العقيدة والتوحيد
العقيدة السنوسية – أم البراهين في العقائد
كتاب أم البراهين في العقائد لأبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي
العقيدة السنوسية
أم البراهين في العقائد
لأبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسني – 895 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
اعلم أن الحكم العقلي ينحصر في ثلاثة أقسام: الوجوب، والاستحالة، والجواز.
فالواجب ما لا يُتصور في العقل عدمه.
والمستحيل ما لا يُتصور في العقل وجوده.
والجائز ما يصح في العقل وجوده وعدمه.
ويجب على كل مكلف شرعا أن يعرف ما يجب في حق مولانا جل وعز وما يستحيل وما يجوز. وكذا يجب عليه أن يعرف مثلَ ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فمما يجب لمولانا عز وجل عشرون صفة وهي: الوجود، والقِدم، والبقاء، ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه تعالى بنفسه أي لا يفتقر إلى محلّ ولا مُخصص، والوحدانيه أي لا ثانيَ له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. فهذه ست صفات الأولى نفسية وهي الوجود والخمسة بعده سلبية.
ثم يجب له تعالى سبع صفات تسمى صفاتِ المعاني وهي: القدرة والإرادة المتعلقتان بجميع الممكنات، والعلم المتعلق بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات، والحياة وهي لا تتعلق بشيء، والسمع والبصر المتعلقان بجميع الموجودات، والكلام الذي ليس بحرف ولا صوت ويتعلق بما يتعلق به العلم من المتعلقات.
ثم سبع صفات تسمى صفات معنوية وهي ملازمة للسبع الأولى وهي كونه تعالى قادرا ومريدا وعالما وحيا وسميعا وبصيرا ومتكلما.
ومما يستحيل في حقه تعالى عشرون صفة وهي أضداد العشرين الأولى وهي: العدم، والحدوث، وطرؤ العدم، والمماثلة للحوادث بأن يكون جِرما أي تأخذ ذاته العليّ قدرا من الفراغ أو يكون عَرَضا يقوم بالجرم أو يكون في جهة للجرم أو له هو جهة أو يتقيد بمكان أو زمان أو تتصف ذاته العليّ بالحوادث أو يتصف بالصغر أو الكبر أو يتصف بالأغراض في الأفعال أو الأحكام.
وكذا يستحيل عليه تعالى أن لا يكون قائما بنفسه بأن يكون صفة يقوم بمحل أو يحتاج إلى مخصص.
وكذا يستحيل عليه تعالى أن لا يكون واحدا بأن يكون مركبا في ذاته أو يكون له مماثل في ذاته أو في صفاته، أو يكون معه في الوجود مؤثر في فعل من الأفعال.
وكذا يستحيل عليه تعالى العجز عن ممكن ما وإيجاد شيء من العالم مع كراهته لوجوده أي عدم إرادته له تعالى، أو مع الذهول أو الغفلة أو بالتعليل أو بالطبع.
وكذا يستحيل عليه تعالى الجهل وما في معناه بمعلوم ما، والموت والصمم والعَمى والبَكم. وأضداد الصفات المعنوية واضحة من هذه.
وأما الجائز في حقه تعالى ففعل كل ممكن أوتركه.
أما برهان وجوده تعالى فحدوثُ العالم لأنه لو لم يكن له مُحدِث بل حدث بنفسه لزم أن يكون أحدُ الأمرين المتساويين مساويا لصاحبه راجحا عليه بلا سبب وهو محال.
ودليل حدوث العالم ملازمته للأعراض الحادثة من حركة أو سكون أو غيرهما وملازم الحادث حادث.
ودليل حدوث الأعراض مشاهدة تغيرها من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم.
وأما برهان وجوب القِدم له تعالى فلأنه لو لم يكن قديما لكان حادثا فيفتقر إلى مُحدِث فيلزم الدورُ أوالتسلسل.
وأما برهان وجوب البقاء له تعالى فلأنه لو أمكن أن يلحقه العدم لانتفى عنه القِدم لكون وجوده حينئذ جائزا لا واجبا، والجائز لا يكون وجوده إلا حادثا كيف وقد سبق قريبا وجوب قدمه تعالى وبقائه.
وأما برهان وجوب مخالفته تعالى للحوادث فلأنه لو ماثل شيئا منها لكان حادثا مثلها وذلك محال لما عرفتَ قبلُ من وجوب قدمه تعالى وبقائه.
وأما برهان وجوب قيامه تعالى بنفسه فلأنه تعالى لو احتاج إلى محل لكان صفة والصفة لا تتصف بصفات المعاني ولا المعنوية، ومولانا جل وعز يجب اتصافه بهما فليس بصفة، ولو احتاج إلى مُخصص لكان حادثا كيف وقد قام البرهان على وجوب قدمه تعالى وبقائه.
وأما برهان وجوب الوحدانية له تعالى فلأنه لو لم يكن واحدا لزم أن لا يوجد شىء من العالم للزوم عجزه حينئذ.
وأما برهان وجوب اتصافه تعالى بالقدرة والإرادة والعلم والحياة فلأنه لو انتفى شىء منها لما وُجد شىء من الحوادث.
وأما برهان وجوب السمع له تعالى والبصر والكلام فالكتاب والسنة والإجماع، وأيضا لو لم يتصف بها لزم أن يتصف بأضدادها وهي نقائصُ والنقص عليه تعالى محال.
وأما برهان كون فعل الممكنات أو تركها جائزا في حقه تعالى فلأنه لو وجب عليه تعالى شىء منها عقلا أو استحال عقلا لانقلب الممكن واجبا أو مستحيلا وذلك لا يُعقل.
وأما الرسل عليهم الصلاة والسلام فيجب في حقهم الصدق والأمانة وتبليغ ما أمروا بتبليغه للخلق.
ويستحيل في حقهم عليهم الصلاة والسلام أضداد هذه الصفات وهي الكذب والخيانة بفعل شىء مما نهوا عنه نهيَ تحريم أو كراهة، وكتمانُ شيء مما أمروا بتبليغه للخلق، ويجوز في حقهم عليهم الصلاة والسلام ما هو من الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية كالمرض [المنفر] ونحوه.
أما برهان وجوب صدقهم عليهم الصلاة والسلام فلأنهم لو لم يصدقوا للزم الكذب في خبره تعالى لتصديقه تعالى لهم بالمعجزة النازلة منزلة قوله تعالى: صدق عبدي في كل ما يبلّغ عني.
وأما برهان وجوب الأمانة لهم عليهم الصلاة والسلام فلأنهم لو خانوا بفعل محرم أو مكروه لانقلب المحرم أو المكروه طاعة في حقهم لأن الله تعالى أمرنا بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم ولا يأمر الله تعالى بفعل محرم ولا مكروه، وهذا بعينه هو برهان وجوب الثالث.
وأما دليل جواز الأعراض البشرية عليهم فمشاهدة وقوعها بهم إما لتعظيم أجورهم، أو للتشريع، أو للتسلي عن الدنيا، أو للتنبيه لخسّة قدرها عند الله تعالى وعدمِ رضاه بها دارَ جزاء لأنبيائه وأوليائه باعتبار أحوالهم فيها.
ويجمعُ معاني هذه العقائد كلها قول لا إله إلا الله محمد رسول الله إذ معنى الألوهية استغناء الاله عن كل ما سواه وافتقارُ كل ما عداه إليه، فمعنى لا إله إلا الله لا مستغني عن كل ماسواه ومفتقر إليه كل ما عداه إلا الله تعالى. أما استغناؤه جل وعز عن كل ما سواه فهو يوجب له تعالى: الوجود والقِدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والتنزه عن النقائص، ويدخل في ذلك وجوب السمع له تعالى والبصر والكلام إذ لو لم تجب هذه الصفات لكان محتاجا إلى المُحدِث أو المحل أو من يدفع عنه النقائص، ويؤخذ منه تنزهه تعالى عن الأغراض في أفعاله وأحكامه وإلا لزم افتقاره إلى ما يُحصّل غرضه كيف وهو عز وجل الغني عن كل ما سواه، ويؤخذ منه أيضا أنه لا يجب عليه فعل شيء من الممكنات ولا تركه إذ لو وجب عليه تعالى شيء منها كالثواب مثلا لكان جل وعز مفتقرا إلى ذلك الشيء ليتكمّل بها غرضه إذ لا يجب في حقه تعالى إلا ماهو كمال له، كيف وهو عز وجل الغني عن كل ما سواه. وأما افتقار كل ما عداه إليه جل وعز فهو يوجب له تعالى الحياة وعموم القدرة والإرادة والعلم إذ لو انتفى شيء منها لما أمكن أن يوجد شىء من الحوادث فلا يفتقر إليه شيء كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه. ويوجب له تعالى أيضا الوحدانية إذ لو كان معه ثان في الألوهية لما افتقر إليه شيء للزوم عجزهما حينئذ كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه.
ويؤخذ منه أيضا حدوث العالم بأسره إذ لو كان شيء منه قديما لكان ذلك الشيء مستغنيا عن الله تعالى كيف وهو الذي يجب أن يفتقر إليه كل ما سواه، ويؤخذ منه أيضا أنّه لا تأثير لشيء من الكائنات في أثر ما وإلا لزم أن يستغني ذلك الأثرعن مولانا عز وجل كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه عموما وعلى كل حال، هذا إن قدّرت أنّ شيئا من الكائنات يؤثر بطبعه. وأما إن قدّرته مؤثرا بقوة جعلها الله فيه كما يزعم كثير من الجهلة فذلك محال أيضا لأنه يصير حينئذ مولانا عز وجل مفتقرا في إيجاد بعض الأفعال إلى واسطة وذلك باطل لما عرفت من وجوب استغنائه عز وجل عن كل ما سواه.
فقد بان لك تضمنُ قول لا إله إلا الله للأقسام الثلاثة التي يجب على المكلف معرفتها في حق مولانا جل وعز وهي ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز.
وأما قولنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل فيه الإيمان بسائر الأنبياء والملائكة والكتب السماوية واليوم الآخر لأنه عليه الصلاة والسلام جاء بتصديق جميعِ ذلك كله، ويؤخذ منه وجوب صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام واستحالة الكذب عليهم وإلا لم يكونوا رسلا أمناءَ لمولانا العالم بالخفيات جل وعز، واستحالة فعل المنهيات كلها لأنهم أُرسلوا ليعلموا الناس بأقوالهم وأفعالهم وسكوتهم فيلزم أن لا يكون في جميعها مخالفة لأمر مولانا عز وجل الذي اختارهم على جميع خلقه وأمنهم على سر وحيه، ويؤخذ منه جواز الأعراض البشرية عليهم إذ ذاك لا يقدح في رسالتهم وعلو منزلتهم عند الله تعالى بل ذاك مما يزيد فيها.
فقد بان لك تضمنُ كلمتي الشهادة مع قلة حروفها لجميع ما يجب على المكلف معرفته من عقائدِ الإيمان في حقه تعالى وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام،
ولعلها لاختصارها مع اشتمالها على ما ذكرناه جعلها الشرع ترجمة على ما في القلب من الإسلام
ولم يقبل من أحد الإيمان إلا بها،
فعلى العاقل أن يُكثر من ذكرها مستحضرا لما احتوت عليه من عقائد الايمان
حتى تمتزج مع معناها بلحمه ودمه
فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب إن شاء الله تعالى ما لا يدخل تحت حصر
وبالله التوفيق لا ربّ غيره ولا معبود [بحق] سواه
نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وأحبتنا عند الموت ناطقين بكلمة الشهادة عالمين بها،
وصلى الله على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون،
ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.