ثم إِن الحجاج يتوجهون بعد ذلك إلى عرفة وهو جبل معروف هناك، واستحسن بعض العلماء أن يقول في مسيره: “اللهمَّ إليكَ توجهتُ ولوجهك الكريمِ أردتُ، فاجعلْ ذنبي مغفورًا وحجي مبرورًا وارحمني ولا تخيبْني إنك على كل شىء قدير” ويكثر من التلبية.
قال الماوردي: يستحب أَن يسيروا على طريق ضب ويعودوا على طريق المأزمين اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وليكن عائدًا في طريق غير الذي صدر منها كالعيد.
واعلم أن عرفات ليست من الحرم.
– ووقت الوقوف من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر العيد.
ويستحب الجمع بين الليل والنهار، وشرط بعض الفقهاء ذلك. ويشترط أن يكون الحاج هناك في الوقت المذكور وليس شرطًا أن يكون هناك واقفًا بل لو دخل راكبًا أو نائمًا صح ذلك.
واجب الوقوف بعرفة شيئان:
1- كونه في وقته المحدود وهو من زوال الشمس يومَ عرفة إلى طلوع الفجر ليلة العيد، فمن حصل بعرفة لحظة لطيفة من هذا الوقت صح وقوفه وأدرك الحج، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لذلك قال عليه الصلاة والسلام: “الحج عرفة“.
2- كونه أهلا للعبادة وسواءٌ فيه الصبي والنائم وغيرهما، وأما المغمى عليه والسكران فلا يصح وقوفهما لأنهما ليسا من أهل العبادة.
وأما سنن الوقوف وءادابه فكثيرة:
منها أَن يغتسل بنَمِرة للوقوف، وأن لا يدخل عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين أي صلاة الظهر والعصر جمعًا.
وأَن يحرص على الوقوف بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف على جبل الرحمة الذي بوسط عرفات وترجيحهم له على غيره من أرض عرفات حتى ربما توهم كثير من جهلتهم أَنه لا يصح الوقوف إلا به فخطأ مخالف للسنة.
والأَفضل أن يكون مستقبلا للقبلة متطهرًا ساترًا عورته، فلو وقف محدثًا أو جنبًا أو حائضًا أو عليه نجاسة أو مكشوف العورة صح وقوفه وفاتته الفضيلة.
ويستحب أن يكون مفطرًا فلا يصوم، وأن يكون حاضر القلب فارغًا من الأمور الشاغلة عن الدعاء، وينبغي أن يقدم قضاء أشغاله قبل الزوال ويتفرغ بظاهره وباطنه عن جميع العلائق، وينبغي أن لا يقف في طرق القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم.
ويستحب أن يكثر من الدعاء والتهليل وقراءة القرءان فهذه وظيفة هذا الموضع المبارك ولا يقصّر في ذلك فهو معظم الحج ومخّه ومطلوبه، ويكثر من هذا الذكر والدعاء قائمًا وقاعدًا ويرفع يديه في الدعاء ولا يجاوز بهما رأسه، ولا يتكلف السجع في الدعاء، ولا بأس بالدعاء المسجوع إذا كان محفوظًا أو قاله دون تكلف ولا فكر فيه بل يجري على لسانه من غير تكلف لترتيبه وإعرابه وغير ذلك مما يشغل قلبه. ويستحب أن يخفض صوته بالدعاء، ويكره الإفراط في رفع الصوت، وينبغي أن يكثر من التضرع فيه والخشوع فيه وإظهار الضعف والافتقار والذلة، ويلحَّ في الدعاء ولا يستبطىء الإجابة بل يكون قوي الرجاء للإجابة، ويكرر كل دعاء ثلاثًا، ويفتتح دعاءه بالتحميد والتمجيد لله تعالى والتسبيح والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويختمه بمثل ذلك، وليكن متطهرًا متباعدًا عن الحرام والشبه في طعامه وشرابه ولباسه ومركوبه وغير ذلك مما معه فإن هذه من ءاداب جميع الدعوات وليختم دعاءه بآمين.
وليكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وأَفضل ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أفضلُ الدعاءِ يوم عرفة وأفضلُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كل شىءٍ قدير“، وفي كتاب الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف: “اللهمَّ لكَ الحمدُ كالذي تَقُولُ وخيرًا مما نَقُول، اللهمَّ لكَ صلاتي ونُسكي ومحيايَ ومماتي، وإليكَ مآبي ولكَ ربي تُراثي، اللهمَّ إني أعوذُ بك من عذابِ القبرِ ووسوسةِ الصدرِ وَشَتَاتِ الأَمر اللهمَّ إني أعوذ بك من شرّ ما تجىء به الريح“.
ويستحب أن يكثر من التلبية رافعًا بها صوته ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأنواع كلها، فتارة يدعو وتارة يهلّل وتارة يكبّر وتارةً يلبي وتارةً يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وتارةً يستغفر، ويدعو منفردًا ومع جماعة، وليدعُ لنفسه ووالديه وأقاربه وشيوخه وأَصحابه وأحبابه وأصدقائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين، وليحذر كل الحذر من التقصير في ذلك فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه بخلاف غيره، ويستحب الإِكثار من الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الاعتقاد بالقلب، وأن يكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تُسكب العبرات وتستقال العثرات وترجى الطلبات، وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله المخلصين وخواصه المقربين وهو أعظم مجامع الدنيا.
وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من يوم أكثر من أن يعتقَ الله تعالى فيه عبدًا من النار من يوم عرفة“.
وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أَدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا أن الرحمة تنزل فيه فيتجاوز عن الذنوب العظام“.
وعن الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه نظر إلى بكاء الناس بعرفة فقال: “أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل واحد فسألوه دانقًا أكان يردّهم؟ قيل: لا، قال: والله للمغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق“.
ومن الأدعية المختارة: “اللهمَّ ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار، اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ فاغفرْ لي مغفرةً من عندك وارحمني إنكَ أَنتَ الغفورُ الرحيمُ. اللهمَّ اغفرْ لي مغفرةً من عندكَ تُصلح بها شأني في الدَّارَين، وارحمني رحمةً منك أسعد بها في الدارَين، وتبْ عليَّ توبةً نصوحًا لا أنكُثها أبدًا، وأَلزمني سبيلَ الاستقامةِ لا أزيغُ عنها أبدًا، اللهمَّ انقلني من ذُلّ المعصيةِ إلى عزّ الطاعة، وأَغْنني بحلالِك عن حرامكَ وبطاعتِكَ عن معصيتِكَ وبفضلِكَ عمن سواك، ونوّر قلبي وقبري وأَعذني من الشَّرّ كلّهِ واجْمعْ ليَ الخيرَ كُلَّهُ. استودعتُكَ ديني وأمانتي وقلبي وبدَني وخواتيمَ عملي وجميعَ ما أنعمتَ به عليَّ وعلى جميعِ أحبائي والمسلمين أجمعين“.
وينبغي أن يبقى في الموقف حتى تغرب الشمس فيجمع في وقوفه بين الليل والنهار.
وليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل ينبغي أن يحترز عن الكلام المباح ما أَمكنه فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني مع أنه يخاف انجراره إلى كلام حرام من غيبة ونحوها.
وينبغي أن يحترز غاية الاحتراز عن احتقار من يراه رث الهيئة أو مقصرًا في شىء غير واجب ويحترز عن انتهار السائل ونحوه.
وليستكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “الحجّ عرفة” فليس معناه أن من حجّ فقد نال الحج بذلك فقط، إنما معناه أن مَن فاته الوقوف فاته الحج ومن أدركه أدرك الحج، والتنبيه إلى إدراكه لقصر وقته.
الأفضل للواقف أن لا يستظلّ بل يبرز للشمس إلا لعذر بأن كان يتضرر أو أن ينقص دعاؤه واجتهاده فهذا يستظلّ.
ويستحب التكبير من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن تصلي العصر من ءاخر أيام التشريق خلف الفرائض المؤداة والمقضية وخلف النوافل وخلف صلاة الجنازة للحجاج وغيرهم، للمسافر وللحاضر والمصلّي في جماعة ومنفرد، والصحيح والمريض، والتكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر. ويكرر هذا ما تيسّر له، وإن زاد زيادة على هذا فلا بأس.