وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد، فقد قال الله تعالى عوَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾ القرءان حَثَّنَا على مخالفة الهوى، الهوى ما تميل إليه النفس، النفس مجبولة على حب أشياء حب الشهوات كالأكل والشرب وغير ذلك وعلى حب التعالي وعلى حب الترفُّع، وهذا أمر مذموم عند الله، ثم فيه ضرر على الشخص، يَضُرُّه في دينه.

مخالفة النفس أمر مهم، قال بعض الأولياء ومن الصوفية: أَعْدَى أَعْدَائِك نَفسُك التي بين يَدَيْكَ. معناه ليس عدوَّ الإنسان الشيطانُ فقط، نَفْسُه أيضًا عَدُوُّه لأنَّهُ إِنْ أطاعها في هواها تُهْلِكه، وذلك يساعد الشيطانَ على الشخص. ورأى بعض الأولياء وَلِيًّا ءاخَرَ مُتَرَبِعًا في الهواء فقال: بِمَ وَصَلْتَ إلى هذه المرتبة؟ قال: بِمُخَالَفَتِي نَفْسِي.

فعليكم بمخالفة النفس مع الالتزام بسُنَّة رسول الله أي شريعَتِه، العقيدةِ والأَعمالِ. والعقيدة هي رأس العَمَل، لأنَّ الأعمال لا تُقْبَل عند الله إلا مع صحة العقيدة، فلا ينفع شىء من الأعمال مع فساد العقيدة، العقيدة التي أَمَرَ اللهُ بها عبادَه وأَمَرَهُم بها نَبِيُّهُم هي عقيدة الصحابة التي هي عقيدة الرسول، فمن كان على عقيدة الصحابة فهو على هدى.
عقيدة الصحابة لا تنقطع إلى يوم القيامة.

اليومَ عقيدة الصحابة يَحْمِلُها فرقتان وهما أهل السنة: الأشاعرةُ والماتريديةُ، ما سوى هاتين الفرقتين مخالف للصحابة.

الأشاعرةُ نِسبَة إلى أبي الحسن الأشعري الذي كان في القرن الثالث الهجري وتوفي في أوائل القرن الرابع من الهجرة، أما الماتريدية فهم أتباع أبي منصور الماتريدي وهو أيضًا كان من أهل القرن الثالث الهجري وتوفي في أوائل القرن الرابع. هذان من السلف،

لأن السلف: من عاش في القرن الأول أو الثاني أو الثالث، هؤلاء يقال لهم السلف.

أما من جاء بعد ذلك يقال لهم الخَلَف. الأئمة الأربعة من السلف، أبو حنيفة ولد سنة ثمانين من الهجرة، ثم بعده مالك، ثم الشافعي، ثم أحمد بن حنبل. الشافعي ولد سنة مائة وخمسين وتوفي سنة مائتين وأربع. كل هؤلاء ومَن سِوَاهم من علماء السلف عقيدتُهم تنزيهُ الله عن الجهة والمكان، لأَنَّ الذي يكون في جهة ومكان جِسمٌ، إما كَثِيفٌ وإما لَطِيفٌ.

النُّور له مكان والظلام له مكان، والمكان من جُمْلة المخلوقات لأنه ما كان في الأَزَل إِلا اللهُ، والدليل على ذلك الآيةُ: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ معناه الذي كان موجودًا قبل كل شىء بلا ابتداء. وجودُه تبارك وتعالى ليس له ابتداءٌ، أما وجودُ غَيْرِه فله ابتداء. ثم شَرَحَ كَلِمةَ “الأَوَّل” التي وردت في القرءان الرسولُ بِقَوله: “كان الله ولم يكن شىء غيره” معناه قبل المكان وقبل الزمان اللهُ موجودٌ، وأَنَّ كُلَّ شىء سوى اللهِ حادِثٌ،

ثم بَيَّنَ الرسول أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ، أَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ مِن العَدَمِ مِن المخلوقات فقال: “كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء” معنى كان الله أي اللهُ موجود قبل كل شىء سواهُ، وقوله “وكان عرشه على الماء” معناه أنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ المَاءُ وَالعَرْشُ،

ثُمَّ فِي القرءان الكريم ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ﴾ هذا يُفْهَمُ منه أنَّ العرش خُلِقَ مِنَ المَاء، ثم كان موضوعًا على الماء.

العرش إلى الآنَ مَوضُوعٌ عَلَى الماء، وأصلُ المَطَر مِن ذَلِك الماءِ. وَوَرَد عن رسول الله حديثٌ صحيحٌ يُصَرِّحُ بِأَوَّلِيَّةِ الماء أي أَنَّ الماء قبل كل شىء (مِنَ المخلوقاتِ)، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله، إِنِّي إِذَا رأيتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَن كُلِّ شَىء قال: “إن الله تعالى خلق كُلَّ شىء من الماء” هذا الحديث صَرِيحٌ بِأَنَّ كُلَّ شىء العرشَ وما سواه خُلِقَ من الماء،

وهناك أناسٌ يَقولون ما يُخَالِفُ هذا الحديثَ الصحيحَ، يقولون: “أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُوْرُ مُحَمَّدٍ” وهذا كَذِب. يُرْوَى حديث لا صِحَّةَ لَهُ: “أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورُ نَبِيِّك يَا جَابِرُ” هذا ليس له إسناد صحيح، بل إسنادٌ مُرَكَّبٌ مُفْتَعَلٌ (مكذوبٌ)، وَأَخَذ بِهَذا الحديثِ أُناسٌ كَثِيرٌ يَظُنُّون أنَّهُ مَدْحٌ بَلِيغ لِلرَّسُول، وليس كذلك، الأَوَّلِيَّة في الخلق لا تَقْتَضِي الأفضليةَ. إِبليسُ خُلِقَ قبل ءَادَمَ، وإبليس أَخْبَثُ المَخْلُوْقَاتِ.
فعليكم بالعناية بالتوحيد ثم بإخلاص العَمَلِ لله ومُخالَفَةِ الهَوَى، فعقيدةُ السَّلَفِ هِيَ أنَّ الله تعالى موجودٌ بلا مكانٍ.

يوجد كتاب لِعَالِمٍ حَنْبَلِيٍّ يُسَمَّى مُختصرَ الإفاداتِ، مُؤلِّفُه من أهلِ دِمَشقَ، كان من أهل القرن الحادي عشر الهجريِّ، يقول إِنَّ الَّذِي يَقُول: اللهُ بِكُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ كَافِرٌ، والذي يقول: في مكانٍ واحِدٍ كَذَلِكَ كَافِرٌ.

العِلمُ بالتَّعَلُّم لَيْسَ بِالنَّسَبِ. رأيتُ رَجُلًا مِن أهل بِلادِنا جَدُّهُ كان من الأولياء الكِبار، وَجَدُّ جَدِّهِ مِن الأولياء الكِبار، ثُمَّ هُوَ طَلَعَ يَعتقد أن الله بِذَاتِه في كلِ مَكان، مَا نَفَعَهُ كَوْنُ جَدِّه وَجَدُّ جَدِّه وَلِيَّيْنِ، هو طَلَعَ جَاهِلاً بِخَالِقِهِ، صَارَ يَعْتَقِدُ أنَّ الله بذاته في كل مكان. فِي حياة أَبِيْهِ، أَبُوه كان مِنَ الطَّيِّبِيْنَ، لَكِن هُوَ مَا تَعَلَّمَ. جَدُّ جَدِّهِ كَان مِن جملة كراماتِهِ أَنَّهُ قَال قبل وَفاتِه: كَانَ فِيما مَضَى يَزُورُنِي في كلِ عام مَلَكَانِ، وهذا العام زَارَنِي أَربعةٌ، وَلَعَلَّ وَفَاتِي قَرُبَتْ، فمات في تلك السَنَة. هذا الذي جَدُّهُ وَجَدُّ جَدِّهِ هَكَذَا طَلَعَ جَاهِلاً بِخَالِقِهِ.
القَوْلُ بِأَنَّ الله في السَّمَاءِ عقيدةُ اليهود والنصارى، ليست عقيدةَ الإسلام، هذه عقيدة مشتَرَكَةٌ بَين طوائِفَ مِن الكُفَّار مَعَهُم.

ثُمَّ يُمَوِّهُون على الناس بإيراد حديث لَا يَجُوز تَفْسِيرُه على الظاهر لأنه يُخَالِفُ حَدِيثًا رواه خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الصحابة عن رسول اللهِ.

رَوَى خَمسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًا عن رسول الله أي سَمِعُوه يَقُولُ: “أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يَشْهَدُوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله” هذَا الحَدِيْثُ مِثْلُ القُرْءَانِ (فِي الاحتجاجِ بهِ)، الحَدِيث إِذَا رَوَاهُ عَشَرَةٌ وَمَا فَوْقُ عَن رَسول الله هَذَا الحَديث مِثلُ القُرْءَان،

أَيُّ حَدِيثٍ يُخَالِفُه لا يُؤْخَذُ به. يُشَكِّكُون بِإيراد حديثِ أَنَّ الرَّسُوْلَ قال لِجَاريةٍ: “أين اللهُ؟” قالت: فِي السَّماء، قال: “مَن أَنَا؟” قالَتْ: رَسُول الله”، قال لِصَاحِبِهَا: “أَعْتِقْهَا فإِنَّهَا مُؤمنة”. هَذَا الحَدِيث لا يجوز الأخذُ بِظَاهِرِه، مَن أَخَذَ بِظَاهره فاعْتَقَدَ أَنَّ اللهَ مُتَحَيِّزٌ فِي السَّماء كَفَرَ.

وَهَذَا الحَدِيث رواه مُسْلِم وابنُ حبان، لَكِنَّ أهلَ السُّنَّة لا يَحْمِلُونه على الظاهر، ومَن حَمَلَهُ على الظاهر كَفَرَ لِأَنَّ هذه عقيدةُ طوائِفَ مِن المُشْرِكين. حَتَّى الذين كانوا في زمن الرسول، قبل أن يَنْزِلَ عليه الوَحْيُ، العَرَبُ كانوا يقولون: “الله في السماء لَكِن نَحنُ نَعْبُد هذه الأوثانَ لِتُقَرِّبَنَا إلى الله”، حتى أولئك كانَ اعتِقادُهُم أنَّ الله ساكِنٌ فِي السماء، وكان منهم مَن يَعْبُد نَجْمًا يُقَالُ لَهُ الشِّعْرَىْ، وكان منهم مَن كان يَعْبُدُ بَعْضَ الشَّجَر لِأَنَّ الشيطانَ يَسْكُنُها.
هؤلاءِ الوَهَّابِيَّةُ عَقِيدتهم لا شىءَ، مِثلُ أولئك (المشركين)، وَلَو كانوا يَصُومون ويُصَلُّون ويَقْرَأُون القُرْءَانَ، لَكِن في العقيدة عَقِيدَتُهم كهؤلاء فاحْذَرُوهم.

بعضُ عُلَمَاء السُّنَّة قال: يَعْنِي “أَيْنَ اللهُ” مَا اعْتِقَادُكِ في تعظيمِ الله، وَقَولُها: “فِي السَّمَاء” أي عَالِي القَدْرِ جِدًّا، يَقُولون لَيْسَ قَوْلُه: “أَيْنَ اللهُ” سُؤَالًا عن المكانِ، إِنَّما سؤالٌ عَن تَعْظِيْمِهَا للهِ، وقوله علَيْهِ السَّلَامُ: “فَإِنَّهَا مؤمنة” ليسَ لِمُجَرَّدِ قَوْلِها اللهُ في السَّمَاءِ، بل علَى أَنَّهَا كانت مُعْتَقِدَةً العَقِيْدَةَ الحَقْةَ قَبْلَ ذَلِكَ، هي كانت أَعْجَمِيَّةً لِوَاحد من الصحابة، مَا تَسْتَطِيع أن تُعَبِّرَ عَن مُرَادِها بعباراتٍ صحيحةٍ.
(الوَهَّابِيَّةُ) يَدُورُون بِهَذا الحديثِ، يَقُولون: مَاذا تقولُ في حَدِيث الجارية؟ حَتَّى يُوَافِقَهُم بِقَول: “الله في السَّماءِ”، شَرُّهُم كَبِير.

حَدِيث الجارية رَوَاهُ شخص واحِدٌ اسمُهُ مُعَاويةُ بنُ الحَكَم. وَيُوجَدُ حديثٌ ءاخَرُ ظَاهِرُهُ يُوافِقُ مَذهبَ أهل السُّنَّة، وَهُو أَنَّ صَحابِيًّا اسمُه سُوَيْدُ بنُ الشَّرِيد قال: قال رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلم لِجَارِيَةٍ: “مَن رَبُّكِ؟” قالت: الله، قال: “مَن أنا؟” قالت: أنتَ رسولُ اللهِ”. هَذَا يُوَافِقُ الحَدِيثَ المُتَواتِرَ، رَوَاهُ هذا الصَّحَابِيُّ سُوَيدُ بنُ الشَّرِيد. ابنُ حِبَّانَ رَوَى هذَين الحَدِيثَيْن.

اليَوْمَ كَثِيرٌ مِنَ الَّذِين يَحْمِلُون الشَّهَاداتِ باسْمِ الشَّرِيعة جُهَّالٌ عَقِيدةً وأَحْكَامًا، أكثَرُهُم يَأْخُذُون الشَّهَادَاتِ بِالمَالِ.

كن ناشرا للخير

أضف تعليق