القول الجلي في بيان حكم الاحتفال بالمولد النبوي

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء و المرسلين , المبعوث رحمة

للعالمين و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين , و بعد :



ليعلم أن الاحتفال بذكرى ولادة النبي صلى الله عليه و سلم أمر مستحب و سنة حسنة يثاب فاعلها و فيما يلي بيان ذلك :


قوله تعالى : ” قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون “ . سورة يونس . فالمؤمن مأمور بالفرح بما أنعم الله

تعالى عليه من رحمة و رسول الله صلى الله عليه و سلم من مظاهر رحمة الله تعالى فقد قال سبحانه و تعالى : ” و ما أرسلناك إلا

رحمة للعالمين ” . و قال عليه الصلاة و السلام : ” إنما أنا رحمة مهداة “ . رواه البيهقي .

روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن صيام يوم الاثنين فقال : ” ذاك يوم ولدت فيه . و أنزل علي “ .



مما يستفاد من هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاو و السلام اهتم أن تعرف أمته وقت ولادته , لأن السائل لم يسأل عن ذلك و إنما

أخبره به الرسول عليه الصلاة و السلام ابتداءً و ذلك إشارة منه إلى أن ليوم ولادته شأناً عظيماً في الشرع بل و جعل ذكرى ولادته

مؤثرة في حكم صيام يوم الاثنين لأن الصحابي إنما سأله عن الصيام في يوم الاثنين فأخبره أنه ولد في ذلك اليوم معناه أن من أسباب

صيام يوم الاثنين هو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد في ذلك اليوم و الصيام طاعة عظيمة فيها الشكر لله تعالى على هذه

النعمة و هي نعمة إظهار رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الوجود .



فمن هنا استحسن العلماء الاحتفال بذكرى مولد النبي عليه الصلاو والسلام لأن له أصلا في الشرع و أثنوا على من صنع ذلك , و

للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى في سنة 911 هـ كتاب سماه الحاوى للفتاوى فيه رسالة سماها ( حسن المقصد في عمل

المولد ) , قال : فقد وقع السؤال عن عمل المولد في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع ؟ و هل هو محمود أم مذموم ؟ و هل

يثاب فاعله أم لا ؟ و الجواب عندي : أن أصل عمل المولد هو اجتماع الناس , وقراءة ما تيسر من القرءان و رواية الأخبار الواردة

في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه و سلم و ما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه و ينصرفون من غير زيادة على ذلك

هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه و سلم و إظهار الفرح و الاستبشار بمولده

الشريف . و أول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد

و الكبراء و الأجواد , و كان له ءاثار حسنة , و هو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون . انتهى كلامه .



قال ابن كثير في تاريخه المسمى البداية و النهاية (3/136 ) : ” كان يعمل المولد الشريف ـ يعني الملك المظفر ـ في ربيع الأول و

يحتفل به احتفالاً هائلاً , و كان شهماً شجاعاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله تعالى و أكرم مثواه . قال : و قد صنف له الشيخ أبو

الخطاب ابن دحية مجلداً في المولد النبوي سماه ( التنوير في مولد البشير النذير ) فأجازه على ذلك بألف دينار , و قد طالت مدته في

الملك إلى أن مات و هو محاصر للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين و ستمائة محمود السيرة و السريرة “ . انتهى كلامه .



و قال ابن خلكان في وفيات العيان ( 3/449 ) في ترجمة الحافظ ابن دحية : ” كان من أعيان العلماء و مشاهير الفضلاء , قدم من

المغرب فدخل الشام والعراق , و اجتاز بإربل سنة أربع و ستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد

النبوي , فعمل له كتابا ( التنوير في مولد النذير ) , و قرأه عليه فأجازه بألف دينار ” . انتهى كلامه .



فإن قيل قد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ” كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة “ . و عمل المولد من البدع .


فالجواب على ذلك : أن المقصود بقوله صلى الله عليه و سلم ” و كل بدعة ضلالة “ أي كل بدعة خالفت الشرع فهي بدعة ضلالة و

اما ما كان موافقا للشرع فليس بضلالة . قال الإمام النووي رحمه الله في شرعه لهذا الحديث : ” هذا عام مخصوص و المراد به

غالب البدع ” .



لذلك قسم العلماء البدعة إلى قسمين :

بدعة ضلالة : و هي المحدثة المخالفة للقرءان و السنة .

بدعة هدى : و هي المحدثة الموافقة للقرءان و السنة: . انتهى ك .



روى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي رضي الله عنه قال : المحدثات من المور ضربان : أحدهما ما احدث مما

يخالف كتاباً او سنة ً او أثراً أو إجماعاً , فهذه البدعة الضلالة , و الثانية : ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا , و هذه

محدثة غير مذمومة “ . انتهى كلامه .



و قال الشافعي : ” البدعة بدعتان : محمودة و مذمومة , فما وافق السنة فهو محمود و ما خالفها فهو مذموم “ . انتهى كلامه .


و قال النووي في كتاب تهذيب الأسماء و اللغات ما نصه : ” البدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله

صلى الله عليه و سلم , وهي منقسمة إلى حسنة و قبيحة . قال الإمام الشيخ المجمع على إمامته و جلالته و تمكنه في انواع العلوم و

براعته ابو محمد عبد العزيز ابن عبد السلام رحمه الله و رضي عنه في ءاخر كتاب القواعد : البدعة منقسمة إلى واجبة و محرمة و

مندوبة و مكروهة و مباحة .



قال : و الطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة , فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة , أو في قواعد التحريم

فمحرمة , او الندب فمندوبة , أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة “ . انتهى كلام النووي .



و هذا التقسيم مفهوم من حديث البخاري و مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” من أحدث

في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد “ . . و رواه مسلم بلفظ ءاخر و هو : ” من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد “. فافهم رسول الله

صلى الله عليه و سلم بقوله : ” ما ليس منه “ . أن المحدث إنما يكون مردودا إذا كان على خلاف الشريعة و أن المحدث الموافق

للشريعة ليس مردوداً . انتهى كلامه .



و كذلك يُفهم هذا التقسيم من قوله عليه الصلاة و السلام فيما رواه مسلم في صحيحه :  ” من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و

أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء ، و من سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها

من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء ” .



هذا وقد أحدث الصحابة رضي الله عنهم أشياء لم يُنصّ عليها صراحة في كتاب الله تعالى و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و لكنها لا

تخالف الشرع ، فمن ذلك زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه أذانا ثانيا يوم الجمعة و هذه بدعة أحدثها عثمان رضي الله عنه ففي

صحيح البخاري ما نصه : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و

عمر رضي الله عنهما ، فلما كان عثمان رضي الله عنه و كثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء . انتهى . و الزوراء مكان

بالمدينة .



فإن قيل : قد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :  ” عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي

عضوا عليها بالنواجذ  “ الحديث.



فالجواب : أن هذا الحديث فيه حجة لنا على جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف و ذلك أن من سنن الخلفاء الراشدين أنهم أحدثوا

أشياء في الدين لا تخالف الدين كإحداث عثمان رضي الله عنه للأذان الثاني لصلاة الجمعة و من قبله جمع الصديق أبو بكر رضي الله

عنه للمصحف و جمع الفاروق عمر رضي الله عنه الناس على صلاة التراويح بعد ترك النبي صلى الله عليه و سلم لذلك و عدم جمع

أبي بكر لهم .



فكما أن هؤلاء الخلفاء الراشدين أحدثوا أمورا مستحبة توافق الدين فإننا نقتدي بهم فنحدث أشياء مستحبة توافق الدين و منها الاحتفال

بالمولد النبوي الشريف .



هذا و قد ورد أنه لما بايع عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه على الخلافة بايعه على كتاب الله و

سنة رسوله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر فبايعه عثمان على ذلك ثم حصل أن أحدث سيدنا عثمان الأذان الثاني يوم الجمعة و هو

شىء لم يفعله الشيخان أبو بكر و عمر و لكنه لايخالف سيرتهما فلا يكون سيدنا عثمان رضي الله عنه بذلك قد خالف العهد , و كذلك

الحال بالنسبة للمسلمين المحتفلين بذكرى المولد النبوي الشريف منذ مئات السنين إلى وقتنا هذا .



و قد ثبت عن بعض الصحابة من غير الخلفاء الراشدين أنهم أحدثوا أموراً لم يعلمهم إياها الرسول صلى الله عليه و سلم . و لكنها

توافق الشرع . فقد أخرج البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه و سلم

فلما رفع رأسه من الركعة قال : ( سمع الله لمن حمده ) قال رجل وراءه : ربنا و لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه , فلما انصرف

قال : ( من المتكلم ؟) قال : أنا , قال : ( رأيت بضعة و ثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول ) .



قال ابن حجر في الفتح في شرح هذا الحديث : ( و استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف

للمأثور  ). انتهى كلامه .



و روى أبو داود في سننه عن عبدالله بن عمر أنه كان يزيد في التشهد : ( وحده لا شريك له ) , و يقول : أنا زدتها . انتهى كلامه .


و كذلك إحداث سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه صلاة ركعتين قبل القتل فإنه كان قد طلب من كفار قريش أن يصلي ركعتين قبل

أن يُقتل و قد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال عن خبيب : ” فكان أول من سن الركعتين عند القتل

هو ” .



فإن قيل : إذا كان الاحتفال بالمولد النبوي أمراً حسناً فلماذا لم يفعله النبي عليه الصلاة و السلام ؟


فالجواب : أن أصل الاحتفال بذكرى مولده عليه الصلاة والسلام مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام في يوم الاثنين : ” ذاك يوم ولدت فيه ” . فإنه عليه الصلاة والسلام قد نوّه إلى يوم مولده دون أن يكون السائل قد سأل عن ذلك . واهتم أن تعرف أمته شأن ذلك اليوم , ثم إنه عليه الصلاو و السلام هو من فتح الباب للناس لإحداث الأمور الحسنة التي توافق الدين و شجعهم على ذلك و ذلك عندما قال : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ) . الحديث رواه مسلم .


فإن قيل : لماذا لم يفعل الصحابة الاحتفال بالمولد النبوي و هم حريصون على سنة النبي صلى الله عليه و سلم ؟ أم ترانا أفضل من الصحابة و أعلم !.


فالجواب على ذلك أن يقال : إن القاعدة الشرعية الأصولية تقول : الميزة لا تقتضي التفضيل . أي أنه إذا امتاز إنسان بأمر ما فلا يعني ذلك بالضرورة أنه أفضل من غيره . فقد امتاز أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه أعلم الصحابة في قراءة القرآن و امتاز زيد بن ثابت رضي الله عنه بأنه أعلم الصحابة في علم المواريث و لا يعني ذلك أنهما أفضل من العشرة المبشرين بالجنة , و كذلك الحال لمن امتاز بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف فلا يعني ذلك أنه أفضل و أعلم من الصحابة فنحن لم ندّعِ ذلك و الميزة لا تقتضي التفضيل و هذا فضل الله تعالى يختص به من يشاء .


فإن قيل : قد ظهر في بعض هذه الاحتفالات بعض المخالفات الشرعية .


فالجواب على ذلك ان هذا ليس سبباً لتحريم الاحتفال بالمولد النبوي على وجه الإطلاق . فإن هذه المخالفات قد تحصل من بعض الناس في يومي عيد الفطر و عيد الضحى فهل نحرّم الاحتفال بيوم العيد لأجل ذلك ! لا شك أن الجواب لا و كذلك الحال بالنسبة للاحتفال بالمولد النبوي .


و من العجيب ما يقوله البعض من أننا إذا احتفلنا بذكرى المولد النبوي الشريف نكون كاننا احتفلنا بذكرى وفاة النبي عليه الصلاة و السلام لأنه ثبت أنه مات يوم الاثنين أيضا في شهر ربيع الأول . و هذا اتهام باطل فإن المسلمين إنما يقصدون الاحتفال بذكرى الولادة و هل إذا صادف حصول مصيبة للمسلمين في يوم فرح لهم يكون ذلك احتفالاً منهم بالمصيبة ؟!.
هل إذا صادف احتلال العدو لبلاد المسلمين مثلا يوم عيد الفطرأو الأضحى فإن المسلمين إذا احتفلوا بيوم العيد يكون معنى احتفالهم فرحهم بالاحتلال !.


فبعد هذا البيان يكون قد وضح الحق لذي عينين و تبين أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من السنن الحسنة التي يثاب فاعلها . و نسأل الله تعالى أن ينفعنا بهذه الذكرى العطرة و بصاحبها عليه الصلاة و السلام و أن يعيدها علينا و على الأمة الإسلامية جمعاء بالخير و النصر و البركة .




و آخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .

أضف تعليق