قال صلى الله عليه وسلم أنه: “من أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس بما يحبّ أن يؤتى إليه”.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين.
ورد بالإسناد المتصل في صحيح ابن حبان وكتاب الآداب للبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس بما يحبّ أن يؤتى إليه”.
هذا الحديث النبوي الشريف يخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من أراد النجاة من النّار والفوز بالجنّة فليعمل بهذه الأمور وهي الإيمان بالله واليوم الآخر أي ليستمر على الإيمان بالله واليوم الآخر وما يلزم مع ذلك من أمور الإيمان حتى يأتيه الموت، وليأت إلى الناس بما يحب أن يؤتى إليه وذلك بأن يعامل الناس بما يحب أن يعامله الناس به. الواحد منا يحب أن يعامله الناس بالصدق لا بالكذب، وبالأمانة لا بالخيانة والغش، يحب أن لا يكذبوه إذا حدّثوه بشىء، ويحب أن لا يغشوه وأن يعاملوه إذا أساء، كذلك ينبغي على أحدنا أن يعامل الناس بمثل ذلك نصدقهم في حديثنا معهم ونعاملهم بالأمانة والعفو والصفح إذا أساءوا إلينا.ولا يقل أحدنا “هم أساءوا إليّ فأنا أسيء إليهم”، بل ينبغي أن نعامل الناس بالإحسان فنكسر أنفسنا ونخالفها لأن نفس الإنسان تحب أن تكون هي العالية على الغير.
إنّ في تطبيق هذه الوصية الطيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعا كبيرا وخيرا عظيما ولكنّ أكثر الناس بعيدون من هذا الحديث لا يعملون به، ولو عملوا به لكانوا أولياء. أكثر النساء والرجال بعيدون من العمل بهذا الحديث وهم يحبون أن يعفو الناس عنهم ويحسنوا إليهم ويصدقوهم ولا يغشوهم ولا يخونوهم ولا يعاملوهم بالمكر والخديعة، أما هم إذا عاملوا الناس لا يعاملونهم بهذه الحال، قال الله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}(المطففين) والويل هو العذاب الشديد والمطففون هم الذين ينقصون في الكيل أو الوزن. قال ابن عباس: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى “ويل للمطففين“ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
“الذين إذا اكتالوا على الناس“ أي اكتالوا من الناس.
“يستوفون” أي استوفوا عليهم الكيل أي يستوفون منهم حقوقهم كاملةً.
“وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون“ أي إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصون. وفي حكم ذلك التطفيف في الذرع بأن يشد يده وقت البيع ويرخيها وقت الشراء.
إنّ الفائز السعيد الذي في آخرته سالم وناج هو الذي يلتزم بما قاله الله عزّ وجل وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون في الآخرة كالملوك، لأنّ مراتب الناس مختلف في الآخرة كما تختلف هنا، هناك أناس للنار والهوان والذل إلى ما لا نهاية له وهم الكفار، وهناك أناس من عصاة المسلمين الذين ماتوا بلا توبة يلحقهم بعض ما يلحق الكافرين من الذل والهوان كهؤلاء المتكبرين الجبابرة فإن الله يجعلهم في صورة الذّر أي النمل الأحمر الصغير يطؤهم الناس بأقدامهم ولا يموتون من ذلك، الله ينتقم منهم بالجزاء الذي هو موافق لعملهم في الدنيا، أليسوا كانوا في الدنيا يتكبرون على الناس وستعلون؟ فيجعلهم الله هناك تحت مواطيء الأقدام في صورة النمل الصغير بحجم يشبه حجم النمل الصغير ومع هذا لا يموتون لأنه بعد البعث لا موت، فالمستريح يوم القيامة لا يموت والذي هو مكتئب مهموم معذّبب لا يموت.
الذين يكونون تحت ظلّ العرش لا يصيبهم شىء من أذى حرّ الشمس ولا موت عليهم، والآخرون الذين يصيبهم أذى حرّ الشمس كذلك لا يموتون مهما اشتد عليهم حرّ الشمس ووصل عرقهم إلى ما وصل إليه، فبعضهم يصل العرق إلى أقدامهم وبعضهم على ركبهم، وبعضهم إلى أوساطهم أو أفواههم أو يغمرهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم” رواه البخاري.إنّ الذي يريد الفوز في الآخرة لا يطيع هواه بل يخالفه فإذا سبّه إنسان فليعف عنه ولا يقابله بالسب ولو كان يعلم فيه ما يسبّ به أو كان افترى عليه وسبّه بما ليس فيه، فلا يقل هذا سبّني بما ليس فيَّ فأنا كيف استكت، لأنتقمنّ منه” وإذا ترك الانتقام خير له عند الله، فها هو سيدنا زين العابدين رضي الله عنه ابن سيدنا الحسين الذي كان يقال له الّسجّاد كان من أجمل الناس خلقةً ومن أحسنهم خلقا وأسخاهم، وكان الناس من حسن حاله ومنظره يهابونه أكثر من الملوك، أهانه ذات يوم شخص في وجهه فسكت وما ردّ عليه فلما وجده لا يردّ عليه قال له: إياك أعني. فقال زين العابدين: وعنك أغضي. معناه أنا عمدا أسكت عنك لا أعاملك بالمثل، فتراجع ذلك الرجل في نفسه وندم على ما فعل قال في نفسه “أنا عاملته بالشتم والإهانة وهو ما قابلني بالمثل بل أغضى عني“.
هكذا ينبغي أن يكون المؤمن يعامل الناس بالعفو والصفح وإن كان جائزا الردّ بالمثل. إذا سبّك إنسان يجوز أن ترد له بالمثل بدون تعدّ، أما أن تضرب إنسانا سبّ: بدل أن تسبه فهذا حرام، وكذلك لا يجوز إن سبك بما فيك أن تسبه بما ليس فيه.
إنّ الكمال في الدين يقتضي من المسلم العفوَ والصفح وعدم مقابلة المسبة بالمسبة والضرب بالضرب ويقتضي أن يعامل الناس بما يحب هو أن يعامله الناس به فلا يخونهم ولا يغشهم ولا يكذب عليهم ولا يمكر بهم ولا يخدعهم.