ. واعلمْ أنَّ أداءَ الفرائضِ واجتنابَ المحارمِ لازمٌ فمتى تعدَّى الإنسانُ فالنارَ النارَ. ثم اعلمْ أنَّ طلبَ الفضائلِ نهايةُ مرادِ المجتهدينَ، ثمَّ الفضائلُ تتفاوتُ فمِنَ الناسِ مَنْ يرى الفضائلَ الزهدَ في الدنيا ومنهُمْ مَنْ يراها التشاغلَ بالتعبُّدِ وعلى الحقيقةِ فليستِ الفضائلُ الكاملةُ إلا الجمعَ بينَ العلْمِ والعملِ (14) فإذا حصَلا رفعَا صاحبَهُمَا إلى تحقيقِ معرفةِ الخالقِ سبحانَهُ وتعالى وحرَّكاهُ إلى محبَّتهِ وخشيتِهِ قال تعالى:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }(15). والشوقِ إليهِ، فتلكَ الغايةُ المقصودةُ وعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتِي العزائمُ. وليسَ كلُّ مُريدٍ مُرادًا ولا كلُّ طالبٍ واجِدًا ولكنْ على العبدِ الاجتهادُ وكلٌّ ميسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لهُ واللـهُ المستعانُ.
(1) أي الالتفاتةُ والانتباهُ من قِبَلِ الوالدِ لأجلِ تنبيهِ الولدِ على سبيلِ الشفقةِ والمحبةِ وهي من الكَبِدِ والقلب لأنَّ الولدَ بِضعَةٌ من أبيهِ، يقالُ عن الولدِ: فِلْذَةُ الكَبِدِ أي القطعةُ من الكَبِدِ. أي نصيحةٌ من القلبِ إلى الوَلَدِ. والوصية للولد لأنه جوهر نفيس وهو كالإناء الفارغ يمتلأ بما وضع فيه فإن عُلّم الخير كان نبتة صالحة للمجتمع وإن عُوّد الشر كان شرا على المجتمع.
(2) هو حنبلي
(3) سيدنا ءادم
(4) لأن الثواب يجري بعد الموت بالولد الصالح كما جاء في الحديث.
(5) التواني التأخّر والتراجع
(6) أي إلى الطاعة والهدى
(7) أي لمن كتب له الضلالة والعمى
(8) أي عن البهائم
(9) أي أن لك خالقا لا يشبهك يجب عليك طاعته وامتثال أوامره والانتهاء عما نهى عنه.
(10) قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا
(11) تذكير بفناء لذات الدنيا الفانية. وذل المعصية وعز الطاعة وثوابها.
(12) في نسخة قد رحلت
(13) في نسخة بمخالفة
(14) قال السيد أحمد الرفاعي: طريقنا علم وعمل
(15) أي أشد الناس خشية لله هم العلماء
فصل
وأوَّلُ ما ينبغِي النظرُ فيهِ معرفةُ اللهِ تعالى بالدليلِ، ومعلومٌ أنَّ مَنْ رأى السماءَ مرفوعةً والأرضَ موضوعةً وشاهدَ الأبنيةَ المـُحكمَةَ خصوصًا في جَسَدِ نفسِهِ علِمَ أنهُ لا بدَّ للصنعةِ مِنْ صانعٍ وللمبْنَى مِنْ بانٍ قال تعالى “ قلِ اللهُ خالقُ كلِ شئ“.سورة الرعد/16
ثمَّ يتأملُ دليلَ صدقِ الرسولِ صلَّى اللـهُ عليهِ وسلمَ إليهِ وأكبرُ الدلائلِ القرءانُ الذي أعجزَ الخلْقَ أن يأتُوا بسورةٍ مِنْ مِثْلِهِ فإذا ثبَتَ عندَهُ وجودُ الخالقِ جلَّ وعلا وصدقُ الرسولِ صلى اللـهُ عليهِ وسلَّم وجَبَ تسليمُ عنانِهِ إلى الشرعِ.
ثمَّ يجبُ عليهِ أنْ يعرفَ ما يجبُ عليهِ مِنَ الوضوءِ والصلاةِ والزكاةِ إنْ كانَ لهُ مالٌ والحجِّ (أي إن كان مستطيعًا) وغيرِ ذلكَ مِنَ الواجباتِ. فإذا عرفَ قدْرَ الواجبِ قامَ بِهِ (وهذا يسمى الفرض العيني من علم الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم).
فينبغِي لِذِي الهمَّةِ أنْ يترقَّى إلى الفضائلِ فيتشاغلَ بحفظِ القرءانِ وتفسيرِهِ وبحديثِ الرسولِ صلَّى اللـهُ عليهِ وسلَّمَ وبمعرفةِ سِيَرِهِ وسِيَرِ أصحابِهِ والعلماءِ بعدَهُمْ ليتخيَّرَ مرتبةَ الأعْلى فالأعْلى ولا بُدَّ مِنْ معرفةِ ما يُقوِّمُ بهِ لسانَهُ مِنَ النحوِ ومعرفةِ طرفٍ مستعملٍ مِنَ اللغةِ .
والفقهُ أصلُ العلومِ والتذكيرُ حَلوَاؤُهَا وأعمُّها نفعًا وقد رتَّبْتُ في هذهِ المذكوراتِ مِنَ التصانيفِ ما يُغنِي عنْ كلِّ مَاسبقَ مِنْ تصانيفِ القُدَماءِ وغيرِهَا بحمدِ اللهِ ومنِّهِ فأغنيتُكَ عنْ تَطَلُّبِ الكتبِ وجمْعِ الهِمَمِ للتصنيفِ وما تَقِفُ هِمَّةٌ إلا لِخَساستِهَا وإلا فمتى علَتِ الهمَّةُ فلا تقنعْ بالدونِ .
وقدْ عرفْتُ بالدليلِ أنَّ الهمَّةَ مولودةٌ معَ الآدميِّ وإنَّمَا تقْصُرُ بعضُ الهِمَمِ في بعضِ الأوقات فإذا حُثَّتْ سارَتْ. ومتَى رأيتَ في نفسِكَ عجْزًا فسلِ المُنْعِمَ أوْ كسَلاً فالجأْ إلى الموفِّقِ فلنْ تنالَ خيرًا إلا بطاعتِهِ ولا يفوتُكَ خيرٌ إلا بمعصيتِهِ، فمَنِ الذي أقْبلَ عليهِ فلمْ يرَ كلَّ مرادٍ؟ ومَنِ الذي أعْرضَ عنهُ فمضى بفائدةٍ أو حظِيَ بغرَضٍ مِنْ أغراضِهِ أوَ مَا سمعْتَ قولَ الشاعر:
واللهِ ما جئْـتـُكُمْ زائرًا إلا وجدْتُ الأرضَ تُطوَى لِي
ولا ثَنَيْتُ العزْمَ عنْ بابِكُمْ إلا تَـعَـثَّرتُ بِأذْيَالِي
فصل
وانظرْ يا بُنيَّ إِلى نفسِكَ عندَ الحُدودِ(1) فَتَلَمَّحْ كيفَ حِفْظُكَ لَهَا فإنهُ مَنْ راعَى رُوعِيَ ومَنْ أَهملَ تُركَ وإنِّي لأَذكرُ لكَ بعضَ أحوالِي لعلَّكَ تنظرُ إلى اجتهادِي وتسألُ الموفِّقَ لي، فإنَّ أكثرَ الإِنعامِ عليَّ لمْ يكنْ بِكسِبي وإنَّما هوَ مِنْ تدبيرِ اللطيفِ بي، فإنِّي أذكرُ نفسِي وليَ همةٌ عاليةٌ وأنا في المكتبِ ابنُ ستِ سنينَ وأنا قرينُ الصبيانِ الكبارِ قد رُزقْتُ عقلاً وافرًا في الصغرِ يزيدُ على عقلِ الشيوخِ فما أذكرُ أنِّي لعبْتُ في طريقٍ معَ الصبيانِ قطُّ ولا ضحكْتُ ضَحِكًا خارِجًا حتَّى أنِّي كنتُ وَلي سبعُ سنينَ أوْ نحوُها أحضرُ رَحَبةَ(2) الجامعِ فلا أتخيَّرُ حلقةَ مُشَعْبِذٍ(3)بلْ أطلبُ المحدّثَ فيتحدثُ بالسِيَرِ فأحفظُ جميعَ ما أسمعُهُ وأذهبُ إلى البيتِ فأكتبُهُ ولقدْ وُفِّقَ لي شيخُنَا أبو الفضلِ ابنُ ناصرٍ رحمَهُ اللـهُ وكانَ يحملُنِي إلى الشيوخِ فأَسمعَنِي المُسندَ وغيرَهُ مِنَ الكتبِ الكبارِ وأنا لا أعلمُ ما يُرادُ مِنِّي وضَبَطَ لي مسموعاتِي إلى أنْ بلغْتُ فناولَنِي ثَبَتَهَا(4) ولازمْتُهُ إلى أنْ تُوفِّيَ رحمهُ اللـهُ فنِلت بهِ معرفةَ الحديثِ والنقلِ ولقدْ كانَ الصبيانُ يَنـزلونَ إلى دجلةَ(5) ويتفرَّجونَ على الجسرِ وأنا في زمنِ الصغرِ ءاخذُ جزءًا وأقعدُ حُجْزَةً(6) مِنَ الناسِ إلى جانبِ الرَّقةِ(7) فأتشاغلُ بالعلمِ.
ثمَّ أُلهمْتُ الزهدَ فسردتُ(8) الصومَ وتشاغلتُ بالتقللِ مِنَ الطعامِ وألزمْتُ نفسِي الصبرَ فاستمرتْ وشمَّرْتُ ولازمْتُ وعالجْتُ السهرَ ولمْ أقنعْ بفنٍّ منَ العلومِ بلْ كنتُ أسمعُ الفقهَ والوعْظَ والحديثَ وأتبعُ الزهادَ ثمَّ قرأتُ اللغةَ ولمْ أتركْ أحدًا مـمَّن يروِي ويعِظُ ولا غريبًا يقدَمُ(9) إلا وأحضرُهُ وأتخيَّرُ الفضائلَ وكنتُ إذا عُرِضَ لي أمرانِ أُقدِّمُ في أغلبِ الأحوالِ حقَّ الحقِّ فأحسنَ تدبيري وتربيتِي، وأجرانِي على ما هوَ الأصلحُ لي ودفَعَ عني الأعداءَ والحسادَ ومنْ يكيدُني وهيَّأَ لي أسبابَ العلمِ وبعثَ إليَّ الكتبَ مِنْ حيثُ لا أَحتسبُ. ورزقَني الفهمَ وسرعةَ الحفظِ والخطِّ وجودةَ التصنيفِ ولم يُعْوِزْنِي شيئًا مِنَ الدنيا بَلْ ساقَ إليَّ مِنَ الرِّزْقِ مقدارَ الكفايةِ وأَزْيدَ، ووضعَ لي مِنَ القبولِ في قلوبِ الخَلْقِ فوقَ الحدِّ وأوقعَ كلامِي في نفوسِهِمْ فلا يرتابونَ بصحتِهِ وقدْ أسلَمَ على يدَيَّ نحوٌ مِنْ مائتينِ مِنْ أهلِ الذمةِ ولقدْ تابَ في مجالسِي أكثرُ مِنْ مائةِ ألفٍ وقدْ قطعْتُ أكثرَ مِنْ عشرينَ ألفَ سالفٍ(10) مما يتعاناهُ(11) الجهالُ. ولقدْ كنتُ أدورُ على المشايخِ لِسماعِ الحديثِ فينقطعُ نفَسِي مِنَ العدْوِ لِئَلا أُسبقَ، وكنتُ أُصبحُ وليسَ لي مأكلٌ وأُمسي وليسَ لي مأكلٌ، ما أذلَّنِي الله لمخلوقٍ قطُّ ولكنَّه ساقَ رزْقِي لِصِيانةِ عِرْضي ولَو شرحْتُ أَحوالِي لَطالَ الشرحُ وها أنا قدْ ترَى ما ءالتْ حالي إليهِ وأنا أجمعُهُ لكَ في كلِمةٍ واحدةٍ وهيَ قولُهُ تعالَى:{وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}.
(1) أي حدود الشريعة.
(2) رحبة الجامع أي ساحة الجامع، وجمعها: رَحَبٌ، ورَحَبَاتٌ.
(3) مُشَعْبِذ: هو من اشتغل بالسحر والدجل والتنجيم ونحوها.
(4) أي أدلتها وبراهينها أو أسانيدها.
(5) نهر بغداد.
(6) مبتعدًا.
(7) رجل وَرّاق الذي يُوَرِّقُ ويكتب.
(8) تابعت.
(9) يأتي.
(10) أراض مستوية .
(11) قاساه.
فانتبهْ يا بنيَّ لِنفسِكَ واندَمْ علَى ما مضَى مِنْ تفريطِكَ واجتهِدْ في لِحاقِ الكاملينَ ما دامَ في الوقتِ سَعَةٌ، واستَقِ غُصنَكَ ما دامتْ فيهِ رطوبةٌ، واذكرْ ساعتَكَ التي ضاعَتْ فكفَى بها عِظةً، ذهبَتْ لذةُ الكسلِ فيها وفاتَتْ مراتبُ الفضائلِ، وقدْ كانَ السلفُ الصالحُ رحمَهُمُ اللـهُ يُحبونَ جمعَ كلِّ فضيلةٍ ويبكونَ على فواتِ واحدةٍ منهَا.
قالَ إبراهيمُ بنُ أدهمَ رحمهُ الله:”دخلْنَا على عابدٍ مريضٍ وهوَ ينظُرُ إلى رجلَيهِ ويَبكِي فقلنَا ما لكَ تبكِي؟ فقالَ: ما اغْبَرَّتَا في سبيلِ اللهِ.
وبكَى ءاخرُ فقالُوا: ما يُبكيكَ؟ فقالَ: على يومٍ مضَى ما صُمتُهُ وعلى ليلةٍ ذَهبتْ ما قمْتُهَا” .
واعلمْ يا بُنيَّ أنَّ الأيامَ تُبسطُ ساعاتٍ، والساعاتُ تُبسَطُ أنفاسًا، وكلُّ نفَسٍ خِزانةٌ فاحذرْ أنْ يذهبَ نفَسٌ بغيرِ شىءٍ فترَى في القيامةِ خِزانةً فارِغةً فتندمُ .
وقدْ قالَ رجلٌ لعامرِ بنِ عبدِ قيسٍ: قِفْ أُكلمْكَ فقالَ أمسِك الشمسَ. وقعدَ قومٌ عندَ معروفٍ(1) رحِمَهُ الله فقالَ:”أمَا تُريدونَ أنْ تقومُوا فإنَّ ملَكَ الشمسِ يجرُّهَا لا يَفتُر”. وفي الحديثِ:”من قالَ سبحانَ اللهِ العظيمِ وبحمدِهِ غُرِسَتْ لهُ بِهَا نخلةٌ في الجنَّةِ“ فانظرْ إلى مُضَيِّعِ الساعاتِ كمْ يفوتُهُ مِنَ النَّخيلِ وقدْ كانَ السلَفُ يغتنمونَ اللحَظاتِ فكانَ كَهْمَسُ رحمَهُ الله يختِمُ القرءانَ كلَّ يومٍ وليلةٍ ثلاثَ مراتٍ وكانَ أربعونَ رجُلاً مِنَ السلفِ يُصلَّونَ الصبحَ بوضوءِ العشاءِ، وكانتْ رابعةُ العدويةُ تُحْيِي الليلَ كلَّهُ فإذا طلَعَ الفجرُ هَجَعَت هَجْعَةً خفيفةً(2) ثمَّ قامَتْ فزِعةً وقالَتْ لِنفسِهَا: النومُ في القبرِ طويلٌ.
فصل
ومَنْ تفكَّرَ في الدنيا قبْلَ أنْ يوجَدَ رأى مدةً طويلةً، فإذا تفكَّرَ فيها بعدَ أنْ يخرُجَ منهَا رأى مُدّةً طويلةً وعَلِمَ أنَّ اللُبثَ في القبورِ طويلٌ فإذا تفكّرَ في يومِ القيامةِ عَلِمَ أنّهُ خمسونَ ألفَ سنةٍ، فإذا تفكّرَ في اللُبثِ في الجنّةِ أو النارِ علِمَ أنّهُ لا نِهايةَ لهُ فإِذا عادَ إلى النظرِ في مقدارِ بقائِهِ في الدنيا فرضْنَا ستينَ سنةً مثَلاً فإنّهُ يَمضِي منهَا ثلاثون سنةً في النومِ ونحوٌ مِنْ خمسَ عشرةَ في الصِبَى فإذا حسَب الباقيَ كانَ أكثرُهُ الشهواتِ والمطاعمَ والمكاسِبَ فإذا خلَصَ ما للآخرةِ وجَدَ فيه مِنَ الرياءِ والغفْلةِ كثيرًا، فبماذا تُشترى الحياةُ الأبديةُ وإنَّما الثمنُ هذهِ الساعاتُ؟
فصل
ولا يُؤيسْكَ يا بنيَّ مِنَ الخَيرِ ما مَضَى مِنَ التفريطِ فإنّهُ قدِ انتبهَ خلقٌ كثيرٌ بعدَ الرُقادِ الطويلِ.فقدْ حدّثنِي الشيخُ أبو حكيمٍ عنْ قاضِي القضاةِ الشيخِ أبي الحسَنِ الدامغاني رحمهُ الله قالَ: كنْتُ في صَبوتي مُتشاغلاً بالبطالةِ غيرَ مُلتفتٍ إلى العلمِ فأَحضرَني أبي أبو عبدِ اللهِ رحمهُ الله تعالى وقالَ لي: يا بُنيَّ لسْتُ أبْقى لكَ أبدًا فخُذْ عشرينَ دينارًا وافتحْ لكَ دُكّانَ خَبّازٍ وتكَسَّبْ، فقلتُ لهُ ما هَذا الكلامُ؟ قالَ: فافتحْ دُكّانَ بَزَّازٍ(3) فقلْتُ كيفَ تقولُ لي هذا وأنا ابنُ قاضِي القضاةِ عبدِ اللهِ الدامغاني؟ قالَ: فما أراكَ تطلبُ العلْمَ؟
فقلْتُ: اذكرْ ليَ الدرسَ الساعةَ فذكَرَ لي فأقبلْتُ على التشاغلِ بالعلْمِ فعنْدَ ذلكَ أقبلتُ على الاشتغالِ بالعلْمِ واجتهدْتُ ففَتَحَ اللـهُ تعالى(4).
وحَكَى لي بعضُ أصحابِ أبي محمدٍ الحَلواني رحمهُ اللـهُ قالَ: ماتَ أبي وأنا ابنُ إحدى وعشرين سنةً وكنتُ موصوفًا بالبطالةِ، فأَتيتُ أتقاضى بعضَ سكانِ دارٍ قدْ ورِثْتُهَا فسمعتُهُمْ يقولونَ جاءَ المُدْبِرُ أي الرَّبيط(5) فقلتُ لنفسِي: يقالُ عنِّي هذا؟
فجئْتُ إلى والدتِي فقلْتُ: إذا أردتِ طلبِي فاطلبينِي مِنْ مَسجدِ الشيخِ أبي الخطّابِ ولازمْتُهُ فما خرجْتُ إلا إلى القضاءِ فصرْت قاضِيًا مدةً. (قلتُ) ورأيتُهُ أنَا وهو يُفتِي ويُناظِر.
فألزِمْ نفسَكَ يا بُنيَّ الانتباهَ عندَ طُلوعِ الفَجْرِ ولا تتحدثْ بحديثِ الدنيا فقدْ كانَ السلفُ الصالحُ رحمَهُمُ الله لا يتكلمون في ذلكَ الوقتِ بشىءٍ مِنْ أمورِ الدنيا وقُلْ عندَ انتباهِكَ مِنَ النومِ: “الحمدُ للهِ الذي أحيانِي بعدَ ما أماتَنِي وإليهِ النشورُ، الحمدُ للهِ الذي يُمسكُ السماءَ أنْ تقعَ على الأرضِ إلا بإذنِهِ إنَّ اللهَ بالناسِ لَرؤوفٌ رحيمٌ“. ثمَّ قُمْ إلى الطهارةِ واركعْ سنَّةَ الفجرِ واخرجْ إلى المسجدِ خاشِعًا وقُلْ في طريقِكَ: “اللهمَّ إنِّي أسألُكَ بحقِ السائلينَ عليكَ وبحقِّ ممشايَ هَذا، أنِّي لمْ أخرجْ أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعةً خرجتُ اتقاءَ سخطِكَ وابتغاءَ مرضاتِكَ أسألُكَ أنْ تُجِيرَني مِنَ النارِ وأنْ تغفرَ لي ذُنوبي إنّهُ لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنْتَ“.
واقصِدِ الصلاةَ إلى يمينِ الإمامِ فإذا فرغْتَ مِنَ الصلاةِ فقلْ: “لا إلهَ إلا اللـهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ يُحيي ويُميتُ بيدِهِ الخيرُ وهُوَ عَلى كلِّ شىءٍ قديرٌ” عشرَ مراتٍ ثمَّ سبِّحْ عشرًا واحمَدْ عشرًا وكبِّر عشرًا واقرأْ ءايةَ الكرسيِّ واسألِ اللـهَ سبحانَهُ قبولَ الصلاةِ، فإنْ صحَّ لكَ فاجلِسْ ذاكِرًا اللـهَ تعالَى إلى أنْ تطلُعَ الشمسُ وترتفِعَ ثمَّ صلِّ وتَرَكّعْ ما كُتبَ لكَ وإنْ كانَ ثمانِ ركعاتٍ فهوَ حسنٌ.
(1) الكرخي
(2) نامت نومًا خفيفًا
(3) بائع البز أي بائع الثياب
(4) أي ففتح الله عليّ بالعلم
(5) أي عند عدم حاجة الناس إلى المال، لا يأتي ليتقاضى الأجرة وعندما يكونون بحاجة للمال يأتي إليهم ليطالبهم بالمال.
فصل
فإذا أعدتَ درسَكَ إلى وقتِ الضُّحى الأعْلى فصلِّ الضحى ثمانِ ركعاتٍ ثمَّ تشاغلْ بِمُطالعةٍ أوْ نسخٍ إلى وقتِ العصرِ ثمَّ عدْ إلى درسِكَ مِنْ بعدِ العصْرِ إلى وقْتِ المغرِبِ وصلِّ بعدَ المغربِ ركعتينِ بجزئينِ فإذا صليتَ العِشاءَ فعدْ إلى دروسِكَ ثم اضطَجِعْ علَى شقّكَ الأيمنِ فسبِّحْ ثلاثًا وثلاثينَ واحمَدْ ثلاثًا وثلاثينَ وكبِّرْ أربعًا وثلاثينَ وقلِ: “اللهمَّ قِنِي عذابَكَ يومَ تجمعُ عِبادَكَ”.
وإذا فتحْتَ عينيْكَ مِنَ النومِ فاعلمْ أنَّ النفسَ قدْ أخذَتْ حظَّهَا فقُمْ إلى الوضوءِ وصلِّ في ظلامِ الليلِ ما أمكنَ واستفتِحْ بركعتَينِ خفيفتَينِ ثمَّ بعدَهُمَا ركعتَينِ بجزئَينِ مِنَ القُرءانِ. ثمَّ تعودُ إلى درْسِ العلْمِ فإنَّ العلْمَ أفضلُ مِنْ كُلِّ نافلةٍ.
فصل
وعليكَ بالعُزلةِ فهِي أصلُ كُلِّ خيرٍ واحذرْ مِنْ جليسِ السُّوءِ وليكُنْ جُلساؤُكَ الكتبَ والنظرَ في سِيَرِ السلفِ، ولا تشتغِلْ بِعلمٍ حتَّى تُحكمَ ما قبلَهُ وتلمَّحْ (1)سِيَرَ الكاملينَ في العلْمِ والعملِ. ولا تقنعْ بالدونِ فقدْ قالَ الشاعرُ
ولمْ أرَ في عيوبِ الناسِ شيئًا كَنقصِ القادرينَ على التمامِ
واعلمْ أنَّ العلْمَ يَرفعُ الأراذلَ(2) فقدْ كانَ خلْقٌ كثيرٌ مِنَ العلماءِ لا نسبَ لهُمْ يُذكرُ ولا صورةَ تُستحسنُ وكانَ عطاءُ بنُ أبي رباحٍ أسودَ اللونِ مستوحشَ الخِلْقةِ وجاءَ إليهِ سليمانُ بنُ عبدِ الملِكِ وهوَ خليفةٌ ومعَهُ ولداهُ فجلسُوا يسألونَهُ عنِ المناسكِ فحدَّثَهُمْ وهوَ مُعرضٌ عنهمْ بوجهِهِ فقالَ الخليفةُ لولدَيْهِ قومَا ولا تَنِيا ولا تتكاسَلا في طلَبِ العلْمِ فما أنْسى ذُلَّنا بينَ يديْ هذا العبدِ الأسْودِ. وكانَ الحسنُ مَولى أي مملوكًا وابنُ سيرينَ ومكحولٌ وخلقٌ كثيرٌ وإنَّما شُرِّفوا بالعلمِ والتقوى.
فصل
واجتهدْ يا بـنيَّ في صيانةِ عِرْضِكَ مِنَ التعرُّضِ لطلَبِ الدنيا والذلِّ لأهلِهَا .
واقنعْ تعِزَّ فقدْ قيلَ منْ قنَعَ بالخُبزِ والبقْلِ(3) لم يستعبدْهُ أحدٌ.
ومرَّ أعرابيٌ على البصرةِ فقالَ: مَنْ سيِّدُ هذه البلدةِ قيلَ لهُ الحسنُ البصريُّ.
وقالَ: وبِم سادَهُمْ؟
قالُوا: لأنَّهُ استغْنَى عنْ دُنياهُمْ وافتقَرُوا إلى عِلْمِهِ .
واعلمْ يا بنيَّ أنَّ أبي كانَ موسِرًا وخلَّف ألوفًا مِنَ المالِ فلمَّا بلغْتُ دفعُوا لي عشرينَ دينارًا ودارَينِ، وقالُوا لي: هذهِ الترِكةُ كلُّهَا، فأخذتُ الدنانيرَ واشتريتُ بِهَا كُتبًا مِنْ كتبِ العلْمِ وبعْتُ الدارَينِ وأنفقْتُ ثمنَهُمَا في طلبِ العلْمِ ولمْ يبقَ لي شىءٌ مِنَ المالِ وما ذَلَّ أبوكَ في طلَبِ العلْمِ قطُّ ولا خرجَ يطوفُ في البلدانِ كغيرِهِ مِنَ الوُعَّاظِ (4) ولا بعَثَ رُقعةً إلى أحدٍ يطلبُ منهُ شيئًا قطُّ(5) وأمورُهُ تَجري على السدَاد:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
فصل
يا بنيَّ ومتى صحَّتِ التقوى رأيتَ كلَّ خيرٍ والمتَّقِي لا يُرائي الخلْقَ ولايتعرَّضُ لما يُؤذي دِينَهُ، ومَنْ حفِظَ حدودَ اللهِ حفظَهُ الله. قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلَّمَ لابنِ عباسٍ رضيَ اللـهُ عنهُمَا ” احفظِ الله يحفظْكَ احفظِ الله تجدْهُ أمامَكَ” واعلمْ يا بنيَّ أنَّ يونسَ عليهِ السلامُ لمـَّا كانتْ ذخيرتُهُ خيرًا نجَا بِهَا مِنَ الشدةِ قالَ الله عزَّ وجلَّ:{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وأمَّا فرعونُ فلمَّا لمْ تكُنْ لهُ ذخيرتُهُ خيرًا لمْ يجدْ في شدتِهِ مُخَلِّصًا فقيلَ له:{ءالآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} فاجعلْ لكَ ذخائرَ خيرٍ منْ تقوى تجدُ تأثيرَهَا .
وقدْ جاءَ في الحديثِ” ما منْ شابٍّ اتقى اللـهَ في شبابِهِ إلا رفعَهُ الله في كبرهِ“ وقالَ تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ} وقال:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ}.
واعلمْ أنَّ أَوفى الذخائرِ غضُّ الطرفِ عنْ مُحَرَّم وإمساكٌ للسانِ عن فُضولِ كلِمةٍ ومراعاةٌ لحدِّ (6) (7) وإيثارِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى على هَوى النفسِ.
وقد عرفتُ حديثَ الثلاثةِ الذين دخلُوا إلى غارٍ فانطبقتْ عليهم صخرةٌ فقالَ أحدُهُم: اللهمَّ إنَّهُ كانَ لي أبوانِ وأولادٌ فكنتُ أقفُ بالحليبِ على أبويَّ أسقيهِمَا قبلَ أولادي فإنْ كنتُ فعلُت ذلكَ لأجلِكَ فافرُجْ عنَّا فانفرَجَ ثلثَ الصخرةِ، وقالَ الآخرُ: اللهمَّ إني استأجرتُ أجيرًا فتسخَّط أجرَه فاتَّجرتُ بهِ، فجاءَ يومًا فقالَ: ألا تخافُ الله وتعطينِي أجرتِي فقلتُ انطلقْ إلى تلكَ البقرِ ورِعائِهَا فخذْهَا فإنْ كنتُ فعلتُ ذلكَ لأجلِكَ فافرُجْ عنَّا فانفرجَ ثلُثَا الصخرةِ فقالَ الآخرُ: اللهمَّ إنِّي علِقتُ بنتَ عمٍّ لي فلمَّا دنوْتُ منهَا قالتِ: اتقِ الله ولا تفضَّ الخاتمَ إلا بحقِّهِ فقمْتُ عنْهَا فإنْ كنتُ فعلْتُ ذلكَ لأجْلِكَ فافرُجْ عنَّا فرُفِعَتِ الصخرةُ وخرجُوا .
ورؤِيَ سفيانُ الثوريُّ رحمةُ اللهِ عليهِ في المنامِ فقيلَ لهُ: ما فعلَ الله بكَ؟ قالَ: ما كانَ إلا أنْ وُضعْتُ في اللحدِ فإذا أنا بينَ يديْ ربِّ العالمينَ فدخلْتُ فإذا أنا بقائلٍ يقولُ سفيانُ؟ قلتُ: سفيانُ، قالَ تذكُرُ يومًا ءاثرتَ اللـهَ على هواكَ قُلتُ: نعمْ، فأخذَتْنِي صَوانِي (8) النِثَارِ(9) مِنَ الجنَّة.
(1) تلمح: لمحه أبصره بنظر خفيف وقيل تشبه.
(2) الدون.
(3) النبات الأخضر.
(4) يقصد الذين يطوفون، يدرسون الوعظ في مقابل هبة أو عطية يسترزقون بها (في ذلك الزمن هكذا كانوا).
(5) استغنى عن الناس بالتوكل على الله.
(6) أي مراعاة لأحكام الله فحدود الله أي أحكامه.
(7) ثبت في الحديث ” الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهة فقد استبرئ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهة وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا إن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله محارمه”.
(8) الصواني: الأواني وهي الأوعية التي يصان فيها.
(9) النِثَار: الدُّرُ.
فصل
وينبغِي أنْ تسموَ همتُكَ إلى الكمالِ فإنَّ خلْقًا وقفُوا معَ الزهْدِ وخلْقًا تشاغلُوا بالعلمِ وندَرَ أقوامٌ جَمعُوا بينَ العلمِ الكاملِ والعملِ الكاملِ. واعلمْ أنِّي قد تصفَّحْتُ التابعينَ ومَنْ بعدهُمْ فما رأيتُ أحظى بالكمالِ مِنْ أربعةِ أنفسٍ سعيدِ بنِ المسيَّب(1) والحسنِ البصريِّ (2) وسفيانَ الثوريِّ(3) وأحمدَ بنِ حنبلٍ(4) رضيَ اللـهُ عنهُمْ وقدْ كانُوا رجالاً وإنَّما كانتْ لـهُمْ هممٌ ضعُفَتْ عندَنَا وقدْ كانَ في السلفِ خلْقٌ كثيرٌ لهَمُ هممٌ عاليةٌ. فإذا أردْتَ أنْ تنظُرَ إلى أحوالِهِمْ فانظُرْ في كتابِ صفةِ الصفوةِ إنْ شئتَ تأمل أخبارَ سعيدٍ والحسنِ وسفيانَ وأحمدَ رضيَ اللـهُ عنهُمْ فقدْ جمعْتُ لكلِّ واحدٍ منهُمْ كِتابًا.
فصل
وقدْ علمْتَ يا بنيَّ أنِّي قدْ صنَّفْتُ مائةَ كتابٍ(5) منْهَا التفسيرُ الكبيرُ عشرونَ مُجلَّدًا والتاريخ عشرونَ مجلَّدًا وتهذيب الُمسندِ عشرونَ مجلَّدًا وباقي الكتبِ بينَ كبارٍ وصغارٍ يكونُ خمسَ مجلداتٍ ومجلدَيْنِ وثلاثةً وأربعةً وأقلَّ وأكثرَ، كفيتُكَ بهذهِ التصانيفِ عنِ استعارةِ الكتبِ وجمْعِ الِهمَمِ في التأليفِ فعليْكَ بالحفظِ وإنَّما الحفظُ رأسُ المالِ والتصرفُ ربحٌ.
واصدُقْ في الحالَينِ في الالتجاءِ إلى الحقِّ سبحانَهُ فراعِ حدودَهُ قالَ الله تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ }{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. وإياكَ أنْ تقفَ معَ صورةِ العلمِ دونَ العملِ بهِ فإنَّ الداخلينَ على الأمراءِ والمقبلينَ على أهلِ الدنيا قدْ أعرضُوا عنِ العملِ بالعلْمِ فمُنِعُوا البركةَ والنفعَ بهِ.
فصل
وإياكَ أنْ تتشاغلَ بالتعبّدِ منْ غيرِ علمٍ فإنَّ خلْقًا كثيرًا مِنَ المتـزهّدينَ والمتصوّفةِ ضلُّوا طريقَ الهُدَى إذْ عمِلُوا بغيِر علْمٍ. واسترْ نفسَكَ بثوبَينِ جميلَينِ لا يُشهرانِكَ بينَ أهلِ الدنيا برفعتِهِمَا ولا بينَ المتزهّدينَ بِضَعَتِهِمَا(6) وحاسبْ نفسَكَ عندَ كلِّ نظرةٍ وكلمةٍ وخَطوةٍ فإنَّكَ مسئولٌ عنْ ذلكَ وعلَى قدرِ انتفاعِكَ بالعلمِ ينتفعُ السامعونَ ومتى لمْ يعملِ الواعظُ بِعلمِهِ زلَّتْ موعظتُهُ عنِ القلوبِ كما يزِلُّ الماءُ عنِ الحجرِ. فلا تعِظَنَّ إلا بنيَّةٍ ولا تمشينَ إلا بنيةٍ ولا تأكلنَّ لُقمةً إلا بنيةٍ ومع مطالعةِ أخلاقِ السلفِ ينكشفُ لكَ الأمرُ.
فصل
وعليكَ بكتابِ منهاجِ المريدينَ فإنَّهُ يُعلمكَ السلوكَ فاجعلْهُ جليسَكَ ومعلمَكَ وتلمَّحْ كتابَ صيدُ الخاطرِ فإنَّكَ تقعُ بواقعاتٍ تُصلحُ لكَ أمرَ دينِكَ ودنياكَ وتحفَّظْ كتابَ جُنَّةُ النظرِ فإنَّه يكفِي في تلقيحِ فهمِكَ للفقهِ ومتى تشاغلْتَ بكتابِ الحدائقِ أَطلعَكَ على جمهورِ الحديثِ وإذا التفتَّ إلى كتابِ الكشفِ أَبانَ لكَ مستورَ ما في الصحيحَينِ مِنَ الحديثِ ولا تتشاغلَنَّ بكتبِ التفاسيرِ التي صنَّفتْهَا الأعاجمُ وما ترَكَ المغْني(7) وزادُ المسير(8) لكَ حاجةً في شىءٍ مِنَ التفسيرِ. وأمَّا ما جمعتُهُ لكَ مِنْ كتبِ الوعظِ فلا حاجةَ لكَ بعدَهَا إلى زيادةٍ أصْلاً.
فصل
وكنْ حسنَ المداراةِ للخَلقِ معَ شدةِ الاعتزالِ عنهُمْ فإنَّ العُزلةَ راحةٌ مِنْ خُلطاءِ السوءِ ومُبقيةٌ للوقارِ فإنَّ الواعظَ خاصةً ينبغِي لهُ أنْ لا يُرى مُتبذلاً (9) ولا ماشيًا في السوقِ ولا ضاحِكًا ليَحْسُنَ بهِ الظنُّ فيُنتفعَ بوعظِهِ فإذَا اضطُررْتَ إلى مُخالطةِ الناسِ فخالطْهُمْ بالحِلمِ عنهمْ فإنَّكَ إنْ كشفْتَ عنْ أخلاقِهِمْ لمْ تقدِرْ علَى مداراتِهِمْ.
فصل
وأدِّ إلى كلِّ ذِي حقٍّ حقَّهُ مِنْ زوجةٍ وولدٍ وقرابةٍ. وانظرْ كلَّ ساعةٍ مِنْ ساعاتِكَ بِماذَا تذهبُ فلا تُودِعْهَا إلا أشرفَ ما يُمكنُ ولا تُهملْ نفسَكَ وعوِّدْهَا أشرفَ ما يكونُ مِنَ العملِ وأحسنَهُ وابعثْ إلى صندوقِ القبرِ ما يسرُّكَ يومَ الوصولِ إليهِ كَمَا قيلَ :
يا منْ بدنياهُ اشتَغَلْ وغَـرَّهُ طولُ الأَمَلْ
المــَوتُ يأتِي بغتةً والقبرُ صندوقُ العَمَلْ
وراعِ عواقِبَ الأمورِ يهُنْ عليكَ الصبرُ عنْ كلِّ ما تشتهِي وما تكرَهُ وإنْ وجدْتَ مِنْ نفْسِكَ غفلةً فاحمِلْهَا إلى المقابِرِ وذكِّرْهَا قُرْبَ الرحيلِ ودبِّرْ أمرَكَ واللـهُ المدبِّرُ في إنفاقِكَ منْ غيرِ تبذيرٍ لِئلا تحتاجَ إلى الناسِ فإنَّ حفظَ المالِ مِنَ الدِينِ ولأنْ تُخَلِّف لِورثتِكَ خيرٌ مِنْ أنْ تحتاجَ إلى الناسِ.
فصل
يا بنيَّ واعلمْ أنَّنَا مِنْ أَولادِ أبي بكرٍ الصديقِ رضِيَ اللـهُ عنهُ وأبونَا القاسمُ محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ أبي بكرٍ رضِيَ اللـهُ عنْهُ وأخبارُهُ مُوَثّقةٌ في كتابِ صفةِ الصفوةِ ثمَّ تشاغلَ سلفُنَا بالتجارةِ والبيعِ والشراءِ فما كانَ مِنَ المتأخِّرينَ مَنْ رُزِقَ همَّةً في طلبِ العلْمِ غيرِي وقدْ ءالَ الأمرُ إليكَ فاجتَهِدْ أنْ لا تُخيِّبَ ظنِّي فيما رجوتُهُ فيكَ ولكَ وقد أسلمتُكَ إلى اللهِ سبحانَهُ وتعالَى وإيَّاهُ أسألُ أنْ يُوفِّقَكَ للعلْمِ والعملِ. وهذا قدْرُ اجتهادِي في وصيَّتِي
ولاحولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ والحمدُ للهِ مَزيدَ الحامدينَ وصلَّى اللـهُ على سيِّدِنَا مُحمَّدٍ وعلَى ءالِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ .
تمَّ الكتابُ بعونِ اللهِ وحمدِهِ
(1) يعد سعيد بن المسيب من فقهاء المدينة السبعة. قال أحمد بن حنبل مرسلات سعيد صحاح وقال قتادة ما رأيت أحدًا أعلم من سعيد بن المسيب ولم يكن أحد أعلم بقضاء قضاة رسول الله منه وكان يصدر أحكامه الفقهية اعتمادًا على أحكام عمر بن الخطاب وسمي راوية عمر ومن تلاميذه الزهري وقتادة توفي سعيد سنة 94 هـ.
(2) الحسن البصري نشأ بالمدينة وحفظ القرءان في خلافة عثمان وسمعه يخطب مرات وكان عمره يوم الدار أربع عشرة سنة ثم كبر ولازم الجهاد والعلم والعمل. رأى علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع من أحدهم. أدرك الحسن خمسين من الصحابة، كان الحسن البصري عالمًا جامعًا رفيعًا ثقة حجة مأمونًا في الرواية عابدًا ناسكًا فصيحًا كثير العلم جميلاً وسيمًا. كان الحسن مجتهدًا له ءاراء في الدين صاحب مذهب.
(3) سفيان الثوري هو أبو عبد الله بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي الفقيه الإمام شيخ الإسلام سيد الحفاظ روى عن أبيه وزيد بن الحارث. وقال أحمد بن حنبل لا يتقدم على سفيان في قلبي أحد.
(4) ولد الإمام أحمد بن محمد بن حنبل في بغداد. جاء في كتاب المناقب قال ابن المنادي قال جدي كان أحمد من أمى الناس وأكرمهم وأحسنهم عشرة وأدبًا. كثير الإطراق والغض معرضًا عن القبيح واللغو لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه وكان يتواضع للشيوخ تواضعًا شديدًا وكانوا يكرمونه ويعظمونه. كان حسن الجوار يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار.
(5) هذا يدلنا على أن هذه الرسالة خطها ابن الجوزي لابنه في حوالي الربع الأول من حياته العلمية حيث أخبر أنه صنف مائة كتاب (في أثناء حياته) أي حتى ذلك الحين والمعدودة فعلاً من مؤلفاته كلها حوالي 519 كتاباً.
(6) بِضَعَتِهِمَا: بمعنى رثاثتهما أو بمعنى قيمتهما الخفيفتين عكس الرفعة.
(7) المغني في التفسير لابن الجوزي.
(8) تفسير ابن الجوزي للقرءان الكريم.
(9) التبذل ترك التصاون.
إضغط على العنوان التالى لتحميل الكتاب
>>> لفتة الكبد إِلى نصيحة الولد <<<