بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمته
هو أبو عبد الله محمد بن إسمـٰعيل بن إبراهيم بن بَرْدِزْبَه، الجُعفي البخاري، ولد في مدينة بخارى يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة مائة وأربع وتسعين للهجرة، ونشأ يتيمًا في حجر أمه. وقد ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام، فقال لها: لقد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك.
أَحَبَّ العلم منذ صغره، فحفظ تصانيف ابن المبارك وهو صبي، وقرأ الكُتُب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا. وقد أعانه على ذلك أنه كان يقرأ تراجم الرواة ويستوفي أخبارهم ويتتبع أحوالهم ويعرف شيوخهم وتلاميذهم وطرق أسانيدهم.
وقبل أن يغادر بلده سمع جميع مروياتها من محمد بن سلام البيكندي وعبد الله بن محمد المسندي وإبراهيم بن الأشعث، ومحمد بن يوسف البيكندي وغيرهم، ثم قصد مكة مع أمه وأخيه راغبًا في التلقي والرواية، فبقي في الحجاز ستة أعوام يتلقى فيها الحديث، وتنقل في البلاد فدخل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، والكوفة وبغداد مرات عديدة، فتلقى الحديث من محدثي كل بلد دخل إليه، حتى بلغ عدد الرجال الذين روى عنهم ألفًا وثمانين رجلاً كلهم مُحَدّثون.
مناقبه
أورد الإمام التاج السبكي في طبقاته في معرض ترجمة إمام المُحَدثين أبي عبد الله البخاري، عن ابن عدي أنه قال: «سمعتُ عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فاجتمع أصحاب الحديث فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها بحيث جعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس وانتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من تلك العشرة، فقال: لا أعرفه، فسأله عن ءاخر فقال: لا أعرفه، حتى فرغ من العشرة، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ثم انتدب ءاخر ففعل كفعل الأول والبخاري يقول: لا أعرفه، فلما فرغ الرجال العشرة التفت إلى الأول فقال: أمّا حديثك الأول فإسناده كذا وكذا، والثاني كذا وكذا، والثالث… إلى ءاخر العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالثاني في مثل ذلك إلى أن فرغ، فأقر له الناس بالحفظ».
كان البخاري منذ صغره شديد الحافظة بحيث يحفظ الأحاديث وأسانيدها سماعًا، حَفظَ تصانيف ابن المبارك وقرأ الكُتُبَ المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة وإنما عُرفت عنه هذه الحافظة العجيبة منذ صغره، فمما يرويه السبكي في طبقاته عنه أنه قال: «أُلْهِمتُ حفظ الحديث في الكتّاب ولي عشر سنين أو أقل. وخرجت من الكُتَّاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما يقرأ على الناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يَرْوِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، فدخل ثم خرج فقال لي: كيف يا غلام قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأصلحه وقال: «صدقت» ولما سئل البخاري عن سنِّه ءانذاك قال: «كنت ابن إحدى عشرة سنة».
ومما يروى عن محمد بن أبي حاتم وَرَّاق البخاري أنه قال: «سمعت حامد بن إسمـٰعيل وءاخر يقولان: كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيامًا ، فكنا نقول له فقال: إنكما قد أكثرتما عليَّ فاعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها على ظهر قلب حتى جعلنا نُحْكِمُ كُتُبَنا من حفظه».
مشايخه
ولما كان عدد مشايخه أكثر من أن نحصره في هذا البحث، فإننا سنذكر أشهرهم، فقد سمع من: مكي بن إبراهيم البلخي، وعبدان بن عثمان المروزي، وعبيد الله ابن موسى العبسي، وأبي عاصم الشيباني، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي نعيم الفضل بن دكين، وأبي غسان الهندي، وسليمان بن حرب الواشجي، وأبي سلمة التبوذكي، وعفان بن مسلم، وعارم بن الفضل، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي معمر المنقري، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وأبي بكر الحميدي، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وأبي اليمان الحمصي، وأحمد بن حنبل، وإسمـٰعيل بن أبي أويس المديني، ويحيى بن معين، وخلق كثيرين غيرهم.
أقوال العلماء فيه
روي أن الإمام البخاري رأى نفسه في المنام واقفًا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده شىء يَذُبُ به عن رسول الله ولما سأل عن تأويل ذلك قال له بعض المعبرين : أنت تذّبُ الكذبَ عن رسول الله.
جاء في «تهذيب الأسماء واللغات» عن حاشد بن إسمـٰعيل أنه قال: «رأيت إسحـٰـق بن راهويه جالسًا على سرير ومحمد بن إسمـٰعيل معه، فأنكر عليه محمد شيئًا فرجع إسحـٰـق إلى قول محمد، وقال إسحـٰـق: يا معشر أصحاب الحديث، اكتبوا عن هذا الشاب، فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفهمه».
وجاء في «البداية والنهاية» عن ابن خزيمة أنه قال: «ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من البخاري».
وقال فيه إسحـٰـق بن زيرك: «سمعت في سنة سبع وأربعين ومائتين محمد بن إدريس الرازي أبا حاتم يقول: يقدم عليكم رجل من أهل خراسان لم يخرج منها أحفظ منه، ولا قدم العراق أعلم منه، فقدم علينا محمد بن إسمـٰعيل بعد أشهر».
ومما قاله الإمام المجتهد أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مدحه وبيان مرتبته: «انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسمـٰعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمـٰن السمرقندي، والحسين بن شجاع البلخي».
وجاء في طبقات السبكي عن محمد بن أبي حاتم وراق البخاري أنه قال: «سمعته يقول: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي بحديث فقلت: لا أعرفه، فسُرُّوا بذلك وساروا إلى عمرو بن علي فقالوا له: ذاكرنا محمد بن إسمـٰعيل بحديث فلم يعرفه، فقال عمرو: حديث لا يعرفه محمد بن إسمـٰعيل ليس بحديث».
وجاء أيضًا في طبقات السبكي عن أحمد بن حمدون قوله: «جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقَبَّل بين عينيه وقال: أُقَبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين ويا سيد المحدثين، ويا طبيب الحديث في علله».
وقال حاشد بن إسمـٰعيل: «كنت بالبصرة فسمعت قدوم محمد بن إسمـٰعيل، فلما قدم قال محمد بن يسار: دخل اليوم سيد الفقهاء».
وقد روي عن أبي سهل الشافعي أنه قال: «دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها، فكلما ذُكر محمد بن إسمـٰعيل فضلوه على أنفسهم».
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: «قلت لأبي: يا أبت ما الحفاظ قال: يا بُنيَّ شباب كانوا عندنا من أهل خراسان وقد تفرقوا، قلت: من هم يا أبت قال: محمد ابن إسمـٰعيل ذاك البخاري».
ومما قاله إبراهيم الخواص في البخاري: «رأيت أبا زرعة كالصبي جالسًا بين يدي محمد بن إسمـٰعيل يسأله عن علل الحديث».
مؤلفاته
لقد كان البخاري من أفذاذ العلماء الذين تركوا وراءهم المؤلفات العظيمة النافعة، وكان رضي الله عنه من أقدر الناس على التأليف وأمهرهم. وقد كثرت مؤلفاته التي نذكر أشهرها:
الجامع الصحيح: وهو المشهور بصحيح البخاري، الأدب المفرد: وهو من مؤلفاته القيمة، أسامي الصحابة، التاريخ: وهو كتاب جمع فيه الثقات والضعفاء من رواة الحديث. وهو ثلاثة كُتُب: كبير ووسط وصغير، التفسير الكبير، الجامع الكبير، خلق أفعال العباد، خير الكلام في القراءة خلف الإمام، كتاب الضعفاء والمتروكين، كتاب العلل في الحديث، كتاب الفوائد، القراءة خلف الإمام، قضايا الصحابة والتابعين، كتاب المبسوط في الحديث، المسند الكبير، كتاب الوحدان: وهو كتاب جمع فيه كل من ليس له إلا حديث واحد من الصحابة.
وفاته
توفي رحمه الله يوم السبت ليلة عيد الفطر من سنة ست وخمسين ومائتين للهجرة، عن عمر يناهز اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا. ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر بقرية «خَرْتَنْك»، وهي قرية من قرى سمرقند.
وقد روى ابن عُدَي عن عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي أنه قال: «جاء الإمام البخاري إلى خرتنك وكان له بها أقرباء ينزل عندهم، فسمعته ليلة وقد فرغ من صلاة الليل يقول في دعائه: اللهم ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى».
رحم الله الإمام البخاري وجزاه الله عنا خيرًا.