العقيدة والتوحيد

الدليل العقلي على وجود الله تعالى

الدليل العقلي على وجود الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ وصلَّى اللهُ وسَلَّم على سيدِ المرسلينَ وإمامِ المتقينَ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى جَميعِ إخوانِهِ من النبيين والمرسلينَ وعلى ءَالِهِ وصحبه الطيبينَ
.ا

ا1ا إِثْبَاتُ أَنَّ الْعَالَمَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْدَثٌ إِذْ هُوَ أَعْيَانٌ وَأَعْرَاضٌ: والْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِذَاتِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وَهُوَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمينَ اسْمٌ لِلصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْجَوْهَرِ كَالأَلْوَانِ وَالْطُّعُومِ وَالْرَّوَائِحِ وَالأَصْوَاتِ وَالْقُدَرِ وَالإرَادَاتِ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ نَيِّفٍ وَثَلاثِينَ نَوْعًا، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْعَالَمِ. وَالنَّوْعُ الآخَرُ الْجَوْهَرُ وَيُقَالُ لَهُ الْعَيْنُ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِالْذَّاتِ الْقَابِلُ لِلْمُتَضَادَّاتِ.وَمْعْنَى الْقَائِمِ بِالْذَّاتِ أَيْ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَصِحُّ وُجُودُهُ لا في مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ سَواءٌ كَانَ مُرَكَّبًا أَوْ غَيْرَ مُرَكَّبٍ بِخِلافِ الْعَرَضِ فَإِنَّهُ يَسْتَحيلُ وُجُودُهُ لا في مَحَلٍّ إِذْ عُرِفَ بِبَدِيهِ الْعَقْلِ اسْتِحَالَةُ وُجُودِ حَرَكَةٍ غَيْرِ قَائِمَةٍ بِمُتَحَرِّكٍ. ا
وَالأَعْرَاض حَادِثَةٌ بِدَليلِ التَّعَاقُبِ
: لأَنَّ الأَعْرَاضَ صِفَاتٌ مُتَعَاقِبَاتٌ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرْودَةِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالاتِّصَالِ وَالانْفِصَالِ، وَكِبَرِ الْحَجْمِ وَصِغَرِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَبِحُدُوثِ أَحَدِهِمَا يُعْدَمُ الآخَرُ، فَمَا مِنْ سَاكِنٍ إِلا وَالْعَقْلُ قَاضٍ بِجَوَازِ حَرَكَتِهِ وَمَا مِنْ مُتَحَرِّكٍ إِلا وَالْعَقْلُ قَاضٍ بِجَوَازِ سُكُونِهِ، فَالطَّارِئُ مِنْهُمَا حَادِثٌ بِطَرَيَانِهِ وَالسَّابِقُ حَادِثٌ بِانْعِدَامِهِ، لأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ قِدَمُهُ لاسْتَحَالَ عَدَمُهُ، وَهَذَا الْمِثَالُ يَنْطَبِقُ عَلَى بَاقِي الأَعْرَاضِ فَثَبَتَ أَنَّهَا حَادِثَةٌ
. وَالأعيانَ حَادِثَةٌ بِدَليلِ أَنَّهَا مُلازِمَةٌ لِلأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ وَمَا لا يَخْلُو عَنِ الْحَادِثِ حَادِثٌ، فَالأَعْيَانَ لا تَخْلُو عَنِ الأَعْرَاضِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ مُدْرَكَةٌ بِالْبَدِيهَةِ. وَبِدَليلِ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً لأَدَّى ذَلِكَ إِلى التَّسَلْسُلِ أَوِ الدَّوْرِ وَكِلاهُمَا مُحَالٌ. ا


فَالتَّسَلْسُلُ هُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ شَىْءٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ إِلى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهَذَا مُحَالٌ، لأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الأَعْيَانُ حَادِثَةً لَكَانَ قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ حَوَادِثُ لا أَوَّلَ لَهَا وَهُوَ مُحَالٌ، لأَنَّ وُجُودَ حَوَادِثَ لا أوَّلَ لَهَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ، لأَنَّ انْقِضَاءَ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مُحَالٌ وَوُجُودُ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِحَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا
. وَأَهْلُ الْحَقِّ مَثَّلُوا في الرَّدِ عَلَى ذَلِكَ بِمُلْتَزِمٍ قَالَ لا أُعْطِي فُلانًا في الْيَوْمِ الْفُلانِيِّ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَهُ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَلا أُعْطِيهِ دِرْهَمًا قَبْلَهُ حَتَّى أُعْطِيَهُ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَهَكَذَا لا إِلى أَوَّلَ
.ا

فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِعْطَاءَ الدِّرْهَمِ الْمَوْعُودِ بِهِ في الْيَوْمِ الْفُلانِيِّ مُحَالٌ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُحَالٍ، وَهُوَ فَرَاغُ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ بِالإعْطَاءِ شَيْئًا بَعْدَ شَىْءٍ، وَلا رَيْبَ أَنَّ ادِّعَاءَ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمِثَالِ. وَأَمَّا الدَّوْرُ هُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ الْشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وَجُودُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ وُجُودُ زَيْدٍ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ عَمْرٍو لَكِنْ وُجُودُ عَمْرٍو مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ زَيْدٍ، وَهَذَا مُحَالٌ لأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الشَّىْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ وُجُودِهِ عَلَى سَبْقِ وُجُودِ غَيْرِهِ الْمُسْبُوقِ بِوُجُودِهِ هُوَ، فَيَكُونُ سَابِقًا لِنَفْسِهِ بِهَذَا الاعْتِبَارِ، وَتَأَخُّرُهُ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ وُجُودِهِ عَنْ وُجُودِ غَيْرِهِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ وُجُودِهِ هُوَ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ نَفْسِهِ بِهَذَا الاعْتِبَارِ.ا

ا2ا إِثْبَاتُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ خَلَقَ نَفْسَهُ: لأَنَّ في ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، لأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ “خَلَقَ زَيْدٌ نَفْسَهُ” جَعَلْتَهُ قَبْلَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارٍ وَمُتَأَخِّرًا عَنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارٍ،ا فَبِاعْتِبَارِ خَالِقِيَّتِهِ جَعَلْتَهُ مُتَقَدِّمًا وَبِاعْتِبَارِ مَخْلُوقِيَّتِهِ جَعَلْتَهُ مُتَأَخِّرًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلاً.ا

ا3اا إِثْبَاتُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ وُجِدَ صُدْفَةً: لأَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُ وُجُودَ شَىْءٍ مَا بِدُونِ فَاعِلٍ، لأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ مُحَالٌ، وَهُوَ تَرَجُّحُ وُجُودِ الْجَائِزِ عَلَى عَدَمِهِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ لأَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ عَقْلاً، فَلا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلى مُقَابِلِهِ إِلا بِمُرَجِّحٍ، وَهَذَا الْمُرَجِّحُ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طِبيعَةً لأَنَّ الطَّبِيعَةَ لا إِرَادَةَ لَهَا وَلا اخْتِيَارٌ فَكَيْفَ تُرَجِّحُ شَيْئًا بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ أَوِ بِالْعَدَمِ بَدَلَ الْوُجُودِ.ا

ا4ا إِثْبَاتُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ أَوْجَدَتْهُ الطَّبِيعَةُ: لأَنَّ الطَّبِيعَةَ لا إِرَادَةَ لَهَا وَلا اخْتِيارٌ، فَلا يَتَأَتَّى مِنْهَا تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ. وَأَمَّا الطَّبَائِعِيُّونَ فَيَقُولُونَ الطَّبِيعَةُ لا تَفْعَلُ في الْجِسْمِ إِلا فِعْلاً وَاحِدًا، يَقُولُونَ طِبِيعَةُ الْجِسْمِ الْسُّقُوطُ مِنْ فَوْقٍ إِلى تَحْتٍ، مَعْنَاهُ إِذَا تُرِكَ الْجِسْمُ سَقَطَ، ايَقُولُونَ طَبِيعَةُ النَّارِ الإحْرَاقُ، مَعْنَاهُ إِذَا وُضِعَ فِيهَا شَىْءٌ احْتَرَقَ، وَهَكَذَا. لَكِنْ كُلُّنَا يَرَى أَنَّ هُنَاكَ أَشْيَاءَ تَجْرِي حَوْلَنَا عَلَى خِلافِ ذَلِكَ، فَالْشَجَرَةُ الْوَاحِدَةُ مثلاً قَدْ تَتَغَذَّى مِنْ نَفْسِ التُّرْبَةِ وَمِنْ نَفْسِ الْمَاءِ وَتَتَعَرَّضُ لِنَفْسِ الْهَوَاءِ وَلِنَفْسِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا ثِمَارٌ بِطُعُومٍ وَرَوَائِحَ وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا لا يَكُونُ إِلا بِفِعْلِ فَاعِلٍ بِالاخْتِيَارِ، الأَنَّهَا شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَخَرَجَ مِنْهَا ثِمَارٌ بِصَفَاتٍ شَتَّى، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى {وفي الأرض قطع متجاورات وجنّت من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأُكُل}[الرَّعْد].ا

ا5ا إِثْبَاتُ أَنَّهُ لا بُدَّ أَنَّ يَكُونَ مُحْدِثُ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا: لأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ فَيَفْتَقِرُ إِلى مُحْدِثٍ، فَيَلْزَمُ الْدَّوْرُ أَوِ الْتَّسَلْسُلُ وُكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ كَمَا بَيَّنَّا. ا


فَتَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الأَعْيَانَ حَادِثَةٌ وَالأَعْرَاضَ حَادِثَةٌ وَالْعَالَمُ مُنْحَصِرٌ فِيهِمَا فَهُوَ حَادِثٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّسَلْسُلَ بَاطِلٌ وَأَنَّ الدَّوْرَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ لَهُ بِدَايَةٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ إِنَّ الْعَالَمَ خَلَقَ نَفْسَهُ أَوْ وُجِدَ صُدْفَةً أَوْ بِفِعْلِ طَبِيعَةٍ بَاطِلٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثُ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا لأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَادِثًا لاحْتَاجَ إلى مُحْدِثٍ وَلَوْ احْتَاجَ إِلى مُحْدِثٍ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا وَلَلَزِمَ الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ وُجِدَ بِإيْجَادِ شَاءٍ مُخْتَارٍ عَالِمٍ أَزَلِيٍّ لا يُشْبِهُ الْعَالَمَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَهُوَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى،
ا اوَأَمَّا اسْمُهُ تعالى فَقَدْ عَرَفْنَاهُ بِطَريقِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُم اللهُ تَعَالى لِيُبَلِّغُوا النَّاسَ مَصَالِحَ دِينِهِم وَدُنْيَاهُمْ.ا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *