إنَّ اللهَ يُحِبُّ الأتقياءَ الأخفياءَ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وبعد،

يقولُ اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ: { ألا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهِم ولا هُمْ يحزَنونَ الذينَ ءامنوا وكانوا يتَّقونَ لهُم البُشْرَى في الحياةِ الدنيا وفي الآخِرةِ لا تبديلَ لكلماتِ اللهِ ذلكَ هوَ الفَوزُ العظيمُ }.

نبذة عن الموضوع باختصار:

روى الحاكمُ في كتابِ المستدركِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قالَ: “إنَّ اللهَ يُحِبُّ الأتقياءَ الأخفياءَ الذينَ إذا غابوا لم يُفتَقَدوا وإذا حَضَرُوا لم يُعْرَفُوا قلوبُهم مصابيحُ الهدى يَخرجونَ من كلِّ غبراءَ مُظلمةٍ”.

هذا الحديثُ فيه بيانُ صفةِ الأولياءِ، وفيهِ بيانُ أنَّ أكثرَهم لا يُعرفونَ، لا يُميزونَ فيما بينَ الناسِ، ثم الرسولُ عليه السلامُ وصفَهم بهذه الصفاتِ وهي أنهم أخفياءُ، أي لا يعرفونَ بما هم عليهِ من علوِّ الدرجةِ عندَ اللهِ، وذلك لأنَّهم يُخفونَ أعمالَهم الصالحةَ التي يعملونَها زُلفى وقربةً إلى اللهِ خوفًا من أنْ يُفتنوا لأنَّ الأولياءَ يَخافونَ على أنفسِهم، يتهمونَ أنفسَهم بالرياءِ ولو لم يكن فيهم رياءٌ، لكن من شدةِ الخوفِ وشدةِ مراقبةِ النفسِ يخافونَ أنه دخلَ عليهم رياءٌ، ويخافونَ أيضًا من أنْ يدخلَهم العجبُ إذا عرفوا بينَ الناسِ بما فيهم من الأعمالِ الحميدةِ .

الموضوع كامل بالتفصيل:

من هم الأولياء

الولِيُّ هوَ مَنْ التزَمَ بالطاعَةِ والعبادةِ واجتَنَبَ المعاصِيَ والمحرَّماتِ وأعرَضَ عَنِ الانهِماكِ في الملذَّاتِ والشهواتِ ثم بعدَ الفرائضِ تقرَّبَ إلى اللهِ تعالى بالنوافِلِ حتى يُحِبَّهُ اللهُ تعالى ومَنْ أحبَّهُ اللهُ تعالى أعطاهُ الولايةَ فتولاَّهُ بالحفظِ والرِّعايةِ والكَرَامةِ وعصَمَهُ مِنَ الكُفرِ. وقد وَصَفَهُم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيثُ قالَ :” إنَّ اللهَ يحبُّ الأتقياءَ الأخفياءَ الذينَ إذا غابوا لم يُفْتَقَدُوا وإذا حَضَروا لم يُعْرَفوا، قلوبُهُم مصابيحُ الهدى يخرجونَ مِن كلِّ غَبْراء مظلمةٍ“، وصفهُم بأنهم أخفياءُ أيّ لا يُعْرَفونَ بما هُم عليهِ مِنْ عُلُوِّ الدرجَةِ عندَ اللهِ، وذلكَ لأنهم يخفونَ أعمالَهُم الصالحةَ الحميدَةَ التي يعمَلوها قُرْبَةً إلى اللهِ تعالى، ووصفَهُم بأنَّهُم إذا حضَروا لم يُعْرَفُوا إمَّا لرثاثةِ هيئتِهِم. فمظهَرُهُم مِن حيثُ اللباس غيرُ معجِبٍ و إمَّا لفقرِهِم فهذا أويسُ بنُ عامرٍ القرنِيّ الذي شهدَ له رسولُ اللهِ مِنْ طريقِ الوَحْيِ بأنَّهُ أفضَلُ التابعينَ كانَ شديدَ الفَقْرِ كانَ رضيَ اللهُ عنهُ لم يشهدْ مجلِسَ رسولِ اللهِ، كانَ باليَمَنِ ما تمكَّنَ مِنْ شدَّةِ فقرِهِ مِنْ أن يأتيَ إلى المدينةِ ليَلْقى رسولَ اللهِ فالنبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَهِدَ لهُ قالَ : ” إنَّ خيرَ التابعينَ رَجُلٌ يقالُ لهُ أويسُ بنُ عامِرٍ من مراد ثمَّ مِن قَرَنٍ” إلى أن قالَ “فإذا لَقَيتُموهُ فمروهُ فليستغفِرْ لَكُم“. وفي هذا تعليمٌ لأمتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحضٌّ وحثٌّ أكيدٌ للتواضُعِ.

ثم قِسمٌ مِنَ الأولياءِ اللهُ أعطاهُم حظاً من الشهرةِ شُهِروا بينَ الناسِ بالولايةِ فعرِفَهُمُ القريبُ والبعيدُ فَكَثُرَ الانتفاعُ بهِم وذلكَ كسَيِّدِنا الجنيدِ بنِ محمدٍ البغداديِّ شيخِ الصوفيةِ ثم الشيخِ عبدِ القادِرِ الجِيْلانيِّ الحنبليّ والشيخِ أحمدُ الرفاعيِّ رَضيَ اللهُ عنهُ.

والقرءانُ أثبتَ الكراماتِ للأولياءِ في قولِ اللهِ سبحانَهُ في صِفَةِ مَرْيَمَ عليها السلامُ : { كُلَّما دخَلَ عليها زكريا المحرابَ وَجَدَ عندَها رِزْقاً قالَ يا مريَمَ أنَّى لكِ هذا قالَتْ هوَ مِن عندِ اللهِ إنَّ اللهَ يرزُقُ مَنْ يشاءُ بغيرِ حِسَابٍ }، وكذلكَ ما نصَّ القرءانُ عليهِ في قصةِ صَاحبِ سليمانَ عليه السلامُ عنِ المجيءِ بعرشِ بَلْقيسَ حيثُ وردَ ذلكَ في قولِهِ تعالى : { قالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الكتابِ انا ءَاتِيكَ بهِ قبلَ أن يرتَدَّ إليكَ طَرْفُكَ }.

أمَّا الأدلةُ مِنَ السُنَّةِ فكثيرةٌ : فعن أنسٍ أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ ورَجُلاً منَ الأنصارِ تحدَّثا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى ذهبَ منَ الليلِ ساعةٌ في ليلةٍ شديدةِ الظلمَةِ ثم خرجا وبيدِ كلٍ منهُما عصاهُ فأضاءَتْ عَصَا أحَدِهِما حتى مَشَيا في ضوئِها حتَى إذا افترَقَت بهما الطريقُ أضاءَتْ عَصَا الآخرِ فمشَى كلٌّ مِنهُما في ضوءِ عَصَاهُ حتى بلَغَ أهلَهُ. رَوَاهُ أحمدُ والبخاريُّ والحاكِمُ وغيرُهُ، وحُكِيَ أنَّ الجُنَيْدَ قعدَ يتكلَّمُ في الناسِ فوقَفَ عليهِ غلامٌ ليسَ بمسْلِمٍ متنكِراًَ وقالَ لهُ أيُّها الشيخُ ما معنى قولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم “ اتَّقوا فرَاسَةَ المؤمنِ فإنَّ المؤمِنَ ينظُرُ بِنورِ اللهِ تعالى” قالَ فأطرَقَ الجنيدُ ثم رَفَعَ رأسَهُ وقالَ أسْلِمْ فقدْ حانَ وَقتُ إسلامِكَ، فأسلَمَ الغُلامُ قالَ أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وأشهَدُ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ.

أمَّا امتيازُهُم عندَ الموتِ فإنَّ ملائكَةَ الرحمةِ يأتونَهُم هوَ يُشاهِدُهُم فيجلِسونَ مِنهُ على مسافةٍ ثم يأتي عزرائيلُ فيبشرُهُ برحمةِ اللهِ ورِضوانِهِ فيقولُ أبشِرْ بِرَحمةِ اللهِ ورِضْوانِهِ، ثم يومُ القيامةِ لا يحصُلُ له أدنى خوفٍ ولا أدنى فزَعٍ حينَ يفزَعُ الناسُ لا يتأذَّى بحرِّ الشمسِ، الشمسُ يومَ القيامةِ أشدُّ حرَّاً منها اليومَ لا يصيبُهُ ظَمَأٌ ولا جوعٌ ولا حرارَةُ شمسٍ لا يصيبُهُ أدْنى نكَدٍ بل ممتلئٌ سروراً وفرحاً ثم هو حينَ يخرُجُ من قبرِهِ يخرجُ لابِساً لا يخرُجُ مكشوفَ العورَةِ كأغلبِ الناسِ، ولا يُحشَرُ ماشِياً على قدَمَيهِ، لا بل يُحشَرُ راكِباً. ماذا يركَبونَ هؤلاءِ الأتقياءُ؟ يركَبونَ نوقاًَ لم يرَ الخلائقُ مِثلَها عليها رحائلُ الذهبِ ثم يدخلونَ الجنَّةَ ثم بعدَ أن يدخلوا الجنَّةَ يجدونَ ما أحصى اللهُ لهُم منَ النعيمِ الذي لم يُطْلِعْ عليهِ مَلَكاً ولا رَءاهُ خلقٌ مِن خلقِ اللهِ، فالملائكةُ هم يستقبلونَ أهلَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ يُسَلِّمونَ عليهِم وسلامٌ عليكم طِبتُم، يستقبلونَهُم بالاحترام والتعظيمِ. إخواني قد صَدَقَ مَن قَالَ :

للَّهِ قـومٌ إذا حَلُّـوا بمنـزِلـةٍ

حلَّ السرورُ وسارَ الجودُ إن ساروا

تَحيَا بِهِم كلُّ أرضٍ ينزلونَ بِهـا

كـأنَّهُم لِبِقـاعِ الأرضِ أمطـَارُ

فهنيئاً لمَن عَرَفَ في هذا الزمانِ عالماً ولياً صالحاً وانتهَلَ منهُ منَ الخيراتِ والبرَكاتِ عَرَفَ قدرَهُ وتأدَّبَ معهُ واقتدى به لأنَّ أولياءَ اللهِ وصلوا إلى ما وصلوا إليهِ بصِدْقِ محبَّتِهِم للهِ ولرسولِ الله محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

اللَّهُمَّ اجْعَلنا من أوليائِكَ وأهلِ طاعاتِكَ وعَطِّفْ قلوبَ أوليائِكَ علينا إنَّكَ على كلِّ شىء قديرٌ.

وسبحان الله والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق