بعض من اشتغل بعلم الكلام من السلف

بعض من اشتغل بعلم الكلام من السلف

اشتغل عدد من علماء السلف بعلم الكلام إلى جانب اشتغالهم بالقرءان والسنة، والذي ألجأهم إلى ‏ذلك ‏الحاجة للرد على أهل البدع والدفاع عن عقيدة أهل الحق وحراستها من تشويشات وشُبَه ‏هؤلاء ‏المنحرفين.‏ ومن أبرز علماء السلف المشتغلين بهذا العلم الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، ‏فقد ‏قال الحافظ البيهقي في كتابه مناقب الشافعي ما نصه (1) “وقرأت في كتاب أبي نعيم ‏الأصبهاني ‏حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي: ‏كلَّم الشافعي ‏يوماً بعض الفقهاء فدقق عليه وحقق، وطالب وضيق، فقلت له: يا أبا عبد الله: هذا ‏لأهل الكلام لا لأهل ‏الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا” اهـ.‏ وقال الربيع بن سليمان “حضرت الشافعي وحدَّثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن ‏عبد ‏الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص ‏عبد الله بن ‏عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان، فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو، فلم يجبه ‏وكلاهما أشار إلى ‏الشافعي، فسأل الشافعي فاحتجَّ عليه الشافعي، فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي ‏بالحجة عليه بأن القرءان ‏كلام الله غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد، قال الربيع: فلقيت حفصاً الفرد في ‏المسجد بعدُ فقال: أراد ‏الشافعي قتلي” (2) اهـ.‏

وللإمام أبي حنيفة رضي الله عنه (الفقه الأكبر) و (الرسالة) و(الفقه الأبسط) و (العالم والمتعلّم) و ‏‏‏(الوصية)، واختلف في نسبتها إلى الإمام كثيراً، فمنهم من ينكر نسبتها للإمام مطلقاً ويزعم أنها ‏ليست ‏من عمله، ومنهم من ينسبها إلى محمد بن يوسف البخاري المكنى بأبي حنيفة وهذا قول المعتزلة ‏لما فيها من ‏إبطال نصوصهم الزائغة وادعائهم كون الإمام منهم- أي في المعتقد- كما في المناقب ‏الكردرية. والإمام ‏أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلم في أصول الدين بالتوسُّع وأتقنها بقواطع البراهين ‏على رأس المائة ‏الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أو متكلمي أهل السنّة من الفقهاء ‏أبو حنيفة والشافعي، ‏ألّف فيه الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل بن سليمان ‏صاحب التفسير وكان مجسّماً، ‏وقد ناظر فرقة الخوارج والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة ‏فسافر إليها نيفاً وعشرين مرةً، ‏وفضَّهم بالأدلة الباهرة، وبلغ في الكلام- أي علم التوحيد- إلى أنه ‏كان المشار إليه بين الأنام، واقتدى به ‏تلامذته الأعلام.‏ وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أنه كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وحماد ‏بن ‏أبي حنيفة قد خَصَمُوا بالكلام الناس أي ألزموا المخالفين وهم أئمة العلم. وعن الإمام أبي عبد الله ‏‏الصيمري أن الإمام أبا حنيفة كان متكلم هذه الأمة في زمانه، وفقيههم في الحلال والحرام.‏ ‏ هذه الكتب الخمسة ليست من جمع الإمام أبي حنيفة، بل الصحيح أن هذه المسائل المذكورة في هذه ‏‏الكتب من أمالي الإمام التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع الحكم بن عبد الله ‏‏البلخي وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من ‏الأئمة ‏كإسمعيل بن حمّاد ومحمد بن مقاتل الرازي ومحمّد بن سماعة ونصير بن يحي البلخي وشداد بن ‏الحكم ‏وغيرهم، إلى أن وصلت بالإسناد الصحيح إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، فمن عزاهن إلى ‏الإمام صح ‏لكون تلك المسائل من إملائه، ومن عزاهن إلى أبي مطيع البلخي أو غيره ممن هو في طبقته ‏أو ممن هو ‏بعدهم صح لكونها من جمعه، ذكر ذلك الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (3).‏

وقال العلامة الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع “إن الأئمة انتدبوا للرد على أهل البدع ‏والضلال، ‏وقد صنَّف الشافعيّ كتاب (القياس) ردَّ فيه على من قال بقدم العالم من الملحدين، وكتاب ‏‏(الرد على ‏البراهمة) وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم والمتعلّم) رد فيه على ‏المخالفين، ‏وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق القويم، وكذلك الإمام ‏أحمد“اهـ.‏ وقد صنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسماعيل البخاري – المتوفى سنة 256 هـ- كتاب (خلق ‏‏أفعال العباد)، وصنَّف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام- المتوفى في حبس الواثق ‏سنة ‏‏228 هـ- كتاباً في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنَّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي- ‏المتوفى سنة ‏‏242 هـ- وهو من أقران الإمام أحمد أيضاً في الردّ على الجهمية، وقد ردّ على المعتزلة ‏فأجاد بالتأليف ‏ثلاثة- من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد بن حنبل: الحارث المحاسبي، والحسين ‏الكرابيسي، وعبد الله ‏بن سعيد بن كُلاّب- المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل- ويمتاز الأول بإمامته ‏أيضاً في التصوف.‏ وقد صنَّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو ‏منصور ‏الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج ‏المنقول ‏والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. ‏وكانت وفاة ‏الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة ، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة ‏الأشعري بقليل.‏ وصنَّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج ‏الدامغة ‏الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا ‏غيرهم من ‏المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافِقَينْ (4) ‏وأبرزهم في نشره ‏ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي الإمام أبو ‏بكر الباقلاني، فالأولان ‏نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة ‏الخامسة إلا والأمة الإسلامية ‏أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نذر من المعتزلة وشرذمة من ‏المشبّهة وطائفة من الخوارج، فلا تجد ‏عالماً محقّقاً أو فقيهاً مدققاً إلا وهو أشعري أو ماتريدي.‏

فائدة مهمة: قال الشيخ الفقيه الأصولي الزركشي في كتابه تشنيف المسامع (5) ما نصه “قال الإمام ‏أبو ‏بكر الإسماعيلي (6) أعاد الله هذا الدين بعدما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن ‏الأشعري ‏وأبي نعيم الإستراباذى، وقال أبو إسحاق المَرْوَزي: سمعت المحاملي يقول في أبي الحسن ‏الأشعري: لو أتى ‏الله بقُراب الأرض ذنوباً رجوت أن يغفر الله له لدفعه عن دينه، وقال ابن العربي: ‏كانت المعتزلة قد رفعوا ‏رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم” اهـ.‏ ومثل هذا يقال في أبي منصور الماتريدي لأنه مثله قام بتقرير عقيدة السلف بالأدلة النقلية والعقلية ‏بإيضاح ‏واسع، فقد جمع هذان الإمامان الإثبات مع التنزيه فليسا على التشبيه ولا التعطيل ولعن الله ‏من يسمي ‏الأشعري أو الماتريدي معطلاً، فهل خالفا التنزيه الذي ذكره الله بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ ‏شَيْء) [سورة ‏الشورى:11]، فإنهما نفيا عن الله الجسمية وما ينبني عليها، وهذا ذنبهما عند ‏المشبهة كالوهابية ومن سبقهم ‏من المشبهة، فإن المشبهة قاست الخالق بالمخلوق فنفت موجوداً ليس ‏جسماً، والإمامان ومن تبعهما وهم ‏الأمة المحمدية قالوا إن الله لو كان جسماً لكان له أمثال لا ‏تحصى.‏ وهذا هو دين الله الذي كان عليه السلف الصالح وتلقاه عنهم الخلف الصالح، وطريقة الأشعري ‏‏والماتريدي في أصول العقائد متحدة. فالمذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح هو ما عليه ‏الأشعرية ‏والماتريدية وهم مئات الملايين من المسلمين، فكيف يكون هؤلاء السوادُ الأعظم على ضلال ‏وتكون ‏شرذمة هي نحو ثلاثة ملايين على الحق؟!، والصواب أن الرسول  أخبر بأن جمهور ‏أمته لا ‏يضلون وذلك من خصائص هذه الأمة، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما ‏‏(7) “إن ‏الله لا يجمع أمتي على ضلالة” وعند ابن ماجه زيادة “فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد ‏الأعظم“، ‏ويقوي هذا الحديث الحديث الموقوف (8) على أبي مسعود البدري “وعليكم بالجماعة ‏فإن الله لا يجمع ‏هذه الأمة على ضلالة” قال الحافظ ابن حجر (9) “وإسناده حسن”، والحديث ‏الموقوف (10) على عبد ‏الله بن مسعود وهو أيضاً ثابت عنه (ما رءاه المسلمون حسناً فهو عند الله ‏حسن، وما رءاه المسلمون ‏قبيحاً فهو عند الله قبيح)، قال الحافظ ابن حجر (11) “هذا موقوف ‏حسن” ولا ينافي ما قررناه من أن ‏الجمهور معصومون من الضلالة ما صح مرفوعاً إليه من قوله  (12) لا تزال ‏طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة“، فإن هذا أريد ‏به طائفة متمسكة من بينهم بالدين ‏على الكمال ولا شك أن المتمسكين بالدين على الكمال هم أقل ‏الأمة، وليس معنى ذلك أن أكثر ‏المنتسبين إلى الإسلام يكونون ضالين من حيث العقيدة خارجين عن ‏الإسلام كما صرحت بذلك الوهابية ‏ووافقهم أبو الأعلى المودودي، فعندهم جمهور المنتسبين للإسلام ‏ليسوا على الهدى بل على الشرك، وقد ‏صح (13) أن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون من هذه ‏الأمة، فلا يمكن أن يكون هؤلاء الثمانون ‏هذه الشرذمة الوهابية، وهل كانت الوهابية قبل قرنين، فإن ‏معتقدها منبثق من محمد بن عبد الوهاب ‏المتوفى سنة مائتين وألف وست للهجرة وبعض معتقداتها ‏مأخوذ من أحمد بن تيمية المتوفى سنة سبعمائة ‏وثمان وعشرين للهجرة وهو شذ عن ما كان عليه من ‏قبله من أهل الحق بقوله: إن جنس العالم ليس ‏حادثاً إنما الحادث الأفراد أي الأشخاص المعينة فكل ‏شخص وفرد عنده حادث ولكن إلى ما لا نهاية له ‏ولا ابتداء، فجعل العرش أزليّاً بنوعه وجنسه بمعنى ‏أن العرش لم يزل مع الله ولكن عينه ليس دائماً بل ‏يتجدد كل ءان بعد عدم، وقد نقل ذلك عنه ‏الإمام جلال الدين الدَّواني وهو من ثقات العلماء كما وثقه ‏الحافظ السخاوي في “البدر اللامع في ‏تراجم أهل القرن التاسع”، ونسب إلى ابن تيمية ذلك الحافظان ‏الجليلان المعاصران له وهما الحافظ ‏المجتهد تقي الدين السبكي والحافظ أبو سعيد العلائي.‏

وفيما ذهب إليه ابن تيمية تكذيب لقول الله تعالى (هُوَ اَلأوّلُ) [سورة الحديد:3]، لأن مراد الله ‏تعالى ‏بأوليته الأولية المطلقة ليست الأولية المقيدة النسبية، لأن ذلك ليس لله تعالى فيه خصوصية، إذ ‏الماء والعرش ‏لهما تلك الأولية النسبية لأنهما أول ما خلق الله لم يخلق الله قبلهما شيئاً كما نطق بذلك ‏الحديث الصحيح ‏‏(14) “كان الله ولم يكن شىء غيره“، فثبت أن ابن تيمية كذَّب هذا الحديث ‏الصحيح كما كذَّب الآية ‏المذكورة وكذَّب الإجماع لأنه لم يقل قبله أحد من المسلمين إن نوع العالم ‏لم يزل مع الله أزليّاً، وإنما قال ‏بذلك متأخرو الفلاسفة الذين هم على خلاف رأي إرسطو. ولم يخش ‏ابن تيمية من الله حيث افترى على ‏أئمة أهل السنة والحديث بنسبته ذلك إليهم ولا يعرف واحد منهم ‏قال ذلك، لكن ابن تيمية يربأ بنفسه ‏عن أن يُنسب إلى موافقة رأي المُحْدَثين من الفلاسفة الذين ‏وافقهم برأيهم القائلين بمثل مقالته، وليست ‏هذه المسألة من المسائل التي يدخلها الاجتهاد بل من ‏أخطأ فيها كفر بالإجماع، قال السبكي في شرح ‏عقيدة ابن الحاجب “اعلم أن حكم الجواهر ‏والأعراض كلها الحدوث فإذاً العالم كله حادث، وعلى هذا ‏إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف ‏في ذلك فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي” اهـ، ذكر ذلك ‏المحدث الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي ‏في شرح إحياء علوم الدين (15).‏

وكذلك كان ابن هرمز من العارفين بعلم الكلام، فقد قال الحافظ البيهقي في “شعب الإيمان ” ما ‏نصه ‏‏(16) “أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أحمد بن سهل، ثنا إبراهيم بن معقل، ثنا حَرملة، ثنا ‏ابن ‏وهب، ثنا مالك أنه دخل يوماً على عبد لله بن يزيد بن هرمز فذكر قصة، ثم قال: وكان – يعني ‏ابن ‏هرمز- بصيراً بالكلام، وكان يردُّ على أهل الأهواء، وكان من أعلم الناس بما اختلفوا فيه من هذه ‏‏الأهواء” اهـ.‏ ‏ وابن هرمز توفي سنة 148 هـ، قال فيه الذهبي في “السير” (17) “فقيه المدينة، عداده في التابعين ‏‏وقلَّما روى، كان يتعبد ويتزهد، وجالسه مالك كثيراً وأخذ عنه. قال مالك: كنت أحب أن أقتدي ‏به، ‏وكان قليل الفتيا شديد التحفظ، كثيراً ما يفتي الرجل ثم يبعث من يرده ثم يخبره بغير ما أفتاه، ‏وكان ‏بصيراً بالكلام يرد على أهل الأهواء، كان من أعلم الناس بذلك، بيَّن مسئلة لابن عجلان فلما ‏فهمها قام ‏إليه ابن عجلان فقبَّل رأسه “، ثم قال الذهبي: “قال مالك: جلست إلى ابن هرمز ثلاث ‏عشرة سنة ‏واستحلفني أن لا أذكر اسمه في الحديث” اهـ.‏ فمن هنا يُعلم أن ما يُروى عن مالك أنه ذم علم الكلام محمول على كلام المبتدعة وأهل الأهواء ‏وليس ‏علم الكلام الممدوح الذي كان ابن هرمز شيخ الإمام مالك بصيراً به كما روى ذلك عنه ‏مالك نفسه من ‏غير إنكار، فالمذموم من هذا العلم ما خالف القرءان أو الحديث أو الإجماع.

وكذلك قطع قاضي البصرة إياس بن معاوية القدرية، وكان يضرب به المثل في الذكاء والدَّهاء ‏والسؤُّددِ ‏والعقل، روى الحافظ أبو نُعَيْم في “الحلية” (18) عن حبيب بن الشهيد قال‏ ‏”سمعت إياس بن معاوية يقول: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، فإني ‏قلت ‏لهم: ما الظلم فيكم؟ قالوا: أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلتُ لهم: فإن لله عز وجل كل شىء” ‏اهـ.‏ ومن الذين اشتغلوا بعلم الكلام للرد على أهل البدع الشيخ الحارث بن أسد المحاسبي شيخ الجنيد ‏رحمهما ‏الله تعالى.‏ والكلام بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة، فأول متكلمي أهل السنة من الصحابة علي بن ‏أبي ‏طالب لمناظرته الخوارج في مسائل الوعد والوعيد ومناظرته القدرية في القدر والقضاء والمشيئة ‏‏والاستطاعة، ثم عبد الله بن عمر في كلامه على القدرية وبراءته منهم ومن زعيمهم المعروف بمعبد ‏الجهني. ‏وادَّعت القدرية أن عليّاً كان منهم وزعموا أن زعيمهم المعروف بمعبد الجهني . وادَّعت ‏القدرية أن عليّا ‏كان منهم وزعموا أن زعيمهم واصل بن عطاء الغزّال أخذ مذهبه من محمد وعبد الله ‏ابني علي رضي الله ‏عنه وهذا من بهتهم، ومن العجائب أن يكون ابنا علي قد علَّما واصلاً رَدَّ شهادة ‏علي وطلحة والشكَّ في ‏عدالة علي، أَفَتَراهما علَّماه إبطال شفاعة علي وشفاعة صهر المصطفى.‏ وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز وله رسالة بليغة في الرد على القدرية، ثم زيد ‏ابن ‏علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وله كتاب في الرد على القدرية، ثم الحسن البصري وقد ‏ادَّعَتْه ‏القدرية فكيف يصح لها هذه الدعوى مع رسالته إلى عمر بن عبد العزيز في ذم القدرية ومع ‏طرده واصلاً ‏عن مجلسه عند إظهاره بدعَتَهُ، ثم الشعبي وكان أشد الناس على القدرية، ثم الزهري وهو ‏الذي أفتى عبدَ ‏الملك بن مروان بدماء القدرية، ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق وله ‏كتاب في الرد على ‏القدرية وكتاب في الرد على الخوارج، وهو الذي قال “أرادت المعتزلة أن تُوَحّد ‏ربَّها فَألحَدَتْ وأرادت ‏التعديل فنسبت البخل إلى ربها“. وأول متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب ‏أبو حنيفة والشافعي فإن ‏أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سماه كتاب الفقه الأكبر، وقال ‏صاحبه أبو يوسف في المعتزلة: ‏إنهم زنادقة، وللشافعي كتابان في الكلام أحدهما في تصحيح النبوة ‏والرد على البراهمة والثاني في الرد على ‏أهل الأهواء، وذكر طرفاً من هذا النوع في كتاب “القياس” ‏وأشار فيه إلى رجوعه عن قبول شهادة ‏المعتزلة وأهل الأهواء.

ثم من بعد الشافعي تلامذته الجامعون ‏بين علم الفقه والكلام كالحارث بن أسد ‏المحاسبي وأبي علي الكرابيسي وحرملة البُوَيْطي وداود ‏الأصبهاني، وعلى كتاب الكرابيسي في المقالات ‏مُعَوَّلُ المتكلمين في معرفة مذاهب الخوارج وسائر ‏أهل الأهواء، وعلى كتبه في الشروط وفي علل الحديث ‏والجرح والتعديل مُعَوَّلُ الفقهاء وحفاظ ‏الحديث، وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه والحديث ‏مُعَوَّلُ متكلمي أصحابنا وفقهائهم ‏وصوفيتهم، وكان أبو العباس بن سُرَيج أنزع الجماعة في هذه العلوم.‏ ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي الذي دَمَّر على المعتزلة في مجلس ‏المأمون ‏وفضحهم ببيانه وءاثار بيانه في كتبه وهو أخو يحيى بن سعيد القطمان وارث علم الحديث ‏وصاحب ‏الجرح والتعديل، ومن تلامذة عبد الله بن سعيد عبد العزيز المكي الكتاني الذي فضح ‏المعتزلة في مجلس ‏المأمون، وتلميذه الحسين بن الفضل البجلي صاحب الكلام والأصول وصاحب ‏التفسير والتأويل وعلى ‏نكته في القرءان مُعَوَّلُ المفسرين وهو الذي استصحبه عبد الله بن طاهر والي ‏خراسان إلى خراسان فقال ‏الناس: إنه قد أخرج علم العراق كله إلى خراسان، ومن تلامذة عبد الله ‏بن سعيد أيضاً الجنيد شيخ ‏الصوفية وإمام الموحدين وله في التوحيد رسالة على شرط المتكلمين ‏وعبارة الصوفية، ثم بعدهم شيخ النظر ‏وإمام الآفاق في الجدل والتحقيق أبو الحسن علي ابن إسماعيل ‏الأشعري الذي صار شجاً في حلوق القدرية ‏والنجارية والجهمية والجسمية والخوارج وقد ملأ الدنيا ‏كتبه وما رُزِقَ أحد من المتكلمين من التَّبَع ما قد ‏رُزِقَ لأن جميع أهل الحديث وكل من لم يتمعزل من ‏أهل الرأي على مذهبه، ومن تلامذته المشهورين أبو ‏الحسن الباهلي وأبو عبد الله بن مجاهد وهمما ‏اللذان أَثْمَرا تلامذة هم إلى اليوم شموس الزمان وأئمة العصر ‏كأبي بكر محمد بن الطيب قاضي قضاة ‏العراق والجزيرة وفارس وكرمان وسائر حدود هذه النواحي، ‏وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك، ‏وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المهراني، وقبلهم أبو الحسن علي بن ‏مهدي الطبري صاحب الفقه ‏والكلام والأصول والأدب والنحو والحديث، ومن ءاثاره تلميذ مثل أبي ‏عبد الله الحسين بن محمد ‏البزازي صاحب الجدل والتصانيف في كل باب من الكلام، وقبل هذه الطبقة شيخ العلوم على الخصوص والعموم أبو علي الثقفي، وفي زمانه كان إمام أهل السنة أبو ‏‏العباس القلانسي الذي زادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتاباً، وتصانيف الثقفي ونقوضه ‏على ‏أهل‎ ‎الأهواء زائدةٌ على مائة كتاب. قال أبو منصور البغدادي: وقد أدركنا منهم في عصرنا أبا ‏عبد الله ‏بن مجاهد ومحمد بن الطيب قاضي القضاة و محمد ابن الحسين بن فورك إبراهيم بن محمد ‏المهراني والحسين ‏بن محمد البزازي، وعلى منوال هؤلاء الذين أدركناهم شيخنا وهو لإحياء الحق كل ‏وعلى أعدائه غلٌّ.‏ ذكرنا ذلك كله من كتاب أصول الدين، للبغدادي (19).‏ ‏

……………………………………………………………………………………..

(1) مناقب الشافعي (1/ 457).‏ ‏
(2) الأسماء و الصفات (ص/252)، تبيين كذب المفتري (ص/339-340).‏ ‏
(3) إتحاف السادة المتقين (2/ 13- 14).‏ ‏
(4) المشرق والمغرب.‏ ‏
(5) تشنيف المسامع (ص/ 395)، مخطوط.‏ ‏
(6) أبو بكر الإسماعيلي الذي مر ذكره أحد أكابر حفاظ الحديث له مستخرج على البخاري، ‏وأصحاب ‏المستخرجات متبحرون في حفظ الحديث.‏ ‏
(7) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، وابن ماجه في ‏سننه:كتاب ‏الفتن: باب السواد الأعظم، والحاكم في المستدرك (1/ 115 و 116)، وأحمد في ‏مسنده (6/396).‏ ‏
(8) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (ص/ 42).‏ ‏
(9) موافقة الخبر الخبر (1/ 115).‏
(10) مسند أحمد (1/ 379)، وانظر كشف الأستار (1/ 81).‏ ‏
(11) موافقة الخبر الخبر (1/ 115).‏ 
(12) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 449).‏
‏(13) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة الجنة: باب ما جاء في وصف أهل الجنة.‏
‏(14) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي ‏يَبْدَأُ ‏الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ{27} [سورة الروم].‏ ‏
(15) إتحاف السادة المتقين (2/ 94).‏ ‏
(16) شعب الإيمان (1/ 96).‏ ‏
(17) سير أعلام النبلاء (6/379-380).‏
‏(18) حلية الأولياء(3/124).‏ ‏
(19) أصول الدين (ص/307 وما بعدها).‏

أضف تعليق