بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الذي نصر عبده بالحجج البينات وأيده بالمعجزات الظاهرات وأظهره على خصومه وقواه بالادلة الدامغات ,الحمدلله الموجود أزلا وأبدا بلا مكان ,مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، والصلاة والسلام على سيد الكائنات وعلى اله وصحبه الطيبين الكرام أصحاب البراهين والارشاد
كتب أ. أورخان محمد علي* فقال
اجتمعوا في الصحن الشريف، في الروضة المطهرة في صلاة الظهر، وأدَّى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج، ثم ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني وخطب في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه أكثر من عدد كلماته، وبكي الضباط حتى علا نحيبهم، وقال: لن نستسلم أبداً ولن نسلم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لا للإنجليز ولا لحلفائهم!
كانت ملحمة رائعة قل نظيرها في التاريخ…ملحمة إنسانية رسمت فيها أسمى العواطف الإنسانية لوحة رائعة ستبقى على مر التاريخ ولن يطويها النسيان… وملحمة عسكرية تحدت أصعب الظروف وأقسى الشروط.
القائد التركي اللواء فخر الدين باشا الملقب بـ(نمر الصحراء)، ومن قِبَلِ الانجليز بـ(النمر التركي).
كان قائد الفيلق في الجيش العثماني الرابع في الموصل برتبة عميد عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في 1914ر، ثم رقي إلى رتبة لواء، واستدعي عام 1916 إلى الحجاز للدفاع عن المدينة المنورة عندما بدت تلوح في الأفق نذر نجاح الانجليز في إثارة حركة مسلحة ضد الدولة العثمانية
وصل إلى المدينة المنورة في 31/5/1916 فرحا لأنه كان يحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبا شديد حيث رسم هذا الحب لوحة في التاريخ العثماني.
منذ اليوم الأول من وصوله للمدينة حتى فراقه لها أي أكثر من عامين لم يشبع من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف هكذا في كل صباح وفي كل يوم لم يفت يوم واحد دون قيامه بهذا.
انسحبت الجيوش العثمانية من الحجاز بعد سقوط الحجاز بيد الثوار، ولم تبق هناك سوى حامية فخر الدين باشا التي كانت تبلغ 15 ألفا من الجنود مع بضعة مدافع…بقي فخر الدين باشا وحده وسط بحر من الصحراء ومن الأعداء…أصبح أقرب جيش عثماني يبعد عنه 1300كم …انقطعت عنه جميع الإمدادات…ومما زاد في عزلته قيام لورنس- الجاسوس الانجليزي – وأعوانه من بدو بعض القبائل بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مواضع، وبنسف أعمدة التلغراف…فأصبح معزولا عن العالم وحيداً ومحاصراً من قبل أعداء يفوق عددهم عدد جنوده أضعافا مضاعفة ويقومون بالهجوم على المدينة ويطلبون منه الاستسلام؛ ولكنه كان يردهم على أعقابهم كل مرة.
كانت أمور الدولة العثمانية تسوء يوما بعد يوم، وتتراجع جيوشها أمام قوات الحلفاء في معظم جبهات القتال، لذا اتخذت الحكومة العثمانية ( وعلى رأسها أنور باشا) قراراً بتخلية المدينة المنورة. وأبلغوا فخر الدين باشا بهذا القرار، وقد شعر بأن خنجراً يغرس في قلبه، ولهذا أرسل رسالة إلى أنور باشا يتوسل فيها منه ويقول:
(لماذا نخلي المدينة؟ أمن أجل أنهم فجروا خط الحجاز؟ ألا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟أمهلوني مدة فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية)
توسل توسلا حارا كقائد عثماني مرموق.
رضي أنور باشا أمام هذا الإلحاح بل التوسل الحزين…ولكنه لم يستطع إرسال أي مدد إليه.
ولكن الأحوال العسكرية ساءت جدا في تلك المنطقة. فقد هزم الجيش العثماني في حروبه مع القوات الانجليزية – التي كانت تفوقه في العدد والعدة وفي حسن التموين – في القناة وفي جبهة فلسطين، واضطر للانسحاب.
وفي الشهر العاشر من عام 1918ر وقعت الدولة العثمانية معاهدة موندروس…وكانت معاهدة استسلام قاسية جدا.
انتهت الحرب…وصدرت إليه الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة وتسليمها إلى قوات الحلفاء….ولكنه رفض تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته…أي أصبح عاصيا لها…كانت الفقرة رقم 16 من معاهدة موندروس الاستسلاميَّة تنص صراحة على قيام جميع الوحدات العثمانية العسكرية الموجودة في الحجاز وسوريا واليمن والعراق بالاستسلام لأقرب قائد من قواد الحلفاء. واتصل به الإنجليز باللاسلكي من بارجة حربية في البحر الأحمر يخبرونه بضرورة الاستسلام بعد أن انتهت الحرب وتم التوقيع على معاهدة الاستسلام فكان جوابه الرفض.
كتب إليه أحمد عزت باشا – وهو يبكي- رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقا للمعاهدة، وأرسل رسالته هذه مع ضابط برتبة نقيب. ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إليه قال فيها : إن مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تشبه أي مدينة أخرى لذا فلا تكفي أوامرك في هذا الشأن ، بل عليه أن يستلم أمراً من الخليفة نفسه.
كان في الحقيقة يفتش عن عذر لرفض الانسحاب.
ازدادت الضغوط على الدولة العثمانية من قبل الحلفاء لتطبيق المعاهدة وتسليم المدينة إليهم.
لم تر الحكومة العثمانية بداً من الرضوخ …فلم تكن لديهم أي حول أو قوة للرفض.
وهكذا صدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة، وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل ” حيدر ملا”.
سدت جميع الأبواب في وجه فخر الدين باشا…فقد وصل إليه أمر من الخليفة نفسه بوجوب الاستسلام.
هل سيترك مدينة حبيبه صلى الله عليه وسلم ويسلمها إلى الأعداء؟
كلا!…لن يستسلم ولن يقبل تنفيذ أي أمر بهذا الخصوص …حتى ولو كان الأمر من الخليفة ومن السلطان نفسه.
أرسل الجواب مع وزير العدل. قال في الجواب:
( إن الخليفة يعد الآن أسيرا في يد الحلفاء؛ لذ فلا توجد له إرادة مستقلة، فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام) رفض حتى أوامر الخليفة نفسه!.
وبدأ الطعام يقل في المدينة…كما شحت الأدوية وتفشت الأمراض بين جنود الحامية وكذلك بين أهالي المدينة…كانوا نقطة في بحر الصحراء محاصرين ومنقطعين عن العالم.
جمع فخر الدين باشا ضباطه للاستشارة حول هذا الظرف العصيب…كان يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومعرفة مدى إصرارهم في الاستمرار في الدفاع عن المدينة….
اجتمعوا في الصحن الشريف …في الروضة المطهرة في صلاة الظهر…أدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج، ثم ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني وخطب في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه أكثر من عدد كلماته…وبكي الضباط حتى علا نحيبهم، وقال : لن نستسلم أبداً ولن نسلم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لا للإنجليز ولا لحلفائهم!!
نزل من المنبر فاحتضنه الضباط ضابطا ضابطاً…احتضنوه وهم يبكون وهو يبكي…كانت لوحة مأساوية من أروع لحظات التاريخ ستبقى في سجل التاريخ، طفح فيه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل قل نظيره وثارت فيها العواطف وتأججت وسالت من المآقي الدموع،
اقترب من القائد العثماني أحد سكان المدينة الأصليين واحتضنه وقبله وقال له أنت مدني من الآن فصاعدا…أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد!).
لكن الحقيقة المرة كانت ماثلة أمام كل عين …حقيقة مادية وواقعية يعجز عن تجاهلها…لم يكن من الممكن الاستمرار في هذا الرفض…فقد اشتدت وطأة الجوع والمرض على الجيش العثماني وعلى سكان المدينة، وقلت الذخيرة الحربية ولم تعد كافية للدفاع عن المدينة.
عندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا زادوا اتصالهم مع ضباطه…كان الوضع ميئوسا منه. كلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية ولأهل المدينة. فوافق أخيرا على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام.
كان على رأس بنود الاتفاقية بند يقول: (سيحل فخر الدين باشا ضيفا على قائد القوات السيارة الهاشمية في ظرف 24 ساعة) وأنه تم تهيئة خيمة كبيرة لاستراحته.
وفي المدينة كانت ترتيبات الرحيل تجري على قدم وساق، وكانت سيارة القائد فخر الدين مهيأة وقد نقلت إليها أغراض القائد. بقي الضباط في انتظار خروجه …ولكن الساعات مضت ولم يخرج إليهم، بل جاء أمر منه بتخلية السيارة من أغراضه الشخصية ونقلها إلى بناية صغيرة ملحقة بالمسجد النبوي…كان فخر الدين قد هيأ هذا المكان لنفسه …لم يكن يريد الابتعاد من عند مسجد رسول الله وذهب إليه نائبه نجيب بك ومعه ضباط آخرون فوجدوه متهالكا على فراش بسيط في تلك البناية، ولم يرد أن يخرج، بل قال لهم:اذهبوا أنتم أما أنا فسأبقى هنا.
احتار نائبه والضباط ولم يدروا كيف يتصرفون، تشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يأخذوه قسرا…اقتربوا من فراشه وأحاطوا به وحملوه قسرا إلى الخيمة المعدة له وهم يبكون…كانوا يعرفون مدى حب قائدهم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولماذا يقاوم كل هذه المقاومة رافضا الابتعاد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يكونوا يستطيعون ترك قائدهم هكذا وحيدا هناك، وقد حدث هذا في يوم 10/1/1919م
في اليوم الثاني اصطف الجنود العثمانيون صفوفا أمام المسجد النبوي، وكان كل جندي يدخل ويزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبكي ثم يخرج، وكذلك الضباط، ولم يبق أحد لم يسكب دموعا حارة في لحظة الوداع المؤثرة هذه حتى سكان المدينة وقوات البدو بكوا من هذا المنظر.
عندما نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المعدة له كان هناك الآلاف من قوات البدو يحيطون بالخيمة ويشتاقون إلى رؤية هذا البطل الذي أصبح أسطورة، وما أن ظهر حتى ارتجت الصحراء بنداء : (فخر الدين باشا …فخر الدين باشا!) لم يكن هناك من لم تبهره بطولته وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي 13/1/1919 دخلت قوات البدو– حسب الاتفاقية – إلى المدينة،واستسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة بعد 72 يوما من توقيع معاهدة موندروس.