قال المؤلف رحمه الله: تَفْسِيرُ الآيَةِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه/5].
يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقْرارِ والجلُوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكْفُر منْ يعتَقِدُ ذَلِكَ.
الشرح: الذي يعتقدُ أن معنى قولِ الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) جَلَسَ أو استقرَّ أو حاذَى العرشَ يكفُرُ.
قال المؤلف رحمه الله: فَيَجِبُ تَركُ الحَمْلِ علَى الظّاهِر بَلْ يُحمَلُ على مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ في العُقُولِ فتُحمَلُ لفْظَةُ الاسْتِواءِ علَى القَهْرِ ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقَالُ اسْتَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذَا احْتَوَى علَى مَقَالِيدِ المُلْكِ واسْتَعْلَى علَى الرّقَابِ.
الشرح: ءايةُ الاستواءِ تُحمَلُ على القهرِ، أو يقالُ استوى استواءً يليقُ به، أو يقالُ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) بلا كيفٍ، أما من أرادَ التّأويلَ التّفصيليَّ فيقولُ قَهَرَ ويجوزُ أن يقولَ استولى.
ومعنى قول المؤلف: “واستعلى على الرّقَابِ” أي استولى على الأشخاصِ أي على أهلِ البلدِ.
ومعنى قَهرِ الله للعرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ أن العرشَ تحت تصرُّفِ الله هو خلقَهُ وهو يحفظهُ، يحفظُ عليهِ وجودهُ ولولا حفظُ الله تعالى له لهوَى إلى الأسفلِ فتحطَّمَ، فالله تعالى هو أوجدَهُ ثم هو حفظهُ وأبقاهُ، هذا معنى قَهَرَ العرشَ، هو سبحانَهُ قاهرُ العالمِ كلّه، هذه الشّمسُ والقمرُ والنّجومُ لولا أن الله يحفظُها على هذا النّظامِ الذي هي قائمةٌ عليه لكانت تهاوَت وحطَّمَ بعضُها بعضًا واختلَّ نظامُ العالمِ.
والإنسانُ قهرَهُ الله بالموتِ، أيُّ مَلِكٍ وأيُّ إنسانٍ رُزِقَ عمرًا طويلًا لا يملكُ لنفسِهِ أن يحميَ نفسَهُ من الموتِ فلا بدَّ أن يموتَ.
وليُعلَم أن الاستواءَ في لغةِ العربِ له خمسة عشرَ معنًى كما قالَ الحافظُ أبو بكر بن العربيّ ومن معانيهِ: الاستقرارُ والتَّمامُ والاعتدَالُ والاستعلاءُ والعلوُّ والاستيلاءُ وغير ذلك، ثم هذه المعاني بعضُها تليقُ بالله وبعضُها لا تليقُ بالله. فما كان من صفات الأجسام فلا يليق بالله.
يقولُ حسن البنّا في كتابِ العقائدِ الإسلاميَّةِ: “السَّلفُ والخلفُ ليس بينهم خلافٌ على أنه لا يجوزُ حملُ ءايةِ الاستواءِ على المعنى المتبادرِ” وهذا الكلام من جواهِرِ العلمِ.
فإن قالَ الوهَّابيُّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) “على” أي فوق، يقالُ لهم: فماذا تقولونَ في قولِهِ تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [سورة المجادلة/10] هل يفهمونَ من هذه الآية أن العبادَ فوق الله؟ فإن “على” تأتي لعلوّ القدرِ وللعلوّ الحِسّيّ، وقد قالَ الله تعالى مُخبرًا عن فرعون أنه قالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [سورة النازعات/24] أرادَ علوَّ القهرِ بقولِهِ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (24).
وقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في تأويلاتِهِ في قولِهِ تعالى ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [سورة الأعراف/54] يقولُ: “أي وقد استوى”، ومعناهُ أنَّ الله كانَ مستويًا على العرشِ قبلَ وجودِ السمواتِ والأرضِ، وبعضُ الناسِ يتوهَّمُ من كلمةِ “ثم” أن الله استوى على العرشِ بعد أن لم يكن يظنُّونَ أن ثُمَّ دائمًا للتّأخُّر، ويصحُّ في اللُّغة أن يقالَ أنا أعطيتُكَ يوم كذا كذا وكذا ثم إني أعطيتُكَ قبلَ ذلك كذا وكذا، فإن “ثم” ليست دائمًا للتَّأخُّرِ في الزَّمنِ، أحيانًا تأتي لذلكَ وأحيانًا تأتي لغيرِ ذلكَ، قال الشَّاعر:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ***** ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
ويُروى عن أمّ سلمةَ إحدى زوجاتِ الرّسولِ ويروى عن سفيانَ بنِ عيينةَ ويروى عن مالكِ بن أنسٍ أنهم فَسَّروا استواءَ الله على عرشِهِ بقولهم: الاستواءُ معلومٌ ولا يقالُ كيفٌ والكيفُ غيرُ معقولٍ. ومعنى قولهم: “الاستواءُ معلومٌ” معناهُ معلومٌ ورودُهُ في القرءانِ أي بأنه مستوٍ على عرشِهِ استواءً يليقُ به، ومعنى: “والكيفُ غير معقولٍ” أي الشَّكلُ والهيئةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا غير معقولٍ أي لا يقبلُهُ العقلُ ولا تجوزُ على الله لأنها من صفات الأجسامِ، وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن الاستواءِ فقال: “استوى كما أخبَرَ لا كما يَخطُرُ للبشرِ”.
وقد ثبَت عن الإمامِ مالكٍ بإسنادٍ قويّ جيدٍ أنه قال في استواء الله: “استوى كما وَصَفَ نفسَهُ ولا يقالُ كيف وكيف عنه مرفوعٌ”، ولا يصحُّ عن مالكٍ ولا عن غيرِهِ من السلفِ أنه قال الاستواءُ معلومٌ والكيفيةُ مجهولةٌ فهذه العبارةُ لم تَثبُت من حيثُ الإسنادُ عن أحدٍ من السلفِ، وهي موهِمَةٌ معنًى فاسدًا وهو أن استواءَ الله على العرشِ هو استواءٌ له هيئةٌ وشكلٌ لكن نحنُ لا نعلمُهُ وهذا خلافُ مرادِ السلفِ بقولهم: “والكيفُ غيرُ معقول”. وهذه الكلمةُ قالها بعض الأشاعرة مع تنزيهِهِم لله عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ والجهةِ وهي كثيرةُ الدورانِ على ألسنةِ المشبهةِ والوهابيةِ لأنهم يعتقدونَ أن المرادَ بالاستواءِ الجلوسُ والاستقرارُ أي عند أغلبِهم وعندَ بعضِهم المحاذاةُ فوق العرش من غير مماسة، ولا يدرونَ أن هذا هو الكيفُ المنفيُّ عن الله عند السلفِ، ولا يُغتَرُّ بوجودِ هذه العبارةِ في كتابِ إحياء علومِ الدينِ ونحوهِ ولا يريدُ مؤلفُهُ الغزاليُّ ما تفهمُهُ المشبهةُ لأنه مُصَرّحٌ في كتبِهِ بأنَّ الله منزهٌ عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ وعن الحَدّ والمقدارِ لأن الحدَّ والمقدارَ من صفاتِ المخلوقِ قال الله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سورة الرعد/8]. فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا. وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة الاستواء معلوم والكيفية مجهولة غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابيّ وغيره أن الاستواء كيفٌ لكن لا نعلمه مجهول عندنا. وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق فالوهابية تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز. والعجب منهم كيف يقولون إنّ الاستواء على العرش حسيّ ثم يصفونه بالكون مجهولا. ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر.
فإن قيلَ: لماذا قالَ الله تعالى بأنه استوى على العرشِ على حَسَبِ تفسيرِكم بمعنى قَهَر وهو قَاهرُ كلّ شىءٍ؟ نقول لهم: أليسَ قال: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [سورة التوبة] مع أنه ربُّ كلّ شىءٍ؟!
قال المؤلف رحمه الله: كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ ***** مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
الشرح: “مهراق” تُلفظ القافُ المكسورةُ وكأنَّ في ءاخرِها ياءً ولو لم تكن الياءُ مكتوبةً، والمعنى أنه سَيطَرَ على العراقِ ومَلَكَهَا من غير حَربٍ وإراقَةِ دِمَاءٍ.
قال المؤلف رحمه الله: وفَائِدَةُ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ: “إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ”. رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة.
الشرح: إذا قلنا: الله تعالى قَهَرَ العرشَ معناهُ قَهَرَ كلَّ شىءٍ وإنما خصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجمًا وهو محدود لا يعلم حده إلا الله. وبئسَ معتقدُ ابن تيمية فإنه قال: الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو اهـ فيقال لمن يقول قوله هذا قد قلت الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو فقد شبهته بالعرش فماذا يفيد قولكم في الله إن له حدًّا لكن لا يعلم حده إلا هو.
فإن قيلَ: كيفَ تقولونَ خَلقَهُ إظهارًا لقدرتِهِ ونحنُ لا نَراهُ؟ نقولُ: الملائكةُ الحافُّونَ حولَهُ يرونَهُ والملائكةُ لما ينظرونَ إلى عِظَمِ العرشِ يزدادونَ خوفًا ويزدادونَ عِلمًا بكمالِ قدرةِ الله، لهذا خَلَقَ الله العرشَ. وقولُ سيدنا علي الذي مرّ ذكره رواهُ الإمام أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابه التبصرة.
قال المؤلف رحمه الله: أَوْ يُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارِ.
الشرح: مَن شَاءَ يقولُ: استوى استواءً يليقُ بهِ من غير أن يُفَسّرَهُ بالقهرِ أو نحوِه فيكونُ أوَّل تأويلًا إجماليًّا، ومن شَاءَ أوَّلَ تأويلًا تفصيليًّا فقال: استوى أي قَهَرَ.
قال المؤلف رحمه الله: واعْلَم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارَ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق.
الشرح: هؤلاءِ هم الوهّابيّةُ وقَبلهم أناسٌ كانوا يعتقدونَ ذلكَ ففسَّروا الآيةَ بالجلوسِ فقالوا: الله تعالى قاعدٌ على العرشِ، هؤلاءِ يجبُ الحَذَرُ منهم.
قال المؤلف رحمه الله: ومُدَّعِينَ أَنَّه لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ، وحُجَّتُهم دَاحِضَةٌ.
الشرح: يقولون: كيفَ يكونُ موجودٌ بلا مكانٍ، والموجودُ لا بدَّ له من مكانٍ، الله موجود إذًا له مكانٌ، وحجَّتُهم هذهِ داحضةٌ باطلةٌ، لأنهُ ليسَ من شرطِ الوجودِ التحيزُ في المكانِ أليسَ الله كان موجودًا قبل المكانِ والزمانِ وكلّ ما سواهُ بشهادةِ حديثِ: “كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ” فالمكانُ غيرُ الله والجهاتُ والحجمُ غيرُ الله فإذًا صحَّ وجودُهُ تعالى شرعًا وعقلًا قبلَ المكانِ والجهاتِ بلا مكانٍ ولا جهةٍ، فكيفَ يستحيلُ على زعم هؤلاءِ وجودُهُ تعالى بلا مكانٍ بعد خلقِ المكانِ والجهاتِ. ومصيبةُ هؤلاءِ أنهم قاسوا الخالقَ على المخلوقِ قالوا: كما لا يُعقَلُ وجودُ إنسانٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلكَ من الأجسامِ بلا مكانٍ يستحيلُ وجودُ الله بلا مكانٍ فَهَلَكوا.
قال المؤلف رحمه الله: ومُدَّعِيْنَ أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ إلى المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانفعَالٍ.
الشرح: المحاذاةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا الكيفُ الذي نفاهُ السَّلفُ الذين قالوا في قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) استوى بلا كيفٍ، ومرادُهُم بقولهم بلا كيفٍ ليسَ استواءَ الجلوسِ والاستقرارِ والمحاذاةِ. المحاذاةُ معناهُ كونُ الشّىءِ في مقابلِ شىءٍ، فنحنُ حينَ نكونُ تحتَ سطحٍ فنحنُ في محاذاتِهِ، وحينَ نكونُ في الفضاءِ نكونُ في محاذاةِ السماءِ، والسماءُ الأولى تحاذي السماءَ التي فوقَها، والكرسيُّ يحاذي العرشَ، والعرش يحاذي الكرسيّ من تحت، والله تَعَالَى لا يجوزُ عليهِ أن يكونَ هكذا على العرشِ محاذيًا لهُ فلا يجوزُ أن يكونَ جالسًا عليهِ ولا أن يكونَ مضطجِعًا عليهِ ولا أن يكونَ في محاذاتِهِ، إذ المحاذي إما أن يكونَ مساويًا للمحاذَى وإما أن يكونَ أكبر منهُ وإما أن يكونَ أصغر منهُ، وكلُّ هذا لا يصحُّ إلا للشّىء الذي له جِرمٌ ومساحةٌ والذي له جِرمٌ ومساحةٌ محتاجٌ إلى من رَكَّبَهُ، والله منزَّهٌ عن ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: قالَ القُشَيْرِيُّ: “والذي يَدْحَضُ شُبهَهُم أَنْ يُقالَ لَهُم: قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ العَالَمَ أو المَكَانَ هَلْ كَانَ موجودًا أمْ لا؟ الشرح: من أرادَ أن يَكسِرَ هؤلاءِ المشبهةَ يقولُ لهم: هل الله كانَ موجودًا قبلَ المكانِ أم لا؟ فإن قالوا: نعم كان موجودًا يقال لهم: إذًا وجودُهُ بلا مكانٍ صحيحٌ، لأنَّكم اعترفتُم أنهُ قبلَ المكانِ كانَ موجودًا بلا مكانٍ، نحنُ نقولُ: والآنَ هو موجودٌ بلا مكانٍ.
قال المؤلف رحمه الله: فَمِنْ ضَرُورَةِ العَقْلِ أنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُه لَوْ صَحَّ قَولُه لا يُعْلَمُ مَوجُودٌ إلا في مَكَانٍ أحَدُ أمْرَينِ: إمَّا أنْ يَقُولَ: المكانُ والعَرْشُ والعَالَمُ قَدِيمٌ، وإمَّا أَنْ يَقُولَ: الرَّبُّ مُحْدَثٌ، وهذا مآلُ الجَهَلةِ الحشوِيّةِ، لَيْسَ القَدِيمُ بالمُحْدَثِ والمُحْدَثُ بالقَدِيمِ” اهـ.
الشرح: هذا نهايةُ كلام الحشْويّةِ، وهم الذين يثبتونَ لله المكانَ، يقالُ لهم: ليسَ القديمُ بالمحدَثِ ولا المحدَثُ بالقديمِ، أي القديمُ لا يكونُ محدَثًا والمحدَثُ لا يكونُ قديمًا، والمحدَثُ هو المخلوقُ أي الذي لم يكن موجودًا ثم صارَ موجودًا وهو العالَمُ. والحشويَّةُ بتسكينِ الشينِ ويقالُ بفتحهَا.
وقَالَ القشيريّ أَيْضًا في التَّذكِرَةِ الشَّرقِيَّةِ: “فَإنْ قِيلَ ألَيْسَ الله يَقُولُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه/5] فَيَجبُ الأَخْذُ بظَاهِرهِ، قُلْنَا: الله يَقُولُ أَيْضًا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [سورة الحديد/4]، ويقولُ: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ [سورة فصلت/54] فَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآياتِ حَتَّى يَكُونَ عَلى العَرْشِ وعِنْدَنا ومَعَنا ومُحِيطًا بالعَالَمِ مُحْدقًا بهِ بالذَّاتِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
الشرح: إن قالت المشبهةُ المجسمةُ لنا: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) نأخذُ بظاهرِهِ فنقولُ إنهُ هناكَ ونُثبِتُ أنهُ ساكنٌ على العرشِ قاعدٌ عليه أو مستقرٌّ، قلنا لهم: الله تعالى قالَ أيضًا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ (4) وقالَ: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ (54) فنحنُ إذَا على زَعمِكُم أخذنَا بظاهرِ هاتينِ الآيتينِ كما أنتم أخذتُم بظاهرِ استوَى فقلتم ساكنٌ فوقُ، فيكونُ الله تعالى على كلامِكُم معَنَا وعلى العرشِ ومحيطًا بنا وبالعالمِ هكذا كالدَّائرَةِ فهل هذا يصحُّ عندكم؟ فإن حملتُم أنتم تلكَ على ظاهِرِهَا ونحنُ حملنَا هاتين الآيتينِ على ظاهِرِهِمَا، الله على زَعمِكُم يكونُ بذاتِهِ فوقَ العرشِ ويكونُ بذاتِهِ مع كلّ شخصٍ في الأرضِ ويكونُ كالدّائرةِ المحيطةِ بما فيها فماذا تقولونَ؟ فليسَ لهم جوابٌ، فهل يصحُّ في العقلِ أن يكونَ الله بذاتِهِ فوق، وهو بذاتِهِ مع كلّ شخصٍ لأن ظاهرَ قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ (4) أنه مع هذا بذاتِهِ ومع هذا ومع هذا، وظاهرَ قول الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ (54) أن يكونَ هو كالدّائرةِ تحيطُ بما فيها بما في ضِمنِهَا، فهذا لا يُعقَلُ أي أن يكونَ الشَّىءُ الواحِدُ في أماكنَ متعدّدةٍ بذاتٍ واحدٍ، هذا معنى قولِ أبي نصرٍ القشيريّ رحمَهُ الله وهو حجةٌ مفحمَةٌ قاطعَةٌ.
قال القشيريّ رحمه الله: والوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ بذَاتِهِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلّ مَكَانٍ.
الشرح: الشَّىءُ الواحِدُ بعينِهِ لا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ في كلّ مكانٍ، أما ما يقولهُ الصُّوفيَّةُ: إن الوليَّ يكونُ له شبحٌ مثاليٌّ أي غير الجسمِ الأصليّ فلا يحيلُهُ العقلُ لأنهم لا يقولونَ الذّاتُ الذي هنا بعينِهِ هناكَ يكونُ، إنما يكونُ مثالُهُ.
قال القشيريّ رحمه الله: قَالُوا: قَولُه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ (4) يَعْني بالعِلْم، و:﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ (54) إحَاطَةَ العِلْمِ، قُلْنَا: وقَوْلُه: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5) قَهَرَ وحَفِظَ وأَبْقَى”، انتهى.
قال المؤلف رحمه الله: يعني أَنَّهُم قَد أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوها علَى ظَواهِرِهَا فَكَيفَ يَعِيْبونَ علَى غَيْرِهم تَأْوِيلَ ءايةِ الاستِواءِ بالقَهْرِ، فَما هَذا التّحَكُّمُ؟! الشرح: إن قالوا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ (4) أي بعلمِهِ أي عالمٌ بنا أينَما كُنَّا وليسَ معناهُ على الظَّاهِرِ أنهُ مَع هذا ومَع هذا، وإن قالوا الإحاطةُ إحاطةُ العلمِ، نقولُ لهم: نحنُ كذلكَ نُؤوّلُ استَوى بِقَهَرَ كما أنتم أوَّلتم هاتينِ الآيتينِ فما هذا التحكُّمُ أي ما هذه الدَّعوَى التي بلا دليلٍ.
ثم قال القشيري رحمه الله: “ولَو أشعرَ مَا قُلنا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ لأَشْعَر قَولُه: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سورة الأنعام/18] بذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ كانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ العِبَادِ هَيْهاتَ إذْ لَم يَكُنْ للعِبَادِ وجُودٌ قَبْل خَلْقِه إيَّاهُمْ بَلْ لَو كَانَ الأمْرُ على ما توهّمَهُ الجَهَلَةُ مِنْ أنّهُ اسْتِواءٌ بالذّاتِ لأَشْعَرَ ذَلِكَ بالتَّغَيُّرِ واعْوِجَاجٍ سَابقٍ علَى وَقْتِ الاسْتِوَاءِ فإِنَّ البَارِئ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ العَرْشِ، ومَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: العَرْشُ بالرَّبّ اسْتَوى أمْثَلُ مِنْ قَوْلِ من يَقُولُ الرَّبُّ بالعَرْشِ استَوى، فَالرَّبُّ إذًا مَوْصُوفٌ بالعُلُوّ وفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ والعَظَمَةِ ومُنزَّهٌ عَنِ الكَوْنِ في المَكَانِ وعَنِ المُحَاذَاةِ” اهـ.
الشرح: المحاذاةُ المقابلةُ، والله تعالى منزَّهٌ عن أن يكونَ في مقابلةِ العرش، فإن قالوا: قَهَرَ يدلُّ على أنهُ كان مُغَالبًا، أي أنهُ كانَ يتشاجرُ ويتغالبُ مع غيرِهِ فلا يصحُّ هذا التّأويلُ، نقول لهم: هوَ تباركَ وتعالى قالَ: ﴿وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [سورة الرعد/16] إذًا يلزم على قولكم هنا أن يكون مغالبًا ثم غلب فهل تقولونَ بذلكَ؟ قال القشيري رحمه الله: “وقَدْ نَبغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاع لَوْلا اسْتِنْزَالُهم للعَوامّ بمَا يَقْرُبُ من أَفْهامِهِم ويُتَصَورُ في أوْهَامِهِم لأَجْلَلتُ هذَا الكِتَابَ عن تلطيخِهِ بذِكْرِهم، يَقولونَ: نَحنُ نأْخُذُ بالظَّاهِرِ ونَحْملُ الآياتِ المُوهِمَةَ تَشْبِيهًا والأخْبارَ المُوهِمَةَ حَدًّا وعُضْوًا علَى الظَّاهِر ولا يَجُوزُ أنْ نُطَرّقَ التَّأْويلَ إلى شَىءٍ مِن ذَلكَ، ويَتمَسَّكُونَ على زَعْمِهم بقَولِ الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ﴾ [سورة ءال عمران/7]. وهَؤلاءِ والذِي أَرْوَاحُنا بِيَدِهِ أَضَرُّ علَى الإسْلامِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى والمَجُوسِ وعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لأَنَّ ضَلالاتِ الكُفَّارِ ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُها المُسْلِمُونَ، وهَؤلاءِ أَتَوا الدّينَ والعَوَامَّ مِنْ طَرِيْقٍ يَغْتَرُّ بِه المُستَضْعَفُونَ فَأَوْحَوا إلى أَوْليَائِهمْ بهَذِهِ البِدَعِ وأَحَلُّوا في قُلُوبِهم وَصْفَ المَعْبُودِ سُبْحَانَه بالأَعْضاءِ والجوَارِحِ والرُّكوبِ والنُّزولِ والاتّكاءِ والاسْتِلْقاءِ والاسْتِوَاءِ بالذّاتِ وَالتّرَدُّدِ في الجِهَاتِ.
الشرح: التَّردُّدُ أي التَّنقُّلُ في الجهاتِ، والرَّعَاعُ أي السُّفَهَاءُ، وهؤلاءِ أوهموا الناسَ أن الله تعالى لهُ حركةٌ وتردُّدٌ في الجهاتِ وأن له أعضاء لأنهم يُورِدون هذه الآياتِ ويقولونَ نحنُ نأخذُ بالظَّاهرِ وهؤلاءِ ضَرَرُهم كبيرٌ.
قال القشيري رحمه الله: “فَمن أَصْغَى إِلى ظَاهِرِهم يُبَادِرُ بِوَهْمِه إِلى تَخيُّلِ المَحْسُوسَاتِ فَاعْتَقَدَ الفَضَائِحَ فَسَالَ بِه السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِي”. اهـ.
الشرح: المحسوسات معناه الأشياء التي نراها بأعيننا من المخلوقات، فهؤلاء المشبهة يوهمون الناس أن الله مثل ذلك، مثل هذه الأشياء البشرِ والضَّوء ونحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: فَتَبيَّنَ أنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: “إِنَّ التَّأْوِيلَ غَيرُ جَائِزٍ” خَبْطٌ وَجَهْلٌ وهُوَ مَحْجُوجٌ بقَولِه صلى الله عليه وسلم لابنِ عَبّاسٍ: “اللّهُمَّ عَلّمْهُ الحِكْمَة وتَأْوِيلَ الكِتَابِ” رواهُ البُخَارِيُّ وابنُ مَاجَه وغَيْرُهُما بألْفَاظٍ مُتَعَدّدَةٍ.
الشرح: قولُهُ عليهِ الصّلاةُ والسَّلامُ لعبدِ الله بن عبّاسٍ: “اللهمَّ عَلّمهُ الحِكمَةَ والتَّأويلَ” أي أن الرسولَ دَعَا له أن يعلمهُ الله تأويلَ القرءانِ والحديثِ، هذا الحديثُ يَكسِرهُم فيقالُ لهم: كيفَ تُنكِرونَ التَّأويلَ والرسولُ دَعَا لابن عبّاسٍ بالتّأويلِ فلو كانَ غير جائزٍ فيكونُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على زَعمِكُم دعا بدعاءٍ غير جائزٍ.
قال المؤلف رحمه الله: قَالَ الحَافِظُ ابنُ الجَوْزيّ في كِتَابِهِ “المَجَالِسُ”: “ولا شَكَّ أنَّ الله اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرّسُولِ هذا” اهـ، وشَدَّدَ النَّكِيرَ والتَّشْنِيعَ علَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ القَوْلَ في ذَلِكَ، فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أرَادَ زِيَادَةَ التّأَكُّدِ.
الشرح: الحافظُ ابن الجوزيّ الحنبليّ تَكلَّمَ بهذا الأمرِ بقوَّةٍ فمَن شَاءَ أن يَعرِفَ هذا الموضوع أكثر فَليُطَالِع كُتُبَ ابن الجوزيّ ككتابه الباز الأشهب، وكتابه دفع شبه التشبيه بأكفّ التنزيه، وكتابه أخبار الصفات فإن فيها تشنيعًا كبيرًا على الحنابلة الذين يجسمون الله وينسبون التجسيم لأحمد وهو برىء من ذلك. ويكفي في تفنيد ذلك ما قاله صاحب الخصال من الحنابلة قال أحمد: من قال الله جسم لا كالأجسام كفر اهـ. فهم كاذبون في انتسابهم لأحمد.
قال المؤلف رحمه الله: ومَعْنَى قَوْلِه تَعَالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [سورة النحل/50] فَوْقِيّةُ القَهْرِ دُونَ المكانِ والجِهَةِ أي لَيْسَ فوقيةَ المَكانِ والجهَةِ.
ومَعْنى قَولِه تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [سورة الفجر/22] لَيْسَ مَجِيءَ الحَرَكَةِ والانْتِقَالِ والزَّوَالِ وإفْراغِ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءاخَرَ بالنسبة إلى الله ومَن اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ.
الشرح: معناهُ بالنسبةِ إلى الملائكَةِ المجيءُ المحسوسُ الذي هو حركةٌ وانتقالٌ، فهذهِ الآيةُ فيها استعمالُ اللفظِ الواحِدِ لمَعنَيينِ مُختَلِفَينِ.
قال المؤلف رحمه الله: فالله تَعَالى خَلَقَ الحَرَكَةَ والسُّكُونَ وكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الحَوَادِثِ فلا يُوْصَفُ الله تعَالى بالحَرَكَةِ وَلا بالسُّكُونِ، والمَعْنيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَاء رَبُّكَ﴾ (22) جَاءَ أمْرُ رَبّكَ أيْ أثَرٌ مِنْ ءاثَارِ قُدْرَتِه. وقَدْ ثَبَتَ عَن الإمَامِ أحْمَدَ أنَّهُ قَالَ في قَولِه تَعَالَى ﴿وَجَاء رَبُّكَ﴾ (22) إنمَا جَاءَتْ قُدْرَتُه، رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في مَنَاقِبِ أحْمدَ وقَدْ مَرَّ ذكره.
الشرح: تقدم تفصيل ذلكَ فيما قَدَّمنا مِن هذا الشرحِ.
من كتاب: كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
لمؤلفه: خادم علم الحديث الشريف الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي غفر الله له ولوالديه